دعوة إبراهيم –عليه الصلاة والسلام- لأبيه (2)

عبد الله بن علي الطريف
عناصر الخطبة
  1. بعثة إبراهيم -عليه السلام- وقيامه بالدعوة إلى التوحيد وإزالته للشرك .
  2. دعوة إبراهيم -عليه السلام- لأبيه بالرفق والحكمة والموعظة .
  3. معاندة أبي إبراهيم لإبراهيم -عليه السلام- ورفضه لدعوته .
  4. وفاة أبي إبراهيم -عليه السلام- على الشرك وامتناع إبراهيم -عليه السلام- عن الاستغفار له .

اقتباس

جمعَ اللهُ له بين الصديقية والنبوة، فالصديق: كثير الصدق، فهو الصادق في أقواله وأفعاله وأحواله، الـمُصدقُ بكل ما أُمر بالتصديقِ به، وذلك يستلزم العلم العظيم الواصل إلى القلب، المؤثر فيه، الموجب لليقين، والعمل الصالح الكامل، ومثله..

الخطبة الأولى:

أيها الإخوة: قبل مبعث إبراهيم -عَلَيْهِ الصَلَاةُ والسَّلَامُ- عم الشرك والكفر أرجاء الأرض، وقد ولد عَلَيْهِ الصَلَاةُ والسَّلَامُ في بيئةٍ وثنية ٍكافرة، وَكَانَ الْخَلِيلُ -عَلَيْهِ الصَلَاةُ والسَّلَامُ- هُوَ الَّذِي أَزَالَ اللَّهُ بِهِ تِلْكَ الشُّرُورَ، وَأَبْطَلَ بِهِ ذَاكَ الضَّلَالَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- آتَاهُ رُشْدَهُ فِي صِغَرِهِ، وَابْتَعَثَهُ رَسُولًا وَاتَّخَذَهُ خَلِيلًا فِي كِبَرِهِ، قَالَ الله -تَعَالَى-: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ)[الأنبياء: 51] أي من قبل إرسالِ موسى ومحمدٍ ونزول كتابيهما، فأراه اللهُ ملكوت السموات والأرض، وأعطاه من الرشد، الذي كمَّلَ به نفسه، ودعا الناس إليه، ما لم يؤته أحدا من العالمين، غير محمد، (مِنْ قَبْلُ) أَيْ: مِنْ صِغَرِهِ أَلْهَمَهُ اللهُ الْحَقَّ وَالْحُجَّةَ عَلَى قَوْمِهِ، وأضافَ الرشدَ إليه، لكونه رشداً، بحسبِ حالِه، وعلو مرتبته، وإلا فكل مؤمن، له من الرشد، بحسب ما معه من الإيمان (وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ) أي: أعطيناه رشده، واختصصناه بالرسالة والخلة، واصطفيناه في الدنيا والآخرة، لعلمنا أنه أهل لذلك، وكفء له، لزكائه وذكائه..

أيها الإخوة: وبعد أن منَّ الله -سبحانه وتعالى- على إبراهيم -عَلَيْهِ الصَلَاةُ والسَّلَامُ- بالنبوة بدأ كغيره من الأنبياء بدعوة من حوله إلى عبادة اللهِ وحده لا شريك له، وتركِ عبادة الأصنام؛ تلك الأوثان التي لا تنفع ولا تضر.

وقد بدأ عَلَيْهِ الصَلَاةُ والسَّلَامُ بدعوة أقرب الناس إليه وهو أبوه آزر وقد صرح القرآن الكريم باسم أبي إبراهيم في قول الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ)[الأنعام: 74].

وبدأ دعوته لأبيه بالقول اللين والخطاب الجميل فلم يسفه معبوداته، وذكره بنبوته ليستثير عطفه ويمس شغاف قلبه، فكرر نداءً حبيباً لقلب كل أب أربع مرات متتالية بقوله: (يَا أَبَتِ).

دعا إبراهيم -عَلَيْهِ الصَلَاةُ والسَّلَامُ- أباه آزر وذلك لقربه منه ولخوفه عليه من الشرك ومن عبادة الأوثان وإشفاقه عليه ورحمته به، فتوددَ إليه وتلطَّف في دعوته، ودعاه بأسلوبٍ جميل ومنطقٍ سليم، وبيَّن له فسادَ ما يعتقد، قال تعالى عن دعوة إبراهيم -عَلَيْهِ الصَلَاةُ والسَّلَامُ- لأبيه: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا)[مريم: 41-42].

أخبر الله -سبحانه وتعالى- أن إبراهيم َكان رسولًا إلى قومه، وقد جمعَ اللهُ له بين الصديقية والنبوة، فالصديق: كثير الصدق، فهو الصادق في أقواله وأفعاله وأحواله، الـمُصدقُ بكل ما أُمر بالتصديقِ به، وذلك يستلزم العلم العظيم الواصل إلى القلب، المؤثر فيه، الموجب لليقين، والعمل الصالح الكامل، ومثله يَصْدُقُ الناسَ في دعوته ويُشفقُ عليهم، وأولى الناس بذلك أقربهم له، وألصقهم به، وأجدرهم بإخلاص النصيحة وهو أبوه؛ فمن البرِ: أن يهديَه سواءَ السبيل، ثم هو أيضاً من المسوين خَلْقَ الأصنام، والناحتين لها، والداعين لعبادتها، فهو داعيةُ إثمٍ، ومبعثُ فِتْنة، فهدايتُه قُربى إلى الله، إلى الله، واستئصالٌ لبذور الشر واجتثاثٌ لجذور الضلال.

أيها الإخوة: ولقد بدأ إبراهيمُ -عَلَيْهِ الصَلَاةُ والسَّلَامُ- دعوته لأبيه بنداءٍ جميلٍ رقيقٍ يليق بمخاطبة الولد للوالد وما من أبٍ ينادى بهذا النداء إلا ويشعرُ بدفءِ المشاعرِ وغزارة العواطف، نعم لقد ناداه بـ (يَا أَبَتِ)، وكرر استخدامها عدة مرات في خطابه لوالده، وهي كلمةٌ مرققة تدل على التودد واستمالة العاطفة الأبوية، ويُلاحظ أنه عَلَيْهِ الصَلَاةُ والسَّلَامُ كان غايةً في الأدب في حواره مع والده.

وبدأ دعوته له بسؤال استنكاري فقال: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا)[مريم: 41] فلقد خاطب إبراهيمُ -عَلَيْهِ الصَلَاةُ والسَّلَامُ- أباه بلغة العقل والمنطق إذ كيف يعبد أصناما، ناقصةً في ذاتها، وفي أفعالها، فلا تسمع، ولا تبصر، ولا تملكُ لعابدِها نفعاً ولا ضراً، بل لا تملك لأنفسها شيئاً من النفع، ولا تقدرُ على شيءٍ من الدفع، فهذا برهان جلي دال على أن عبادة الناقص في ذاته وأفعاله مستقبح عقلا وشرعا، والأدهى أنها من صنع من يعبدها، ودل بتنبيهه وإشارته، أن الذي يجب ويحسن عبادته من له الكمال، الذي لا يَنَالُ العبادَ نعمةً إلا منه، ولا يدفع عنهم نقمة إلا هو، وهو الله -تعالى-.

ثم يخبره بأنه رسولٌ من رب العالمين أوحى الله إليه النبوة ليدعو الناس، ويخرجهم من الظلمات إلى النور أخبره بذلك بلطف ولين في الخطاب، لا يخفى، فإنه لم يقل: "يا أبت أنا عالم، وأنت جاهل" أو "ليس عندك من العلم شيء"، وإنما أتى بصيغة تقتضي أن عندي وعندك علما، وأن الذي وصل إليَّ لم يصل إليك ولم يأتك، فينبغي لك أن تتبع الحجة وتنقاد لها قائلًا: (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا)[مريم: 43].

ثم أخبره أن الشيطان عدو لله وعدو للإنسان إذ يدعوه إلى الشرك والكفر بالله -تعالى-: (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا)[مريم: 44]، (يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ)؛ لأن من عبد غير الله، فقد عبد الشيطان، كما قال تعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ)[يــس: 60]، (إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا)[مريم: 44] فمن اتبع خطواته، فقد اتخذه ولياً وكان عاصياً لله بمنزلة الشيطان.

وفي ذكر إضافة العصيان إلى اسم "الرحمن" إشارة إلى أن المعاصي تمنع العبد من رحمة الله، وتغلق عليه أبوابها، كما أن الطاعة أكبر الأسباب لنيل رحمته، ولهذا قال: (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ) أي: بسبب إصرارك على الكفر، وتماديك في الطغيان (فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا) أي: في الدنيا والآخرة، فتنزل بمنازله الذميمة، وترتع في مراتعه الوخيمة.

لقد تدرج الخليل -عَلَيْهِ الصَلَاةُ والسَّلَامُ- بدعوة أبيه، بالأسهل فالأسهل، فأخبره بعلمه، وأن ذلك موجب لاتباعك إياي، وأنك إن أطعتني، اهتديت إلى صراط مستقيم، ثم نهاه عن عبادة الشيطان، وأخبره بما فيها من المضار، ثم حذره عقاب الله ونقمته إن أقام على حاله، وأنه يكون ولياً للشيطان، ولم يصرح بأنَّ العذابَ لاحِقُه، والعقابَ محيقٌ به؛ براً به وتأدباً معه واستعطافاً له، بهذه الصراحة وبهذا الوضوح ختم إبراهيم -عَلَيْهِ الصَلَاةُ والسَّلَامُ- دعوته لأبِيه -فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى محمد وآله وأصحابه أجمعين-.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم…

الخطبة الثانية:

أيها الإخوة: وقابل الوالد الضال تودد ونصح ابنه ودعوته له بالحكمة بالموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن بالرفض والتهديد بفظاظةِ الكفر، وغِلظةَ العناد، وتجاهل بُنُوَّتَه، وأَنكَرَ حَدَبَه عليه وشفقته به، وتجهَّم له وقال محتقراً لشأنه، متعجباً من جُرأته، منكراً عليه نصحه، كعادة الضلال الذين سكرت أبصارهم وصودرت عقولهم، فقال: (أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) عن زيغك، وترجع عن غيك، وتَثُبْ إلى رُشدك (لَأَرْجُمَنَّكَ) بالحجارة ولأرمينك بفاحش القول، فاحذر سَوْرَةَ غضبي، وتجنب إثارة سُخْطِي، (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) أي طويلاً، فليس لك في دارِي مكان، ولن تجد في قلبي لك أثَارَةٍ من عطفٍ، أو بقية من إحسان.

وقابل إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ الصَلَاةُ والسَّلَامُ- تهديد أبيه آزر بصدرٍ رَحْبٍ، وتلقى وعيده بنفسٍ مطمئنةٍ، ثم أجابه بما ينبي عن بره به، وإخلاص النصح له، فقال: (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا)[مريم: 47-48].

ومع هذا القول الغليظ وهذا التهديد والوعيد قابل إبراهيم -عَلَيْهِ الصَلَاةُ والسَّلَامُ- تهديدَ أبيه بصدر رحب وتلقى وعيده بنفس مطمئنة، وأجاب بما يدل على البر وإخلاص النصح، وقال له: (سلامٌ عليك) أي إنني لن أؤذيك بكلامي ولا بفعلي بل سأستغفر الله لك وأدعوه أن يهديك ويمن عليك بالإسلام وترك هذا الشرك، وأتبرأ إلى الله من كفركم وأوثانكم، وأعبد الله وحده لا شريك له، قال تعالى: (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا)[مريم: 47-48].

واستمر إبراهيمُ -عَلَيْهِ الصَلَاةُ والسَّلَامُ- يدعو لوالده ويستغفر له أملًا أن يتوب من الشرك، لكن الله لم يرد له هداية فمات أبوه على الشرك، وهنا كفَّ إبراهيمُ -عَلَيْهِ الصَلَاةُ والسَّلَامُ- عن الاستغفار له؛ لأنه علم أنه مات مشركًا، وأن الله لا يغفر الشرك أبدًا؛ فالشرك أعظم الذنوب ويستوجب من مات عليه دخول النار خالدًا مخلدًا فيها، قال تعالى: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)[التوبة: 114].

اللهم اغفر لنا وارحمنا واجمعنا بأبينا إبراهيم -عَلَيْهِ الصَلَاةُ والسَّلَامُ- في جنات النعيم.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي