وجوب الحج وبيان بعض أحكامه (2)

عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
عناصر الخطبة
  1. قرب عشر ذي الحجة .
  2. من حِكَم الحج وأسراره .
  3. التحذير من تأخير الحج .
  4. حكم الحج وشروط وجوبه .
  5. فضائل الحج .
  6. ضرورة تعلم فقه الحج .

اقتباس

هذه همسة في أذن كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويعلم أن الحج خامس أركان الإسلام التي لا يكمل إسلام العبد إلا بأدائها، ثم تراه يتقاعس ويكسل عن أداء فريضته التي أوجبها الله عليه، فمن مفرّط في الأمر لا يبالي به، ومِن مسوّف يمني نفسه ويعدها، ويمر به موسم الحج تلو الموسم وهو يقدّم رجلاً ويؤخر أخرى...

 

 

 

 

أيها المؤمنون: أيام ويستبشر المؤمنون بدخول عشر ذي الحجة التي هي من أفضل الأيام عند الله تعالى، وللعمل الصالح فيها مزية عن غيرها من الأيام، ففي الحديث: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام"، يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله: ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء". رواه البخاري.

ومن أجلِّ الأعمال الصالحة التي تشرع فيها: أداء مناسك الحج التي أوجبها الله تعالى على كل مسلم قادر تحققت فيه شروط وجوبه.

ومن تأمل في شعائر الحج وحِكمه التي يشتمل عليها رأى الحكم الباهرة، والعظات البالغة، والمقاصد النافعة للفرد والمجتمع؛ ففي الحج يجتمع المسلمون على اختلاف شعوبهم وطبقاتهم وتنوع بلدانهم ولغاتهم، فتتوحد وجهاتهم وأفعالهم في زمان واحد ومكان محدّد، لا يتميز فيه قوم عن قوم، (ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) [البقرة: 199]، فتلتقي القلوب وتزداد المحبة ويوجد الائتلاف، ولو استغلّ هذا الجمع في تحقيق المقاصد العظيمة من مشروعية الحج لرأى المسلمون عجبًا.

ومن حكم الحج وفوائده التي تظهر للمتأمل: تذكُّر الدار الآخرة، فالحاج يغادر أوطانه التي ألفها ونشأ في ربوعها، وكذا الميت إذا انقضى أجله غادر هذه الدنيا، والميت يجرد من ثيابه، وكذا الحاج يتجرد من المخيط طاعة لله تعالى، والميت يغسل بعد وفاته، وكذا الحاج يتنظف ويغتسل عند ميقاته، والميت يكفن في لفائف بيضاء هي لباسه في دار البرزخ، والحاج يلبس رداءً وإزارًا أبيضَيْن لمناسكه، وفي صعيد عرفات والمشعر الحرام يجتمع الحجيج، وفي يوم القيامة يبعث الناس ويساقون إلى الموقف، (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَـالَمِينَ) [المطففين:6]، إلى غير ذلك من الحكم والمقاصد والعبر التي تعظ وتذكر.

أيها المسلمون: للحج فضائله ومكارمه، وفيه أجر عظيم ووعد كريم، ولكن هذه همسة في أذن كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويعلم أن الحج خامس أركان الإسلام التي لا يكمل إسلام العبد إلا بأدائها، ثم تراه يتقاعس ويكسل عن أداء فريضته التي أوجبها الله عليه، فمن مفرّط في الأمر لا يبالي به، ومِن مسوّف يمني نفسه ويعدها، ويمر به موسم الحج تلو الموسم وهو يقدّم رجلاً ويؤخر أخرى، ولم تسعفه نفسه بعزيمة تبطل كيد الشيطان الذي يلبِّس عليه ويريه أن الحج رابع المستحيلات ورأس المستصعبات وكبير المشقات، وأن الذاهب إليه مفقود والعائد منه مولود، ويعرض على ناظريه صور المتاعب والمحن التي قد تحصل، وكأن الحجيج إنما قدموا للحرب والضرب، بل إن البعض من المسلمين تراه يسافر في مشارق الأرض ومغاربها يطوي الفيافي والقفار وربما تعرض للأخطار في بلاد لا يسمع فيها الأذان في سبيل التنزه والفرجة والسياحة، وربما أنفق النفقات الباهظة بنفس سمحة ويد سخية، غير أنه إذا ذكِّر بالحج دب إليه الفتور وشعر بالتثاقل، وتكاثرت أمامه الأعذار التي يتحجج بها.

فيا ليت شعري، هل أدرك هذا الصنف من المسلمين خطورة ما هم صانعون؟! لا سيما إذا كانوا ممن وجب عليهم الحج وتحققت فيهم شروطه، كيف يهنأ لأحدهم العيش وهو يسمع نداء ربه: (وَأَذّن فِى النَّاسِ بِلْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ) [الحج:27]؟! ألم يسمع هؤلاء قوله -جل وعلا-: (وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَـاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَـالَمِينَ) [آل عمران:97]؟! إنهم جميعًا يحفظون قوله –صلى الله عليه وسلم-: "بني الإسلام على خمس"، ويعرفون هذه الأركان الخمسة جيدًا، وهل سمع هؤلاء قول عمر الفاروق: "لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار، فينظروا من كان له جِدَة -يعني القدرة على الحج- ولم يحج فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين". رواه سعيد بن منصور في سننه، بل إنه يقول فيما صح عنه: "من أطاق الحج فلم يحج فسواء عليه يهوديًا مات أو نصرانيًا". وروي كذلك نحوه عن علي بن أبي طالب –رضي الله عنه-.

عباد الله: الحج واجب على كل مسلم مستطيع مرة واحدة في العمر، وذكر أهل العلم أن الحج يجب فورًا على كل مسلم عاقل بالغ حر مستطيع للحج يملك الزاد والراحلة، وقد ذكر أهل العلم أن القادر على الحج هو من يتمكن من أدائه جسميًا وماليًا بأن يمكنه الركوب ويطيق السفر ويجد من المال بُلْغته التي تكفيه ذهابًا وإيابًا، ويجد أيضًا ما يكفي أولاده ومن تلزمه نفقتهم إلى أن يعود إليهم، وذلك بعد قضاء الديون وأداء الحقوق الواجبة.

فإن كان من وجب عليه الحج قادرًا بماله دون بدنه كالكبير الهرِم أو المريض مرضًا مزمنًا لا يرجى برؤه، لزمه أن يقيم من يحج عنه ويعتمر العمرة الواجبة والحج الواجب؛ لما رواه ابن عباس أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله: إن أبي أدركته فريضة الله في الحج شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟! فقال: "حجي عنه". متفق عليه.

ولا يجب الحج على المرأة إلا بوجود محرم لها.

والحج واجب على الفور، ويحرم تأخيره؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- يقول فيما صح عنه: "تعجلوا إلى الحج -يعني الفريضة-؛ فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له". رواه أحمد بسند صحيح، وهو في صحيح الجامع. ويقول أيضًا: "من أراد الحج فليتعجل؛ فإنه قد يمرض المريض، وتضل الضالة، وتعرض الحاجة". رواه أحمد وابن ماجه بسند حسن، وهو في صحيح الجامع، ويقول آمرًا أمته: "أيها الناس: إن الله فرض عليكم الحج فحجوا". رواه مسلم.

فلنكن على علم بهذا -يا عباد الله-، وليبادر من فرط في هذا الأمر قبل فوات الأوان، فكم مفرط قد ندم، وكم متهاون فوجئ بحبل عمره قد انصرم، وكم سمعنا من يستفتي عن قريب له توفي ولم يحج، وخير لكل مسلم أن يؤدي فرضه ويحظى بأجره قبل أن يحج عنه؛ إما لوفاته أو لعجزه، ثم هل يستوي من حج بنفسه راضيًا راغبًا ومن حج عنه ذووه بعد أن مات ولم يحج فرضه بعد أن كان مستطيعًا قادرًا؟! حيث إن من مات قبل أن يحج فرضه وقد تحققت فيه شروط وجوب الحج وجب أن يخرج من تركته ما يحج به عنه.

عباد الله: في الحج من الفضائل ما يحدو النفوس ويجعل القلوب تهفو إلى بيت الله العتيق، فقد سئل النبي –صلى الله عليه وسلم-: أي العمل أفضل؟! قال: "إيمان بالله ورسوله"، قيل: ثم ماذا؟! قال: "الجهاد في سبيل الله"، قيل ثم ماذا؟! قال: "حج مبرور". رواه البخاري ومسلم.

والحج كفارة للذنوب: "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه". رواه البخاري ومسلم.

والحج المبرور جزاؤه الجنة: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة". رواه البخاري ومسلم. فيا سعادة من فاز بهذا الأجر فلبى نداء ربه وحرص على أداء فرضه!!

اللهم اجعلنا من عبادك المنيبين الطائعين المبشَّرين بقولك سبحانك: (فَبَشّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَـئِكَ هُمْ أُوْلُو الاْلْبَـابِ) [الزمر: 17، 18].

وسبحانك اللهم وبحمدك، نستغفرك ونتوب إليك.

 

 

 

الخطبة الثانية:


 

 

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، ملء السموات والأرض وملء ما شاء من شيء بعد، اللهم إنا نحمدك ونستعينك ونستغفرك ونستهديك، ونؤمن بك ونتوكل عليك، نشكرك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم لك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفِد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق.

أما بعد:

فيا أيها المؤمنون: اتقوا الله الذي خلقكم وسواكم ورزقكم، فما فاز إلا أهل التقوى، وما ربح إلا المستغفرون.

عباد الله: أما من عزم على الحج وقصده فليتزود من التقوى، وليسأل الله الإخلاص في العمل، فالله -عز وجل- طيب لا يقبل من العمل إلا الطيب، وهو ما كان خالصًا لوجهه مؤدًّى على هدي نبيه محمد –صلى الله عليه وسلم-، وليحرص الحاج على اجتناب ما لا يرضي الله سبحانه ليفوز بالثواب: "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة".

وليحرص من أراد الحج على سؤال أهل العلم في كل ما يشكل عليه في أمر مناسكه، ليكون حجه موافقًا لهديه –صلى الله عليه وسلم- القائل: "لتأخذوا عني مناسككم". رواه مسلم.

ويحسن بالحاج أن يقرأ فيما يناسبه من كتب المناسك حتى يفقه حجه ويحذر من الوقوع فيما نهى عنه، أما لو تيسر له صحبة أهل العلم فهو خير على خير، وخير ما يعين الحاج وييسر له أمره صحبة أهل الخير والصلاح، فصحبتهم زاد ورفقتهم تشترى.

أما من لم يرد الحج -وقد أدى فرضه- أو لم يتمكن منه فيمكنه اغتنام عشر ذي الحجة بالعمل الصالح وتحري الخير والإكثار من الذكر والدعاء وأداء القربات المشروعة؛ رجاء أن يكون من المرحومين المنافسين في الخيرات: (إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَـامُهُ مِسْكٌ وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَـافِسُونَ) [المطففين:22-26].

واعلموا -أيها المؤمنون- أنه يحرم على من عزم على الأضحية الأخذ من شعره وأظفاره من حين دخول شهر ذي الحجة إلى أن يضحي، وذلك لقوله –صلى الله عليه وسلم-: "إذا دخل شهر ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من ظفره ولا من بشرته شيئًا". رواه مسلم. وهذا الحكم خاص بمن سيضحِي، أما من سيضَحَّى عنه فلا يشمله هذا الحكم.

اللهم إنا نسألك من فضلك، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم يسر للحجيج حجهم، وأعنا وإياهم على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واجعلنا جميعًا من المقبولين...
 

  

  


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي