مَنهَجٌ رَبَّانِيٌّ كَامِلٌ، لَيسَ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، وَلا لِلنِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ، وَلَكِنَّهُ لِلجَمِيعِ، لِلإِنسَانِ مِن حَيثُ هُوَ إِنسَانٌ لَهُ مَا لَهُ وَعَلَيهِ مَا عَلَيهِ، وَلِلمُجتَمَعِ المُسلِمِ بِمَا يُحَقِّقُ صَلاحَهُ وَيَجلِبُ لَهُ الخَيرَ وَالحَيَاةَ...
أَمَّا بَعدُ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[البقرة: 21].
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: لَمَّا خَلَقَ اللهُ -تَعَالى- الخَلقَ جَعَلَهُم زَوجَينِ ذَكَرًا وَأُنثَى، قَالَ -سُبحَانَهُ-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى)[الحجرات: 13].
وَقَد خَصَّ -تَعَالى-كُلَّ جِنسٍ بِخَصَائِصَ جِسمِيَّةٍ وَعَقلِيَّةٍ وَنَفسِيَّةٍ وَاجتِمَاعِيَّةٍ، هِيَ كَمَالٌ لِلمُهِمَّةِ الَّتِي كُلِّفَ بِهَا؛ وَلِذَا قَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى)[آل عمران: 36]، وَلأَنَّ لِكُلٍّ مِنهُمَا في هَذِهِ الحَيَاةِ وَظِيفَتَهُ وَمَكَانَتَهُ، وَاستِعدَادَاتِهِ وَمَوَاهِبَهُ، وَوَاجِبَهُ وَنَصِيبَهُ؛ فَقَد نُهِيَ كُلٌّ مِنهُمَا عَن تَمَنِّي مَا فُضِّلَ بِهِ الآخَرُ، وَوُجِّهَا إِلى سُؤَالِ اللهِ مِن فَضلِهِ مُبَاشَرَةً، بَدَلاً مِن إِضَاعَةِ النَّفسِ حَسَرَاتٍ في التَّطَلُّعِ إِلى ذَاكَ التَّفَاوُتِ وَالاختِلافِ، الَّذِي جَاءَ عَن حِكمَةٍ رَبَّانِيَّةٍ عَظِيمَةٍ، قَد يَعلَمُونَهَا أَو يَعلَمُونَ أَجزَاءً مِنهَا، وَقَد لا تَصِلُ إِلَيهَا عُقُولُهُمُ القَاصِرَةُ وَلا تَبلُغُهَا أَفهَامُهُمُ المَحصُورَةُ، لَكِنَّهُم إِن رَضُوا بِذَاكَ التَّفَاوُتِ وَالاختِلافِ الفِطرِيِّ، وَفَهِمَ كُلٌّ مِنهُمُ الآخَرَ وَعَاشُوا مُتَعَاوِنِينَ، سَارَت حَيَاتُهُم سَعِيدَةً هَادِئَةً، وَإِلاَّ وَقَعُوا في مَغَبَّةِ سُوءِ الظَّنِّ بِاللهِ وَالشَّكِّ في كَمَالِ عَدلِهِ، وَمُنَازَعَتِهِ في حُكمِهِ وَأَمرِهِ، بِتَطَلُّعِ كُلِّ جِنسٍ إِلى مَا خُصَّ بِهِ غَيرُهُ؛ فَتَبَادَلُوا بِذَلِكَ الحِقدَ وَالحَسَدَ، وَحَمَلَ كُلٌّ مِنهُم عَلَى الآخَرِ، وَامتَلأَت قُلُوبُهُم بِالغَيظِ الدَّاعِي إِلى الانتِقَامِ وَالانتِصَارِ لِلنَّفسِ!
نَعَم -أَيُّهَا الإِخوَةُ- إِنَّ تَنظِيمَ العِلاقَةِ بَينَ شَطرَيِ النَّفسِ البَشَرِيَّةِ عَلَى مَا قَسَمَهُ اللهُ، وَإِقَامَتَهَا عَلَى الرِّضَا وَالتَّكَامُلِ وَالتَّعَاوُنِ، وَإِشَاعَةَ هَذَا الرِّضَا في البُيُوتِ وَفي المُجتَمَعِ، إِلى جَانِبِ مَعرِفَةِ كُلِّ جِنسٍ بِوَظَائِفِهِ وَاقتِصَارِهِ عَلَى مَهَامِّهِ، وَعَدَمِ تَجَاوُزِهِ عَلَى الجِنسِ الآخَرِ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ سَبِيلُ الحَيَاةِ السَّعِيدَةِ وَالعِيشَةِ الرَّغِيدَةِ، قَالَ -سُبحَانَهُ -: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا)[النساء:32].
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: مَنهَجٌ رَبَّانِيٌّ كَامِلٌ، لَيسَ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، وَلا لِلنِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ، وَلَكِنَّهُ لِلجَمِيعِ، لِلإِنسَانِ مِن حَيثُ هُوَ إِنسَانٌ لَهُ مَا لَهُ وَعَلَيهِ مَا عَلَيهِ، وَلِلمُجتَمَعِ المُسلِمِ بِمَا يُحَقِّقُ صَلاحَهُ وَيَجلِبُ لَهُ الخَيرَ وَالحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ، إِنَّهُ مَنهَجٌ يَتبَعُ الفِطرَةَ في تَقسِيمِ الوَظَائِفِ وَالأَعمَالِ، وَفي تَقسِيمِ الأَنصِبَةِ بَينَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ؛ فَلِلرَّجُلِ خَصَائِصُ تُمَيِّزُهُ، وَلَهُ عَمَلٌ وَعَلَيهِ وَاجِبٌ وَلَهُ نَصِيبٌ، وَلِلمَرأَةِ خَصَائِصُ وَلَهَا عَمَلٌ، وَعَلَيهَا وَاجِبٌ وَلَهَا نَصِيبٌ، لا لِمَصلَحَةٍ خَاصَّةٍ وَشَهوَةٍ حَقِيرَةٍ، وَلا لإِرضَاءِ جِنسٍ بِذَاتِهِ، وَلَكِنْ لِتَقُومَ الحَيَاةُ الإِنسَانِيَّةُ كُلُّهَا وَتَنتَظِمَ، مُستَوفِيَةً خَصَائِصَهَا، مُحَقِّقَةً غَايَاتِهَا، مُطَاعًا فِيهَا خَالِقُ الإِنسَانِ وَمُستَخلِفُهُ، وَمُوجِدُهُ لِعِبَادَتِهِ وَحدَهُ دُونَ سِوَاهُ، لا لِيُفسِدَ في الأَرضِ بِتَعَدِّي الحُدُودِ وَتَجَاوُزِ أَحكَامِ الشَّرعِ.
وَإِنَّهُ حِينَ يُدرَسُ المَنهَجُ الإِسلامِيُّ بِوَجهٍ عَامٍّ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالارتِبَاطِ بَينَ شَطرَيِ النَّفسِ البَشَرِيَّةِ بِوَجهٍ خَاصٍّ؛ فَإِنَّهُ لا يَبقَى مَجَالٌ لِهَذَا الجَدَلِ الَّذِي مَلأَ حَيَاةَ الفَارِغِينَ وَالفَارِغَاتِ، بِمَا صَوَّرَهُ أَعدَاءُ الدِّينِ وَالفِطرَةِ وَجَعَلُوا عَلَيهِ حَيَاةَ النَّاسِ؛ إِذْ صَوَّرُوهَا عَلَى أَنَّهَا مَعرَكَةٌ بَينَ الرَّجُلِ وَالمَرأَةِ، وَخِصَامٌ بَينَ الذَّكَرِ وَالأُنثَى، وَسَعيٌ لانتِصَارِ جِنسٍ عَلَى الآخَرِ، وَالحَقُّ أَنَّ العِلاقَةَ بَينَ الجِنسَينِ وَاضِحَةٌ، وَهِيَ قَضِيَّةٌ مُسَلَّمٌ بِهَا وَلا تَحتَاجُ إِلى بَحثٍ وَلا تَحلِيلٍ؛ فَاللهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ الزَّوجَينِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى، وَهُوَ الَّذِي وَزَّعَ الوَظَائِفَ وَالأَعمَالَ بَينَهُمَا، وَجَعَلَهَا تَكَامُلِيَّةً بِعَدلٍ مِنهُ وَحِكمَةٍ، وَأَيُّ خُرُوجٍ مِن قِبَلِ جِنسٍ عَن ثَغرِهِ، وَتَجَاوُزٍ مِنهُ لِمَا خُصَّ بِهِ؛ فَهُوَ السَّبَبُ لِمَا يَنشَأُ بَينَ حِينٍ وَحِينٍ مِن ظُلمٍ وَهَضمٍ وَتَقصِيرٍ، أَمَّا في المَنهَجِ الإِسلامِيِّ فَلا وُجُودَ لِمَعرَكَةٍ أَصلاً، وَلا تَنَافُسَ عَلَى دُنيَا، وَلا حَملَةَ مِنَ نِسَاءٍ ضِدَّ رِجَالٍ، وَلا مِنَ رِجَالٍ ضِدَّ نِسَاءٍ، بَلْ لا مَكَانَ لِلظَّنِّ بِأَنَّ أَحَدًا قَد ظَلَمَ أَحَدًا، مَا دَامَ كُلٌّ قَد لَزِمَ ثَغرَهُ وَاقتَصَرَ عَلَى وَظِيفَتِهِ، وَلم يَتَجَاوَزْ مَركَزَهُ وَلم يَبرَحْ مَكَانَهُ، فَاللهُ لم يَكتُبْ عَلَى المَرأَةِ الجِهَادَ كَمَا كَتَبَهُ عَلَى الرِّجَالِ، وَلم يُكَلِّفْهَا نَفَقَةً عَلَى البَيتِ كَمَا كَلَّفَ بِذَلِكَ الرَّجُلَ، وَلم يَكتُبْ عَلَيهَا صَلاةَ جُمُعَةٍ وَلا جَمَاعَةٍ، لَكِنَّهُ أَكرَمَهَا بِأَنْ تَلِدَ الرِّجَالَ المُجَاهِدِينَ، وَتُرَبِّيَ العُلَمَاءَ المُصلِحِينَ، وَتُعِينَ المُصَلِّينَ القَانِتِينَ.
نَعَم، لم يَكتُبِ اللهُ عَلَى المَرأَةِ مَا يَحتَاجُ إِلى جُهدٍ وَقُوَّةٍ أَو فِيهِ عَلَيهَا مَشَقَّةٌ، وَلَكِنَّهُ هَيَّأَهَا لِصِنَاعَةِ الرِّجَالِ بِخَلْقِهَا العُضُوِيِّ وَالنَّفسِيِّ، وَهِيَ في هَذَا الجَانِبِ أَقدَرُ وَعَلَيهِ أَصبَرُ، وَمِن ثَمَّ أُلزِمَتِ البَيتَ لِتَعمَلَ فِيهِ أَعظَمَ عَمَلٍ، وَلِتُمَارِسَ تَحتَ سَقفِهِ أَجَلَّ وَظِيفَةٍ، وَهِيَ إِنتَاجُ الرِّجَالِ الَّذِينَ يَتَوَلَّونَ القِيَادَةَ وَالوِلايَةَ وَالجِهَادَ، وَيَعمَلُونَ في الأَعمَالِ الشَّاقَّةِ وَيَكدَحُونَ، لِيُنفِقُوا عَلَيهَا وَيَقُومُوا بِشَأنِهَا وَيَخدِمُوهَا.
وَأَمَّا مَا جَعَلَهُ أَعدَاءُ الفِطرَةِ مُنطَلَقًا لِحَدِيثِهِمُ الجَائِرِ عَن ظُلمِ المَرأَةِ في الإِسلامِ؛ كَالمِيرَاثِ وَالشَّهَادَةِ مَثَلاً؛ فَقَد كَانُوا فِيهِ هُمُ الظَّالِمِينَ، فَهُم في المِيرَاثِ لم يَقرَؤُوا إِلاَّ قَولَ الحَقِّ -جَلَّ وَعَلا-: (فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)[النساء: 176]، في نَظرَةٍ سَطحِيَّةٍ مُستَعجِلَةٍ، غَفَلُوا فِيهَا عَن أَنَّ هَذَا إِنَّمَا هُوَ غُنمٌ بِغُرمٍ؛ إِذْ إِنَّ الرَّجُلَ يُؤَدِّي في مُقَابِلِهِ حُقُوقًا أُخرَى؛ فَهُوَ المُلزَمُ بِصَدَاقِ المَرأَةِ، وَأَمَّا هِيَ فَلا صَدَاقَ لَهُ عَلَيهَا، ثم هُوَ يُنفِقُ عَلَيهَا وَعَلَى أَولادِهِ مِنهَا، بَل وَعَلَى كُلِّ قَرِيبٍ مُعسِرٍ في أُسرَتِهِ، وَهِيَ مُعفَاةٌ مِنَ الإِنفَاقِ وَإِن كَانَ لَهَا مَالٌ، ثم إِنَّ الرَّجُلَ عَلَيهِ مَا عَلَيهِ في الدِّيَاتِ وَالتَّعوِيضِ عَنِ الجِرَاحَاتِ، وَالمُرأَةُ مُعفَاةٌ مِن ذَلِكَ، بَل حَتَّى أَجرُ رَضَاعِ طِفلِهَا مِنَ الرَّجُلِ وَحَضَانَةِ ابنِهَا عِندَ التَّفَرُّقِ أَوِ الطَّلاقِ، يَتَحَمَّلَهُ الرَّجُلُ وَيُؤَدِّيهِ لَهَا كَنَفَقَتِهَا هِيَ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، أَوَلَيسَ مِن حَقِّهِ بَعدَ ذَلِكَ أَن يَكُونَ لَهُ مِثلُ حَظِّ الأُنثَيَينِ؛ إِنَّهُ لَمِن حَقِّهِ؛ كَمَا جَعَلَ اللهُ لِلمَرأَةِ ثَلاثَةَ حُقُوقٍ في البِرِّ بِمَا كُلِّفَتْهُ مِنَ الحَمَلِ وَالوِلادَةِ وَالرَّضَاعَةِ، هَذَا مَعَ أَنَّ تَفضِيلَ الرَّجُلِ في المِيرَاثِ لَيسَ عَلَى إِطلاقِهِ كَمَا يَفهَمُهُ أُولَئِكَ الضَّالُّونَ، بَل ثَمَّةَ صُوَرٌ يَكُونُ نَصِيبُ المَرأَةِ فِيهَا أَكبَرَ مِن نَصِيبِ الرَّجُلِ، في تَوَازُنٍ شَامِلٍ، وَتَقدِيرٍ دَقِيقٍ، وَحُكمٍ مُحكَمٍ، لا يُوجَدُ في غَيرِ الإِسلامِ، الَّذِي شَرَعَهُ الحَكِيمُ العَلِيمُ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ.
وَأَمَّا ادِّعَاؤُهُم أَنَّ الإِسلامَ ظَلَمَ المَرأَةَ بِجَعلِ شَهَادَتِهَا عَلَى النِّصفِ مِن شَهَادَةِ الرَّجُلِ؛ فَهُم يَقصِدُونَ قَولَهُ -سُبحَانَهُ-: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى)[البقرة: 282].
وَقَد جَهِلُوا أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ وَرَدَت في مَقَامِ إِرشَادِ المُتَعَامِلِينَ إِلى طُرُقِ الاستِيثَاقِ وَالاطمِئنَانِ عَلَى حُقُوقِهِم في وَقتِ التَّعَامُلِ، وَلَيسَت في مَقَامِ الشَّهَادَةِ الَّتي يَقضِي بِهَا القَاضِي وَيَحكُمُ، وَلا تَعنِي أَنَّ شَهَادَةَ المَرأَةِ الوَاحِدَةِ أَو شَهَادَةَ النِّسَاءِ اللاَّتِي لَيسَ مَعَهُنَّ رَجُلٌ لا يَثبُتُ بِهَا الحَقُّ دَائِمًا وَلا يَحكُمُ بِهَا القَاضِي؛ ذَلِكَ أَنَّ أَقصَى مَا يَطلُبُهُ القَضَاءُ هُوَ البَيِّنَةُ، وَالبَيِّنَةُ أَعَمُّ مِنَ الشَّهَادَةِ؛ فَهِيَ تَعُمُّ كُلَّ مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ الحَقُّ وَيَظهَرُ، وَمِن ذَلِكَ الحُكمُ بِالقَرَائِنِ القَطعِيَّةِ، وَبِشَهَادَةِ المَرأَةِ، بَل وَبِشَهَادَةِ غَيرِ المُسلِمِ، مَتى وَثِقَ فِيهَا القَاضِي وَاطمَأَنَّ إِلَيهَا.
وَأَمَّا جَعلُ المَرأَتَينِ في الاستِيثَاقِ كَالرَّجُلِ الوَاحِدِ فَلَيسَ لِضَعفِ عَقلِ المَرأَةِ، الَّذِي يَلزَمُ مِنهُ نَقصُ إِنسَانِيَّتِهَا، وَإِنَّمَا هُوَ نَوعٌ مِنَ الاستِيثَاقِ الَّذِي تَطمَئِنُّ بِهِ نُفُوسُ المُتَعَامِلِينَ عَلَى حُقُوقِهِم؛ لأَنَّهُ لَيسَ مِن شَأنِ المَرأَةِ الاشتِغَالُ بِالمُعَامَلاتِ المَالِيَّةِ وَنَحوِهَا مِنَ المُعَاوَضَاتِ، وَمِن هُنَا؛ فَإِنَّ ذَاكِرَتَهَا تَكُونُ فِيهَا ضَعِيفَةً، وَمِن طَبعِ البَشَرِ عَامَّةً أَن يَضعُفَ تَذَكُّرُهُم لِلأُمُورِ الَّتِي يَقِلُّ اشتِغَالُهُم بِهَا وَلا يُمَارِسُونَهَا.
وَلَيسَ هَذَا فَحَسبُ، بَل إِنَّ الأَصلَ عَدَمُ قَبُولِ شَهَادَةِ المَرأَةِ في القَضَايَا الَّتي لا تَقوَى لِضَعفِهَا عَلَى تَحَمُّلِهَا كَالدِّمَاءِ، وَمَعَ هَذَا؛ فَإِنَّ شَهَادَتَهَا تُقبَلُ في ذَلِكَ إِذَا تَعَيَّنَت طَرِيقًا لِثُبُوتِ الحَقِّ وَاطمَأَنَّ القَاضِي إِلَيهَا، كَمَا أَنَّ الفُقَهَاءَ في المُقَابِلِ قَد نَصُّوا عَلَى أَنَّ ثَمَّةَ قَضَايَا تُقبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ المَرأَةِ وَحدَهَا دُونَ الرَّجُلِ، وَهِيَ القَضَايَا الَّتي لم تَجرِ العَادَةُ بِاطِّلاعِ الرِّجَالِ عَلَى مَوضُوعَاتِهَا؛ كَالوِلادَةِ وَالبَكَارَةِ، وَعُيُوبِ النِّسَاءِ وَالقَضَايَا البَاطِنِيَّةِ.
وَأَمَّا في المَقَامِ الَّذِي قَد يَمَسُّ كَرَامَةَ المَرأَةِ وَإِنسَانِيَّتَهَا، فَقَد جُعِلَتِ المَرأَةُ كَالرَّجُلِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَذَلِكَ في شَهَادَاتِ اللِّعَانِ، حِينَمَا يَقذِفُ الرَّجُلُ زَوجَتَهُ وَلَيسَ لَهُ عَلَى مَا يَقُولُ شُهُودٌ، قَالَ -تَعَالى-: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ)[النور:6-9]؛ فَهَذِهِ أَربَعُ شَهَادَاتٍ مِنَ الرَّجُلِ، يَعقُبُهُا استِمطَارُ لَعنَةِ اللهِ عَلَيهِ إِن كَانَ مِنَ الكَاذِبِينَ، وَيُقَابِلُهَا وَيُبطِلُهَا أَربَعُ شَهَادَاتٍ مِنَ المَرأَةِ، يَعقُبُهَا استِمطَارُ غَضَبِ اللهِ عَلَيهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى عَدَالَةِ الإِسلامِ في تَوزِيعِ الحُقُوقِ العَامَّةِ بَينَ الرَّجُلِ وَالمَرأَةِ، بِمَا يُحَقِّقُ أَنَّهُمَا في الإِنسَانِيَّةِ سَوَاءٌ.
وَمِثلُ ذَلِكَ سَائِرُ الأُمُورِ الَّتِي تَسُوغُ فِيهَا المُسَاوَاةُ؛ فَقَد سَوَّى الإِسلامُ فِيهَا بَينَ الرَّجُلِ وَالمَرأَةِ، فَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ في التَّكلِيفِ، كُلِّفَت أَن تُؤمِنَ؛ كَمَا يُؤمِنُ، وَأَن تَفعَلَ مَا أَمَرَهَا اللهُ بِهِ كَمَا هُوَ مُكَلَّفٌ، وَهُمَا كَذَلِكَ مُتَسَاوِيَانِ في التَّشرِيفِ وَالمَكَانَةِ عِندَ اللهِ بِقَدرِ التَّقوَى وَالعَمَلِ الصَّالِحِ، قَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)[النحل: 97]، وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ)[آل عمران: 195]، ثم إِنَّ لَهَا بَعدَ ذَلِكَ حَقَّ التَّمَلُّكِ وَالكَسبِ، وَلَهَا شَخصِيَّتُهَا وَأَهلِيَّتُهَا.
وَإِذَا كَانَت عِندَ كَثِيرٍ مِن أُمَمِ الشَّرقِ وَالغَربِ تُعَدُّ كَالمِلكِ لِلزَّوجِ حَتى في انتِسَابِهَا إِلَيهِ؛ فَإِنَّ المُسلِمَةَ تَظَلُّ بَعدَ زَوَاجِهَا مُحتَفِظَةً بِاسمِهَا وَاسمِ أُسرَتِهَا، مُستَقِلَّةً بِكُلِّ حُقُوقِهَا المَدَنِيَّةِ، وَبِأَهلِيَّتِهَا في تَحَمُّلِ الالتِزَامَاتِ وَإِجرَاءِ مُختَلِفِ العُقُودِ؛ مِن بَيعٍ وَشِرَاءٍ، وَرَهنٍ وَهِبَةٍ وَوَصِيَّةٍ وَمَا إِلى ذَلِكَ، وَلَهَا ثَروَتُهَا الخَاصَّةُ المُستَقِلَّةُ، وَلا يَجُوزُ لِلزَّوجِ أَن يَأخُذَ شَيئًا مِن مَالِهَا وَلا يَتَصَرَّفَ فِيهِ إِلاَّ إِذَا أَذِنَت لَهُ، قَالَ -تَعَالى-: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا)[البقرة: 229].
وَإِذَا كَانَ لا يَجُوزُ لِلزَّوجِ أَن يَأخُذَ شَيئًا مِمَّا سَبَقَ أَن آتَاهُ لِزَوجَتِهِ؛ فَإِنَّهُ لا يَجُوزُ لَهُ مِن بَابِ أَولى أَن يَأخُذَ شَيئًا مِن مِلكِهَا الأَصِيلِ، إِلاَّ أَن يَكُونَ هَذَا أَو ذَاكَ بِرِضَاهَا وَعَن طِيبِ نَفسٍ مِنهَا، قَالَ -تَعَالى-: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا)[النساء:4].
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- وَلْنَتَمَسَّكْ بِالَّذِي أَنزَلَهُ عَلَى رَسُولِنَا فَبَلَّغَهُ لَنَا؛ فَإِنَّنَا مَسؤُولُونَ عَن ذَلِكَ وَمُحَاسَبُونَ عَلَيهِ.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
عباد الله: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالى- حَقَّ تَقوَاهُ، وَاستَعِدُّوا بِصَالِحِ الأَعمَالِ لِيَومِ لِقَاهُ، وَاعلَمُوا أَنَّ أَيَّ تَجَاهُلٍ لِمَا بَينَ الرَّجُلِ وَالمَرأَةِ مِن فَوَارِقَ فِطرِيَّةٍ وَشَرعِيَّةٍ، مَا هُوَ في حَقِيقَتِهِ إِلاَّ خَلطٌ لِلأَورَاقِ، وَبَدَايَةٌ لِفَسَادٍ عَرِيضٍ وَإِفسَادٍ؛ إِذْ بِهِ يَتَخَلَّى كُلٌّ عَن مَوقِعِهِ وَيُخلِي ثَغرَهُ، وَيَتَسَلَّقُ عَلَى حَقِّ الآخَرِ وَيَطلُبُ مَكَانَهُ، وَحِينَئِذٍ تَتَشَبَّهُ النِّسَاءُ بِالرِّجَالِ وَيَتَشَبَّهُ الرِّجَالُ بِالنِّسَاءِ، وَهَذَا هُوَ سَبِيلُ الذَّمِّ، وَسَبَبُ استِحقَاقِ الطَّردِ مِن رَحمَةِ اللهِ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا- قَالَ: "لَعَنَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- المُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ"(رَوَاهُ البُخَارِيُّ).
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- فَإِنَّ التَّفضِيلَ في بَعضِ الجَوَانِبِ لا يَعنِي الأَفضَلِيَّةَ، وَلَكِنَّهَا حُقُوقٌ في مُقَابِلِ وَاجِبَاتٍ، أَعطَى اللهُ الذَّكَرَ حُقُوقًا لم تُعطَ لِلمَرأَةِ، وَأَوجَبَ عَلَيهِ في مُقَابِلِهَا وَاجِبَاتٍ لم تُطلَبْ مِنهَا، وَالمَرأَةُ بِطَاعَةِ زَوجِهَا، وَحُسنِ رِعَايَةِ أَولادِهَا، مَعَ مُحَافَظَتِهَا عَلَى صَلاتِهَا، في دَرَجَةٍ عَالِيَةٍ، قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: "إِذَا صَلَّتِ المَرأَةُ خَمسَهَا، وَصَامَت شَهرَهَا، وَحَفِظَت فَرجَهَا، وَأَطَاعَت زَوجَهَا، قِيلَ لَهَا ادخُلِي الجَنَّةَ مِن أَيِّ أَبوَابِ الجَنَّةِ شِئتِ"(رَوَاهُ أَحمَدُ).
وصلوا وسلموا…
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي