والمعنى أَنه يُسْتَحَبّ التَّعْجِيل بالحج؛ لِمَا فِي التَّأْخِير مِنْ تَعْرِيضه لموانع تحول بينه وبين أداء الفريضة حتى بعد القدرة عليها والاستطاعة، والمرض من هذه الموانع، فمَنْ قُدِّرَ لَهُ الْمَرَض يَمْرَض فَيَمْنَعهُ ذَلِكَ عَنْ الْحَجّ وأداء مناسكه، بل قد يذهب فعلاً وهو قادر عليه فيضيع ماله، فلا يتمكن من أدائه، وهو المعني بقوله -صلى الله عليه وسلم: "وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ"...
الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ، مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَإِنَّهُ لا يَضُرُّ إِلاَّ نَفْسَهُ وَلا يَضُرُّ اللَّهَ شَيْئًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70].
أما بعد:
يقول الله -تبارك وتعالى- في كتابه العزيز: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)، هذه الآية هي الآية رقم 197من سورة البقرة، ومعناها أن وقت أداء الحج أشهر معلومات، ولم يسمِّ الله -سبحانه وتعالى- أشهر الحج في كتابه؛ لأنها كانت معلومة عندهم مشهورة، بحيث لا تحتاج إلى تخصيص، كما احتاج الصيام إلى تعيين شهره، وكما بيَّن -صلى الله عليه وسلم- أوقات الصلوات الخمس، وأما الحج فقد كان من ملة إبراهيم -عليه السلام- التي لم تزل مستمرة في ذريته معروفة بينهم.
والمراد بالأشهر المعلومات عند جمهور العلماء: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، فهي التي يقع فيها الإحرام بالحج غالبًا.
ويظلنا الآن الشهر الأول من أشهر الحج وهو شهر شوال، ولذا فقد رأيت -بعد الاستعانة بالله سبحانه وتعال- أن تكون خطبتنا اليوم، وما يليها من خطب -بإذن الله تعالى- تكون فيما يتعلق ببعض أمور فريضة الحج، فنقول وبالله التوفيق:
الحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام، أحد قواعد الإسلام، أوجبه الله على المسلمين بأوكد ألفاظ الوجوب عند العرب وأبلغها، تأكيدًا لحقه وتعظيمًا لحرمته؛ فقال -تبارك وتعالى-: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 97].
(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ): اللام في لفظ الجلالة لام الإيجاب والإلزام، ثم أكده بقوله -سبحانه وتعالى-: (عَلَى) التي هي من أوكد ألفاظ الوجوب عند العرب، وقوله -سبحانه وتعالى-: (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)، تغليظ على تارك الحج، ووصفه بالكفر لأنه لم يشكر ما أنعم الله عليه من صحة الجسم وسعة الرزق ولم يحج، ثم ختم الآية بقوله -سبحانه وتعالى-: (فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) تشديد آخر وتوكيد؛ لأن ذكر الاستغناء دليل على المقت والسخط، بل ودلل على عظم السخط بقوله -عز وجل-: (عَنِ الْعَالَمِينَ)، ولم يقل: عمن لم يحج، فعبّر عن سخطه على من لم يحج بقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)، وهي تدل على الاستغناء الكامل، فكان في ذلك دلالة على عظم السخط، وشدة الغضب على من لم يحج وهو مستطيع، فالله غني عن العالمين وعن عبادتهم.
وكل هذا تغليظ على المقصرين في أداء هذه الفريضة العظيمة، التي لو تمت على الوجه الذي شرعه الله، لكان فيها الخير الكثير للإسلام والمسلمين، فالمفروض أنه في هذه الشعيرة يجتمع أكبر مؤتمر إسلامي عام، من مختلف الأقطار والأجناس، والمفروض أنهم يتبادلون الرأي والمشورة في أمور شؤونهم الدينية والدنيوية، ليعود كل منهم إلى بلده وقد وصلوا إلى حلول تنفع المسلمين في جمع الكلمة، وتوحيد الصفوف، وإعداد العدة لما يرفع شأن الأمة الإسلامية، ويدفع عنها كيد الأعداء الذين يتربصون بها الدوائر، فلا ينتهي هذا المؤتمر العظيم، إلا وقد أصبحوا يدًا واحدة، وقوة ضاربة على من عاداهم، وجسدًا واحدًا يتألم بعضهم لما يصيب البعض الآخر.
هذه واحدة من الفضائل الظاهرة من مشروعية الحج، وتغليظ الشرع على المقصرين في أدائه، فهل استطاع المسلمون توظيف هذا الموسم والمؤتمر السنوي الإلهي فيما شرعه الإله من أجله؟! هل استفاد أولياء أمور المسلمين من هذه الفرصة التي يدعوهم الإله -عز وجل- مرة في كل عام لعقد مؤتمرهم تحت رعايته تبارك وتعالى؟!
الملاحظ أنه لم يحدث شيء من ذلك، بل العكس هو الحادث، فلم يفكر أحد في هذه الحكمة المقصودة من الحج مطلقًا، بل اتخذوه موسمًا للسياحة، حتى أسموها السياحة الدينية، وأصبح الحج عندهم مصدرًا للثراء السريع عن طريق الاتجار في دين الله، وابتزاز أموال الناس بالباطل تحت اسم التأشيرات، وأصبحت تجارة تأشيرات الحج والتحايل عليها تجارة رائجة تحقق الملايين، وفي كل عام يزداد الاستغلال، يزداد استغلال الحجيج، سواء من جانب المصريين أو السعوديين على حد سواء.
وقد استشرى الاستغلال خاصة في هذا العام 1431هـ، وقد رأينا ذلك في استغلال فرصة تخفيض حصة مصر من تأشيرات العمرة، والقصور في أماكن التسكين (الفندقة) الناتج عن الهدم الذي طال أماكن التوسعات حول الحرم المكي الشريف، ففرضوا الفنادق على شركات السياحة بأسعار أعلى بكثير من قيمتها الحقيقية، في مقابل الموافقة علي استخراج تأشيرات العمرة، وهذا ما لمسه المعتمرون في عمرة رمضان هذا العام، والذي أخشى أن يطول موسم الحج أيضًا، فأصبح هذا التصرف من جانب الوكلاء السعوديين سببًا جديدًا من أسباب زيادة تكاليف الحج والعمرة، رغم أن الأصل أن تأشيرات الحج والعمرة مجانية، إلا أن هذا التصرف من جانب الوكلاء أصبح بمثابة تحميل للتأشيرات بمبالغ لا مبرر لها، كما لو كنا في سوق خضار، نحمل بضاعة كاسدة على بضاعة رائجة، حتى أصبح أداء الحج وتكاليفه المادية فوق طاقة الناس بغير مبرر، أليس في هذا صد عن سبيل الله؟!
إنني أناشد المسؤولين بوزارة الحج السعودية النظر في هذا الموضوع، ووضع حد عاجل وسريع لاستغلال الوكلاء السعوديين، والذي يسيء إلى سمعة المملكة، والجهود التي تبذلها وزارة الحج مشكورة حرصًا على راحة الحجاج والمعتمرين، وأن يترك هذا الأمر حرًّا يخضع لعوامل العرض والطلب، وليس لسياسة الاحتكار هذه.
أخي المسلم: لقد افتقدنا الحكمة العامة من مشروعية الحج، والذين يستطيعون تأدية فريضة الحج الآن، يؤدونها من منطلق شخصي فقط، بوصفها شعيرة يكفر الله بها الخطايا، آملين أن ينسحب عليهم حديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم- الذي يقول فيه: "مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ". صحيح البخاري (5/400).
والمعنى أنه إذا التزم الحاج بآداب هذا الحديث رجع بحج مبرور، والحج المبرور هو الحج الذي لا يخالطه إثم ولا رياء؛ فقَوْله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ حَجَّ لِلَّهِ"، يفيد اشتراط إخلاص الحج لله، وقَوْله -صلى الله عليه وسلم-: "فَلَمْ يَرْفُث"، هَذَا مِنْ قَوْل اللَّه -تبارك وتعالى-: (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ) [البقرة: 197]، وَالْجُمْهُور عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِهِ فِي الآيَة الْجِمَاع، وَاَلَّذِي يَظْهَر أَنَّ الْمُرَاد بِهِ فِي الْحَدِيث مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، مثل الْمُرَاد بِقَوْلِهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي الصِّيَام: "فَإِذَا كَانَ صَوْم أَحَدكُمْ فَلا يَرْفُث". صحيح البخاري (6/ 474)، وقَوْله -صلى الله عليه وسلم-: "وَلَمْ يَفْسُق"، أَيْ لَمْ يَأْتِ بِسَيِّئَةٍ وَلا مَعْصِيَة، "رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمّه"، أَيْ صَارَ مُشَابِهًا لِنَفْسِهِ فِي الْبَرَاءَة عَنْ الذُّنُوب فِي يَوْم وَلَدَتْهُ أُمّه، أَيْ بِغَيْرِ ذَنْب، وَظَاهِره غُفْرَان الصَّغَائِر وَالْكَبَائِر وَالتَّبِعَات، وهذا من أكبر الشواهد على ذلك، فالحج المبرور الذي يرتب غفران الذنوب جميعًا هو الذي لا يخالطه إثم ولا رياء، ومن علاماته أن يرجع الحاج وحاله خير مما كان عليه قبل الحج، ويداوم على ذلك بعد الحج، هذا هو الحج المبرور الذي ليس له جزاء إلا الجنة.
من فضائل الحج أيضًا ما يبشر به قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ؛ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلا الْجَنَّةُ". سنن الترمذي (3/ 308).
والمراد بـ"تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ"، أَيْ إِذَا اِعْتَمَرْتُمْ فَحُجُّوا، وَإِذَا حَجَجْتُمْ فَاعْتَمِرُوا؛ "فَإِنَّهُمَا"، أَيْ الْحَجُّ وَالاعْتِمَارُ، "يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ"، أَيْ يُزِيلانِهِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْفَقْرَ الظَّاهِرَ بِحُصُولِ غِنَى الْيَدِ، وَالْفَقْرَ الْبَاطِنُ بِحُصُولِ غِنَى الْقَلْبِ، "وَالذُّنُوبَ"، أَيْ يَمْحُوَانِهَا، قِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا الصَّغَائِرُ، وَلَكِنْ يَأْبَاهُ قَوْلُهُ: "كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ"، وَهُوَ مَا يَنْفُخُ فِيهِ الْحَدَّادُ لاشْتِعَالِ النَّارِ لِلتَّصْفِيَةِ، "خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ"، أَيْ وَسَخَهَا الذي يبعده الكير عن المعدن النقي، "وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ"، الْمُرَادُ بِهَا الْحَجُّ الْمَقْبُولُ، والَّذِي لا يُخَالِطُهُ شَيْءٌ مِنْ الإِثْمِ، أوَ الْحَجُّ الَّذِي وُفِّيَتْ أَحْكَامُهُ فَوَقَعَ مُوَافِقًا لِمَا طُلِبَ مِنْ الْمُكَلَّفِ عَلَى الْوَجْهِ الأَكْمَلِ.
فالحج والعمرة يبعدان عن صاحبهما الفقر، ويمحوان عنه الذنوب كبيرها وصغيرها، ولا حرج على فضل الله -سبحانه وتعالى-، والله ذو الفضل العظيم، يؤتيه من يشاء من عباده.
المتابعة بين الحج والعمرة إذًا من فضائلها أنها تخلص صاحبها من الفقر والذنوب، المتابعة بين الحج والعمرة تنفي الفقر عن المسلمين، رغم أن ظاهرها أنها عبادة مكلِّفة ماديًا، ولكنها -رغم أنف الماديين والعلمانيين المسلطين علينا- تنفي الفقر.
المتابعة بين الحج والعمرة سبب من أسباب زوال الفقر عن المسلمين، رغم أنك حين تؤدي هذه العبادة تكلفك الآلاف، ولكن الله -عز وجل- يعيدها إليك مرة أخرى في الدنيا بزوال الفقر، وفي الآخرة بغفران الذنوب ومحوها. والذي أريد أن أركّز عليه هنا هو زوال الفقر.
الذين يحسبونها بالورقة والقلم، بالكمبيوتر والآلات الحاسبة، لن يجدوا لهذه المعادلة حلاًّ، أما المؤمن الموقن بصدق نبيه -صلى الله عليه وسلم- فلا يفكر هكذا، وإنما يقول: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير، وصدق رسوله الكريم الذي لا ينطق عن الهوى، فيشعر بالنتيجة ويحس بها، بل ويلمسها في كل حياته.
المتابعة بين الحج والعمرة إذًا مصدر من مصادر الرزق الإلهي المبارك الخفي، الذي لا يعلم كنهه إلا الله، ولهذا لما سـئل ابن تيمية عن رجل يريد أن يحج تطوعًا، هل الأفضل له أن يحج أم يتصدق بمصاريف الحج على الفقراء؟! قال: لا، بل يحج؛ لأنه إذا حجّ سوف يزيد رزقه، ويجد عنده فائضًا دائمًا يتصدق به على الفقراء، بعكس ما إذا تصدق مرة واحدة بنفقات الحج ثم انقطع عن الإنفاق.
بمثل هذا الإيمان، وبهذا المنطق يجب أن يفهم المسلمون حكمة المتابعة بين الحج والعمرة: "تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ؛ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ...".
أما الذين يصدون عن سبيل الله بتعجيز الناس عن أداء الحج والعمرة بحجة توفير العملة الأجنبية، هؤلاء لن يصلحوا اقتصاد البلاد بهذا المنع، بل سيزيدونها خرابًا فوق خراب؛ لأنهم بذلك يحرمون اقتصاد البلاد من مصدر إلهي من مصادر الرزق المبارك الخفي، الذي لا يحس به إلا المؤمنون حقًّا، ولا يخضع لمقاييسكم البشرية القاصرة، في حساب الثروة القومية للبلاد. فثوبوا إلى بارئكم، وارجعوا إلى دينكم، وارفعوا أيديكم عن العمار والحجاج. اللهم هل بلغت؟! اللهم فاشهد.
يضاف إلى ما سبق من فضائل الحج، فضيلة أعتبرها أنا شخصيًّا أكبر الفضائل، هذه الفضيلة تتمثل في قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الْحَجُّ جِهَادُ كُلِّ ضَعِيفٍ". سنن ابن ماجه (8/452). والمراد بالضعيف هنا الذي لا يقوى على الجهاد لعذر شرعي، فيحصل له بالحج ثوابُ المجاهدين إذا أخلص في أعمال حجه، فهو الباب المفتوح حتى الآن للجهاد، والمجال الوحيد المسموح فيه بالجهاد، بعد أن أوصدت وأغلقت قوى الظلم في وجوهنا جميع أبواب الجهاد، ويا ليت هذا الباب يظل مفتوحًا، ولكن الملاحظ كما رأينا أنهم يصدون عن سبيله بوضع العراقيل أمام سهولة ويسر الحج إلى بيت الله الحرام. استخسروا فينا حتى جهاد النساء، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
نعم الحج جهاد النساء؛ فعن أمنا أُمّ الْمُؤْمِنِينَ عائشة -رضي الله عنها- قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَلا نَخْرُجُ فَنُجَاهِدَ مَعَكَ؛ فَإِنِّي لا أَرَى عَمَلا فِي الْقُرْآنِ أَفْضَلَ مِنْ الْجِهَادِ؟! قَالَ: "لا، وَلَكُنَّ أَحْسَنُ الْجِهَادِ وَأَجْمَلُهُ حَجُّ الْبَيْتِ حَجٌّ مَبْرُورٌ". سنن النسائي (8/444).
فبالله عليكم، يا من بيدكم الأمر: يسروا على الناس سبيل الحج، يسروا ولا تعسروا، فإن الشرع يحث على تعجيل الحج، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "تَعَجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ -يَعْنِي الْفَرِيضَةَ- فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ". مسند أحمد (6/253).
وقد بيَّن –صلى- الله عليه وسلم- في حديث آخر بعض هذه الموانع فقال: "مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ، وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ، وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ". سنن ابن ماجه (8/ 426).
والمعنى أَنه يُسْتَحَبّ التَّعْجِيل بالحج؛ لِمَا فِي التَّأْخِير مِنْ تَعْرِيضه لموانع تحول بينه وبين أداء الفريضة حتى بعد القدرة عليها والاستطاعة، والمرض من هذه الموانع، فمَنْ قُدِّرَ لَهُ الْمَرَض يَمْرَض فَيَمْنَعهُ ذَلِكَ عَنْ الْحَجّ وأداء مناسكه، بل قد يذهب فعلاً وهو قادر عليه فيضيع ماله، فلا يتمكن من أدائه، وهو المعني بقوله -صلى الله عليه وسلم: "وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ".
وقد تعرض له الحاجة الشديدة التي تصرفه عن السفر إلى أداء مناسك الحج، كانهدام بيت أو هلاك مال، أو يوجد ما يمنعه من السفر، كما هو حادث الآن من صعوبة الحصول على التأشيرات إلا بعد دفع آلاف الجنيهات، أو منع العديد من السفر لأداء فريضة الحج بحجة الخوف عليهم من أنفلونزا الخنازير، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولهذا نذكِّر كل مستطيع بأن يسارع إلى الحج ما أمكنه، فعَنْ عبد الرحمن بن غنم أنه سمع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: "من أطاق الحج فلم يحج، فسواء عليه يهوديًّا مات أو نصرانيًّا". تفسير ابن كثير (2/85).
وهنا أذكركم بأن تكونوا من أصحاب النوايا الصالحة والهمم العالية، فقد يكتب لكم ثواب العمل دون أن تعملوه؛ إذا أخلصتم النية وحبسكم العذر، ومن ذلك أن لا تستبعد ذهابك للحج رغم كل السواد الذي يخيم بالأفق، بل تكون دائمًا على أمل تفضل الله عليك، فإن الله هو العزيز الحكيم، الرزاق ذو القوة المتين، الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي