إن أمور الخلائق كلَّها بيد الله -تبارك وتعالى-، وأزِمَّةَ الأمور معقودةٌ بقضائه وقدره يُصَرِّفُها كيف يشاء، ويقضي فيها بما يشاء، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ما شاء كان في الوقت الذي يشاء، على الوجه الذي يشاء، من غير زيادة ولا نقصان ولا تقدم ولا تأخر، وحكمته -جلَّ وعلا- نافذة في السماوات وأقطارها وفي الأرض وما عليها وما تحتها وفي البحار والجو...
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين وقدوة عباد الله أجمعين محمد بن عبد الله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فإني أوصي نفسي وإخواني بتقوى الله -جلَّ وعلا- ومراقبته في السر والعلانية, فإن تقوى الله -جلَّ وعلا- هي رأس السعادة وسبيل الفلاح والفوز في الدنيا والآخرة, ثم أذكر الإخوة الكرام الذين أكرمهم الله -عزَّ وجلَّ- بشهود هذه الصلاة وحضور هذا الجمع المبارك أن يتريثوا لمشاركة المسلمين في دعوتهم كما شاركوهم في هذه الصلاة العظيمة، ومن مقاصد هذا الاجتماع الصلاة والدعاء؛ دعاء الله -عزَّ وجل- بأن يُنَفِّسَ كربة المسلمين ويُفَرِّجَ هَمَّهم؛ ولهذا ندعو الإخوة جميعا للصبر والتريث؛ لأنه يلاحظ على بعض الإخوة أنهم يحضرون لهذه الصلاة لكن لا يلبثون لسماع التذكير والدعاء. نسأل الله -جل وعلا- أن يكتب لنا جميعًا صلاة مقبولة ودعاء مقبولاً، وأن يُغيثَنا ويغيث العباد.
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -جلَّ وعلا- في السراء والضراء، والتعرُّفَ على الله -جلَّ وعلا- في الشدَّة والرخاء، واعلموا أنكم فقراء إلى الله -جل وعلا- في كل وقت وحين، لا تستغنون عن نعمته ورحمته وفضله طرفة عين، يقول الله -جلَّ وعلا-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) [فاطر: 15-17].
عباد الله: إن أمور الخلائق كلَّها بيد الله -تبارك وتعالى-، وأزِمَّةَ الأمور معقودةٌ بقضائه وقدره يُصَرِّفُها كيف يشاء، ويقضي فيها بما يشاء، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ما شاء كان في الوقت الذي يشاء، على الوجه الذي يشاء، من غير زيادة ولا نقصان ولا تقدم ولا تأخر، وحكمته -جلَّ وعلا- نافذة في السماوات وأقطارها وفي الأرض وما عليها وما تحتها وفي البحار والجو، وفي سائر أجزاء العالم وذرَّاته، يُقَلِّبُها ويُصَرِّفُها ويُحدِثُ فيها ما يشاء: (مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) [فاطر: 2].
أحاط -جلَّ وعلا- بكلِّ شيء علمًا وأحصى كلَّ شيء عددًا، ووسع كلَّ شيءٍ رحمة وحكمة، له الخلق والأمر، وله الملك والحمد، وله الدنيا والآخرة، وله النعمة والفضل، وله الثناء الحسن، شملت قدرته كلَّ شيء، ووسعت رحمته كلَّ شيء: (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن: 29] فيغفر ذنبًا، ويفرِّج كربًا، ويجبُر كسيرًا، ويُغني فقيرًا، ويشفي مريضًا، ويعافي مبتلى، ويشبع جائعًا, ويكسو عريانًا، لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، يمينه -جلَّ وعلا- ملأى، لا تغيضها نفقة، سحَّاء الليل والنهار، لا يتعاظمه ذنب أن يغفره، ولا حاجة يُسألها أن يعطيها، لو أنّ أهل سماواته وأهل أرضه إنسهم وجنَّهم، حيّهم وميتهم، رطبهم ويابسهم، قاموا في صعيد واحد فسألوه، فأعطى كل واحد منهم ما سأل، ما نقص ذلك مما عنده مثقال ذرَّة: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس: 82]، يقول -جلَّ وعلا- في الحديث القدسي: "يا عبادي: لو أن أوَّلكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد منكم مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، إلا كما ينقص المخيط إذا غُمس في البحر".
عباد الله: إنكم تعلمون ما يحصل من الضرر بتأخر الأمطار، وقلة نزولها وما يترتب على ذلك من نقص في الزروع والثمار والبهائم؛ إذ الماء هو مادة حياتها، كما قال الله -جلَّ وعلا-: (وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) [الأنبياء: 30]، وتعلمون -رحمكم الله- أنكم محتاجون إلى الماء غاية الحاجة، ومحتاجون إليه أشدَّ الاحتياج، ولا يُنْزِل الغيثَ إلا الله، الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء؛ ولهذا -عباد الله- شُرع للناس إذا أجدَبَتِ الأرضُ وقَحِطَ المطر الفزعُ إلى الصلاة والدعاء والاستغفار.
روى أبو داود والبيهقي والحاكم من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: شكا الناس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قُحوطَ المطر، فأمر بمنبر فوُضع له في المصلى، ووعد الناس يومًا يخرجون فيه، قالت عائشة: فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر فكبَّر -صلى الله عليه وسلم-، وحمد الله -عزَّ وجل-، ثم قال: "إنكم شكوتم جدب دياركم، واستئخار المطر عن إبَّان زمانه عنكم، وقد أمركم -عزّ وجل- أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم، ثم قال -صلوات الله وسلامه عليه-: "الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم ملك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلته قوة وبلاغًا إلى حين"، ثم رفع يديه فلم يزل في الرفع حتى بدا بياض إبطيه، ثم حول إلى الناس ظهره، وقلب أو حوّل رداءه وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس ونزل فصلى ركعتين، فأنشأ الله -جلَّ وعلا- سحابة فرَعَدَت، وبَرَقَت، ثم أمطَرَت بإذن الله -تبارك الله وتعالى-، فلم يأتِ مسجدَه حتى سالت السيولُ، فلما رأى سرعتهم -صلوات الله وسلامه عليه- إلى الكن ضحك -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه، فقال: "أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبد الله ورسوله". والسياق لأبي داود، وقال: هذا حديث غريب، إسناده جيد.
وقد ورد في هذا الحديث وغيره تقديم الخطبة على الصلاة، وجاء في بعض الأحاديث عكس ذلك، أي تقديم الصلاة على الخطبة، وهي تدل على أن كلا الأمرين جائز، وكان من هديه -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج للاستسقاء أن يخرج متذللاً متواضعًا متخشعًا متضرعًا.
عباد الله: وقد أرشدنا الله عند احتباس المطر إلى أن نستغفره من الذنوب التي بسببها حُبِسَ عنا المطر، وقال تعالى عن نوح -عليه السلام- أنه قال لقومه: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً) [نوح: 10]، وقال عن هود -عليه السلام- أنه قال لقومه: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) [هود: 52]، وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) [الأعراف: 96]، وقال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام، الآية: 42-43]، أعاذنا الله وإياكم من سبيل هؤلاء.
فاتقوا الله -عباد الله- وتوبوا إلى الله، واستغفروه وتضرَّعُوا إليه، وألحُّوا عليه -جلَّ وعلا- بالدعاء، وارفعوا أيديكم، وتوجهوا بقلوبكم، داعين مؤملين منه الفرج، وإزالة الشدَّة، فإنه -تبارك وتعالى- هو الذي يغيث المكروب، وهو الذي يجبر الكسير، ويغيث اللهفان.
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا، اللهم اغفر لنا ذنبنا كلَّه، دقَّه وجله، أوَّله وآخره، سره وعلنه، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلننا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات, اللهم اغفر ذنوب المذنبين وتب على التائبين واغفر لنا أجمعين، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا فأرسل السماء علينا مدرارًا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم رحمتك نرجو فلا تكلنا إلى أنفسنا طَرْفَةَ عين، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، وديارنا بالمطر، اللهم ارحم بلادك وعبادك وبهائمك وبلدك الميت يا حي يا قيوم.
اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من اليائسين، اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا هنيئًا مريئًا، سحًّا طبقًا، نافعًا غير ضارّ، عاجلاً غير آجل، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من اليائسين، ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم إنا خلق من خلقك، وعباد من عبادك، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك، اللهم إن رحمتك أرجى عندنا يا حي يا قيوم، فلا تكلنا إلى أنفسنا، ولا تكلنا إلى أحد من خلقك طرفة عين يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من اليائسين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا.
اللهم إنا نتوسل إليك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العظيمة، وبأنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت، يا من وسعت كلَّ شيء رحمة وعلمًا، أن تسقينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم لا تردنا خائبين، اللهم لا تردنا خائبين، اللهم لا تردنا خائبين، اللهم إنك أمرتنا بالدعاء ووعدتنا عليه بالإجابة، وأنت القائل يا الله: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة: 186].
اللهم لك استجبنا وبك آمنا، وإياك دعونا، فأجب دعوتنا، وحقق رجاءنا، وأعطنا سؤلنا، ولا تردنا خائبين، إلهنا إن منعتنا فمن الذي يعطينا، وإن طردتنا فمن الذي يؤوينا، اللهم لا تَكِلْنَا إلا إليك، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، عباد الله: اقتدوا بنبيكم -صلى الله عليه وسلم- بقلب الرداء تَأَمُّلاً وتفاؤُلاً بتغيُّر الحال، ونسأل الله -عز وجل- أن يتقبل منا ومنكم, وأن يغفر لنا ولكم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي