يصِفون المؤمنين بالسَّفه لإيمانِهم بالله، ويتهكَّمون منهم ومن دينهم، فلا يتركون مجلسًا أو مناسبةً إلاَّ وسلَّطوا ألسِنَتهم وأقلامَهم للنَّيل من المؤمنين، والغمْز في دينهم، وفي المقابل تَجِدهم معظِّمين للكفَّار، ولاؤهم لكفرة أهل الكِتاب، فالكفْر ملَّة واحدة وإن تعدَّدت أشْكاله واختلفت مشاربه.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد فيا أيها الناس: إن الإيمان ينبت في قلب المؤمن، وينمو بالعمل الصالح، وكلما تعبَّد العبد لربه؛ كلما زاد إيمانه، وعلى العبد أن يرعى ذلك الإيمان الذي نما في قلبه، ويتعاهده، فالإيمان كما هو مذهب أهل السنة والجماعة على مفهوم السلف الصالح يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ولربما نقص حتى يضمحل فلا يبقى منه مثقال حبة خردل والعياذ بالله، وهذا ما يسمى بالنفاق، عندما يتسمى المرء بالإسلام وهو لا يقوم بالعمل لله.
عباد الله: لقد حذَّر الله في كتابه ورسوله في سُنته من صفات المنافقين، وأصبحت صفاتهم بيّنة واضحة أشد البيان، ليحذر منها المؤمن، بل يهرب منها أشد الهرب؛ فالمنافقون بيَّن الله مآلهم في الآخرة بقوله: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا)[النساء:45]؛ نعوذ بالله من حالهم.
أيها المؤمنون: سنمرّ على بعض صفات المنافقين؛ ليحذر منها العبدُ، ولأن النفاق عمل قلبي، فربما خفي على العبد ووقع فيه وهو لا يشعر.
والنفاق عباد الله قد يكون عمليًّا، بحيث يكون القلب فيه إيمان، ولكن صاحبه يعمل عمل المنافقين أو بعض أعمالهم، وكلما زادت أعمال النفاق في العبد كلما زاد نفاقه حتى يصير منافقًا خالصًا -والعياذ بالله-؛ أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "أربعٌ مَن كُنّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت خصلة منهن فيه كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: من إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر".
وخرَّجاه في الصحيحين أيضًا من حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان". وفي رواية لمسلم: "وإن صلى وزعم أنه مسلم".
معاشر المؤمنين: من لم يكن يرضى أن يوصف بالنفاق، وكلنا ذلك الرجل، فلنجتنب صفاتهم وأفعالهم، حتى لا ينطبق علينا وصفهم في الكتاب والسنة.
وإن من أظهر صفات المنافقين منذ زمن النبوة إلى وقتنا هذا: تضييع الصلاة، سواء بتأخيرها أو التخلُّف عن أدائها جماعة في المسجد، أو بالتأخر عن حضورها، أو بالتغيب عن صلاة العصر والفجر، التي يقدم فيها العبد النوم على الصلاة.
أخرج مسلم في صحيحه من قول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: " مَن سَرَّهُ أَنْ يَلْقى اللَّهَ غَدًا مُسْلِمًا، فَلْيُحافِظْ على هَؤُلاءِ الصَّلَواتِ حَيْثُ يُنادى بهِنَّ، فإنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ صَلّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ سُنَنَ الهُدى، وإنَّهُنَّ مَن سُنَنَ الهُدى، ولو أنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ في بُيُوتِكُمْ كما يُصَلِّي هذا المُتَخَلِّفُ في بَيْتِهِ، لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، ولو تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ، وَما مِن رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فيُحْسِنُ الطُّهُورَ، ثُمَّ يَعْمِدُ إلى مَسْجِدٍ مِن هذِه المَساجِدِ، إلّا كَتَبَ اللَّهُ له بكُلِّ خَطْوَةٍ يَخْطُوها حَسَنَةً، وَيَرْفَعُهُ بها دَرَجَةً، وَيَحُطُّ عنْه بها سَيِّئَةً، وَلقَدْ رَأَيْتُنا وَما يَتَخَلَّفُ عَنْها إلّا مُنافِقٌ مَعْلُومُ النِّفاقِ، وَلقَدْ كانَ الرَّجُلُ يُؤْتى به يُهادى بيْنَ الرَّجُلَيْنِ حتّى يُقامَ في الصَّفِّ".
فالتخلف عن الصلاة لا يكون إلا من منافق معلوم النفاق، فمن الذي يرتضي أن يكون منافقا معلومَ النفاق؟!، والعياذ بالله.
وقد يصلي البعض جماعة في المسجد، ولكنه يتخلف عن صلاة الفجر مثلاً باستمرار كما هو الحاصل في كثير من المساجد للأسف؛ حيث يقلّ المصلون في صلاة الفجر في غير أيام الدراسة والعمل، فالسهر على المباح والمحرم ثم النوم عن صلاة الجماعة، أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ أَثْقَلَ صَلاةٍ على المُنافِقِينَ صَلاةُ العِشاءِ، وَصَلاةُ الفَجْرِ، ولو يَعْلَمُونَ ما فِيهِما لأَتَوْهُما ولو حَبْوًا، وَلقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بالصَّلاةِ، فَتُقامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فيُصَلِّيَ بالنّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي برِجالٍ معهُمْ حُزَمٌ مِن حَطَبٍ إلى قَوْمٍ لا يَشْهَدُونَ الصَّلاةَ، فَأُحَرِّقَ عليهم بُيُوتَهُمْ بالنّارِ".
عباد الله: إن الصلاة هي ميزان الإيمان، فإذا أردت أن تعرف درجة إيمانك فابحث عن صلاتك وحرصك عليها، وحبك لها، وتعلقك بها، وخشوعك فيها.
اللهم أعذنا من صفات المنافقين يا رب العالمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد فيا أيها الناس: لا شيء أقبح من النفاق وصفاته، ولا من صحبة المنافقين، وقد أسلفنا أن المنافق ينفضح في صلاته، التي هي ميزان الإيمان، فتراه يؤخرها عن وقتها، ويجمع الفرض والفرضين والثلاثة مع بعضها، يقدم أشغال الدنيا على الغرض الحقيقي الذي من أجله خُلِق، ثم إذا صلاها؛ صلاها خفيفة، ينقرها كنقر الدجاجة، لا يذكر الله فيها إلا قليلاً، ولا يصلي إلا من أجل الناس، لذا تراه لا يصلي متى أحس أنه لا يفقد أو كان في مكان لا يعرفه أحد.
عباد الله: إن للمنافقين صفات كثيرة منها ما سلف، ومنها ما يكون نفاقًا اعتقاديًّا ومخرجًا من الملة -والعياذ بالله-؛ فمن ذلك أنهم يشمتون بأهل الدين ويستهزئون بهم، كما صنع المنافقون في غزوة تبوك، ونزل فيهم القرآن (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ)[التوبة:65-66].
وتراهم يفرحون بانتصار المجرمين على أهل الخير، بل وينصرونهم في ذلك، ويفرحون بانتشار المنكرات وتسهيل سبل الشهوات، ويفرحون بهزيمة المسلمين. قال -تعالى-: (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا)[الفتح:12].
هكذا يظنُّون دائمًا بالمؤمنين عندما يبدو أنَّ كفَّة الباطل هي الرَّاجحة، وأنَّ القوَّة المادِّيَّة الظَّاهرة في جانب أعْداء أتْباع الرَّسول، وأنَّ المؤمنين قلَّة في العدد والعدَّة، فيظنُّون أنَّ في الجهاد نِهاية المطاف للمؤمنين، تنتهي دعوتُهم، وأنَّهم لن تقوم لهم قائمة إذا هم واجهوا الباطلَ؛ فقلوب المنافقين بورٌ لا حياةَ فيها، فهذه حال القلْب إذا خلا من حُسْن الظَّنِّ بالله؛ لأنَّه انقطع عن الاتِّصال بالله، لكنَّ الله يخيِّب ظنَّهم السيِّئ ويبدل المواقف، فيخفض أعداءَه ويرفع أولياءَه، تناسَوا حقيقة أنَّ هذا الدين محفوظٌ بِحفظ الله، وأنَّ الله تكفَّل بِحِفْظه ونصْرِه وإظهاره؛ (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)[التوبة:33].
وإن من علاماتهم: أنهم يتعاملون مع الناس من أجل الدنيا فقط، ولا ينظرون لعهد ولا ميثاق، بل يسعون جادين في الكسب من أيّ طريق وبأيّ طريق، يصحبونك ويثنون عليك إن نالوا منك حظًّا من الدنيا، ويسبونك ويهجرونك إن لم ينلهم شيء منك كما قال -تعالى-: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ)[التوبة:58].
ومن صفاتِهم: السخرية من المؤمنين ومن دينهم؛ (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ)[البقرة:13]، يصِفون المؤمنين بالسَّفه لإيمانِهم بالله، ويتهكَّمون منهم ومن دينهم، فلا يتركون مجلسًا أو مناسبةً إلاَّ وسلَّطوا ألسِنَتهم وأقلامَهم للنَّيل من المؤمنين، والغمْز في دينهم، وفي المقابل تَجِدهم معظِّمين للكفَّار، ولاؤهم لكفرة أهل الكِتاب، فالكفْر ملَّة واحدة وإن تعدَّدت أشْكاله واختلفت مشاربه.
ومن صفاتِهم: الأمرُ بالمنكر والنَّهي عن المعروف؛ (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[التوبة:67]، فأقوال المنافقين وأفعالُهم ضد كلِّ خيرٍ ومع كلِّ شر، فتجِدُهم نصبوا أنفسهم حربًا على المعْروف وأهلِه، أوصياءَ على المنكر وأهلِه، لا يروْن بابًا من أبْواب الخير إلا سعَوْا في صدِّ النَّاس عنْه، وتنفيرِهم منه، هذه هي طبيعتهم؛ (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ)[المنافقون:7]، (وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ)[التوبة:81]، (وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا)[الأحزاب:13].
هم مفتتِحو باب كلِّ رذيلةٍ، داعون إليْها، دعاة على أبواب جهنَّم، مَن أجابَهم قذفوه فيها فاصطلى بنارِها في الدُّنيا قبل الآخرة؛ أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمَانِ: قُلْتُ: يا رسول الله، فهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قالَ: "نعَمْ، دُعَاةٌ على أبْوابِ جَهَنَّمَ، منْ أجابَهُمْ إليْها قَذَفُوهُ فِيها"، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لنا، قَالَ: "هُم مِنْ جِلْدَتِنا ويَتَكَلَّمُونَ بِألْسِنَتِنا"، قُلْتُ: فما تَأْمُرُني إنْ أدْرَكَنِي ذَلِك؟ قَالَ: "تَلْزَمُ جَمَاعةَ المُسْلِمينَ وإمَامَهُم"، قُلْتُ: فإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَماعَةٌ وَلا إمامٌ؟ قَالَ: "فاعْتَزِلْ تِلْكَ الفِرَقَ كُلَّها، ولَوْ أنْ تَعَضَّ بِأصْلِ شَجَرَةٍ، حَتَّى يُدْرِكَك المَوْتُ وأنْتَ على ذَلِكَ".
اللهم أعذنا من النفاق وأهله...
وصلوا وسلموا...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي