في يوم القيامة تكون ثروةُ الإنسان، وأُسُّ مالِه حسناتِه، فإذا كانت عليه مظالِمُ للعباد؛ فإنهم يأخذون من حسناته، بِقَدْر ما ظَلَمَهم، فإنْ لم يكن له حسناتٌ أو فَنِيَتْ حسناتُه، فيُؤخذ من سيِّئاتهم، ويُطرح فوق ظهره.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: من رحمة الله -تعالى- بعباده أنه يُحاسبهم يوم القيامة بالعدل، فلا يقع ظلم لأحد؛ كما قال -سبحانه-: (وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)[ق:29]؛ وقال -سبحانه-: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا)[الأنبياء:47]. وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ -رضي الله عنه- قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - أَوْ قَالَ الْعِبَادُ - عُرَاةً غُرْلاً -غير مختونين- بُهْمًا -ليس معهم شيء-". قال: قُلْنَا: وَمَا بُهْمًا؟ قَالَ: "لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الدَّيَّانُ، وَلاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ؛ وَلَهُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَقٌّ حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ. وَلاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ؛ وَلأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عِنْدَهُ حَقٌّ حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ، حَتَّى اللَّطْمَةُ". قَالَ: قُلْنَا: كَيْفَ وَإِنَّا إِنَّمَا نَأْتِي اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- عُرَاةً غُرْلاً بُهْمًا؟ قَالَ: «بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ»(رواه أحمد في المسند، والبخاري مختصراً).
فالله -تبارك وتعالى- هو الديَّان المُحاسب والمُجازي للعباد، وهو الحاكم بينهم يوم المعاد، فَمَنْ وجَدَ خيراً فليحمد الله، ومَنْ وجَدَ غيرَ ذلك فلا يَلُومَنَّ إلاَّ نفسَه، قال -تعالى-: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ)[آل عمران:30].
عباد الله: في يوم القيامة تكون ثروةُ الإنسان، وأُسُّ مالِه حسناتِه، فإذا كانت عليه مظالِمُ للعباد؛ فإنهم يأخذون من حسناته، بِقَدْر ما ظَلَمَهم، فإنْ لم يكن له حسناتٌ أو فَنِيَتْ حسناتُه، فيُؤخذ من سيِّئاتهم، ويُطرح فوق ظهره.
ففي صحيح البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه– قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأَحَدٍ، مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ؛ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ".
وهذا الذي يأخذ الناسُ حسناتِه، ثم يقذِفون فوق ظهره بسيِّئاتهم، هو المُفلس؛ كما سمَّاه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ -قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ - أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ"(رواه مسلم).
والمَدِين الذي مات وللناس في ذمته أموال؛ يأخذُ أصحابُ الأموالِ من حسناته بمقدار ما لهم عنده؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دِينَارٌ أَوْ دِرْهَمٌ؛ قُضِيَ مِنْ حَسَنَاتِهِ، لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ"(رواه ابن ماجه). فالعُملة المقبولة يوم القيامة هي الحسنات دون سواها.
وإذا كانت بين العباد مظالِمُ مُتبادَلة؛ اقْتُصَّ لبعضهم من بعض، فإنْ تساوى ظُلمُ كلِّ واحدٍ منهما للآخَر؛ كان كَفافاً لا له ولا عليه، وإنْ بَقِيَ لبعضهم حقوقٌ عند الآخَرين؛ أخذها: عن عَائِشَةَ -رضي الله عنها-؛ أَنَّ رَجُلاً قَعَدَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ لِي مَمْلُوكَيْنِ يُكْذِبُونَنِي وَيَخُونُونَنِي وَيَعْصُونَنِي، وَأَشْتُمُهُمْ وَأَضْرِبُهُمْ، فَكَيْفَ أَنَا مِنْهُمْ؟ قَالَ: "يُحْسَبُ مَا خَانُوكَ وَعَصَوْكَ وَكَذَبُوكَ، وَعِقَابُكَ إِيَّاهُمْ، فَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ؛ كَانَ كَفَافًا لاَ لَكَ وَلاَ عَلَيْكَ. وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ دُونَ ذُنُوبِهِمْ؛ كَانَ فَضْلاً لَكَ. وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ فَوْقَ ذُنُوبِهِمُ؛ اقْتُصَّ لَهُمْ مِنْكَ الْفَضْلُ". فَتَنَحَّى الرَّجُلُ فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَهْتِفُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَمَا تَقْرَأُ كِتَابَ اللَّهِ: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)[الأنبياء: 47]. فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا أَجِدُ لِي وَلِهَؤُلاَءِ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ مُفَارَقَتِهِمْ، أُشْهِدُكُمْ أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ كُلَّهُمْ"(رواه الترمذي).
فالحديث يُشير إلى ثلاث حالات للرجل مع هؤلاء المماليك: الحال الأُولى: إنْ كان العقابُ بقدر الخطأ؛ كان كفافاً. الحال الثانية: إنْ كان العقابُ أقلَّ من الخطأ؛ كان زيادةً للرجل يأخذ منهم الحسنات. الحال الثالثة: إنْ كان العقابُ أكثرَ من الخطأ؛ فيأخذ المماليكُ من الرجل الزيادة بالحسنات.
ولو نجا أحدٌ من هذه المظالِمِ المُتبادَلة لنجا الحيوان؛ فيُقْتَصُّ لبعضه من بعض، فإذا انْتَطَحَت شاتان، إحداهما جَلحاءُ لا قرون لها، والأُخرى ذاتُ قرونٍ؛ فإنه يُقْتَصُّ لتلك من هذه؛ لقول النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ"(رواه مسلم).
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضي الله عنه-؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-رَأَى شَاتَيْنِ تَنْتَطِحَانِ، فَقَالَ: "يَا أَبَا ذَرٍّ! هَلْ تَدْرِي فِيمَ تَنْتَطِحَانِ؟" قَالَ: لاَ. قَالَ: "لَكِنَّ اللَّهَ يَدْرِي، وَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا"(رواه أحمد في "المسند").
الحمد لله..
أيها المسلمون: إذا الأمرُ بهذه الدِّقة؛ فينبغي للعبد أن يُحاسِبَ نفسَه قبل أنْ يُحاسَب، ويستعدَّ للقاء ديَّانِ السموات والأرَضين، قبل مجيء يوم الدِّين، وأنْ لا يظلمَ أحداً من عباد الله -تعالى-؛ فإنَّ حقوق العباد قائمةٌ على المُشاحَّة، وحقوقَ الله -تعالى- قائمةٌ على المُسامحة؛ ولذا قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "اتَّقُوا الظُّلْمَ؛ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"(رواه مسلم).
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الظُّلْمُ ثَلاَثَةٌ: فَظُلْمٌ لاَ يَغْفِرُهُ اللهُ، وَظُلْمٌ يَغْفِرُهُ، وَظُلْمٌ لا يَتْرُكُهُ. فَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لاَ يَغْفِرُهُ اللهُ: فَالشِّرْكُ، قَالَ اللهُ -تعالى-: (إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)[لقمان: 13]. وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي يَغْفِرُهُ: فَظَلْمُ الْعِبَادِ أَنْفُسَهُمْ، فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ. وَأَمَّا الظُلْمُ الَّذِي لاَ يَتْرُكُهُ اللهُ -تعالى-: فَظُلْمُ العِبَادِ بَعْضُهُمْ بَعْضاً حَتَّى يَدِيرَ -أي: يَقْتَصَّ- لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ"(رواه الطيالسي والبزار).
وقد أحسن مَنْ قال:
أمَا واللهِ إنَّ الظُلْمَ شُؤمُ *** وَلاَ زَالَ المُسِيءُ هُوَ الظَّلُومُ
إِلَى الدَّيَّانِ يَوْمَ الدِّيْنِ نَمْضِي *** وعِنْدَ اللهِ تَجْتَمِعُ الخُصومُ
سَتَعْلَمُ في الحِسابِ إذا الْتَقَينا *** غَداً عِنْدَ المَلِيكَ مَنِ الغَشُومِ
ولو لم يكن هناك حساب؛ لَبَطَش القويُّ بالضعيف، وأكل الظالمُ المظلوم، واستُبيحت أعراض الناس ودماؤهم، قال الله -تعالى- - في شأن ذلك اليوم العظيم: (يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء: 88، 89]. ولم يقل: إلاَّ مَنْ أتى اللهَ بصلاةٍ وزكاةٍ وصوم؛ لأنَّ هذه العبادات العظيمة، قد يذهبَ بها ظلمُ صاحبِها للناس، فها هو المفلس الذي شتم الناس، وقذفهم، وأكل أموالهم بغير حق، وسفك دمائهم، وضرب، وفعل وفعل.. أفلس رصيدُه من الحسنات؛ بسبب اعتدائه على حقوق الناس؛ لذا قال الله -تعالى-: (إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) فإذا سَلِمَ القلبُ من الظلم والجَور، تبعته الأعضاءُ؛ لأنه مَلِكُها المُطاع.
وصلوا وسلموا...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي