إن صاحب المبدأ الثابت على الحق، لا يزحزحه عن منهجه شيء، فلا يترك رضا الله ليُرضي الخلقَ، ويتبع أهواءهم، فهذا نبي الله يوسف -عليه السلام- ظلت امرأة العزيز تراوده عن نفسه، وتحاول مرارا إثارة غريزته البشرية لإغوائه، وتبذل كلَّ ما تستطيع في سبيل إغرائه، وهو في كل ذلك لا يلتفتُ إليها...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الواحد القهَّار، العزيز الغفَّار، اختصَّ مَنْ شاء من عباده برحمته، فجعلهم من المصطفين الأخيار، وعلَّق قلوبَ أوليائه بمحبته وذِكْره بالليل والنهار، فكانوا من الأصفياء الأنقياء الأبرار، وآتاهم تقواهم فآثَروا الآخرةَ، ولم ينشغلوا بهذه الدار، ولزموا الجادَّةَ، ولم يتنكَّبُوا الطريقَ، فنَجَوْا من الهلكات والخسار، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، إقرارا بوحدانيته واعترافا بربوبيته، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، وصفِيُّه من خَلْقِه، وأعرفهم بالله -تعالى-، وأعلمهم وأخشاهم وأبرُّهم وأكرمهم وأتقاهم، وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه، وتمسَّك بسُنَّته وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي -عبادَ اللهِ- بتقوى الله، فهي سبيل الهدى والرشاد، وخير ما يتزوَّد به العباد ليوم المعاد، (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)[الْبَقَرَةِ: 197].
أيها المسلمون: إن العبد المؤمن جادٌّ في سيره إلى الله، مثابِر في طريقه للوصول إلى مرماه، لا يُوقِفُه عن هدفه عارض، ولا يُعِيقه عن الوصول إلى مبتغاه عائق؛ لأن ما هو فيه من المهام العظام والمقاصد الجسام يمنعه أن يلتهي عنه بشيء يُردِيه، أو أن يلتفت لما لا يعنيه، فقد عزَم على السير وجَدَّ، وشمَّر عن ساعد الجِدِّ، تعالوا -عبادَ اللهِ- لنتعرف على هذه الحقيقة، من خلال معرفة هديه -صلى الله عليه وسلم- والمنهج الذي سار عليه؛ لنلزمه ونكون على الجادة، روى الحاكم (في المستدرَك)، عن جابر -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا مشى لم يلتفت" والمعنى: أنه كان يُواصِل السيرَ ويترك التواني والتوقف، وتلكم الخصلة -أرشدني اللهُ وإياكم- حريٌّ بالمرء أن يتلافاها، فتلفُّتُه في المشي يمنةً ويسرةً دون النظر أمامَه يُبطئ السيرَ في الطريق، ويسبِّب التوانيَ والتوقفَ والتلكؤَ في المشي، وهذا خلاف هديه -صلى الله عليه وسلم- الذي كان إذا مشى لحاجة مشى ومضى وعَزَم، ولم يكن يتباطأ في مِشيته، فمتى لم تكن للمرء حاجة للتلفُّت حالَ سيره فيقبح به ويعيب أن يلتفت في مشيته.
إن العاقل -عبادَ اللهِ- لا يلتفت إلا إذا كان لالتفاته معنى، فتكون هذه الالتفاتة منه في محلها، وليست عبثًا، فقد يحتاج المرء أن يلتفت لأمر يسترعي انتباهَه ويستدعي التفاتَه، ولم يكن -عليه الصلاة والسلام- مقتصرا على ترك الالتفات في الطريق الذي يسلكه وحَسْبُ، بل كان لا يلتفت لما هو أعظم من ذلك؛ إذ كان لا يكترث بمن يقف في طريق دعوته، ومن يضع العراقيل أمامَه ليصدَّه عن مهمته، من تلك المواقف الجليلة الدالة على أنه -صلى الله عليه وسلم- كان ثابتا رابط الجأش، لا يلتفت لإساءة السفهاء وأذيتهم، ولا يعبأ بقصدهم وخبث طويتهم ما (رواه البخاري ومسلم) عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "استأذن رهطٌ من اليهود على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: السامُ عليكَ؛ -أي الموت-، فقلتُ: بل عليكم السامُ واللعنةُ، فقال: يا عائشة، إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، قلتُ: أَوَلَمْ تسمع ما قالوا؟ قال: قد قلتُ: وعليكم"، ولَمَّا قامت قريشٌ تسبُّه -عليه الصلاة والسلام- وقامت تلك المرأة تقول: مُذَمَّمًا عَصَيْنَا وَدِينَهُ أَبَيْنَا، قال عليه الصلاة والسلام: "ألا تعجبون؟ كيف يصرف الله عني شتمَ قريش ولعنَهم؛ يشتمون مذمَّمًا ويلعنون مذمَّمًا، وأنا محمد"(متفق عليه)؛ فكان يُعرِض عن سبِّهم وقدحهم فيه؛ بأبي هو وأمي، ولا يلتفتُ إلى التفاهات والترهات وسفاسف الأمور، ولا ينقطع عن دعوته إلى الله ولا يتوقف.
سِرْ لَا تَقِفْ؛ فَالدَّرْبُ لَا يَأْتِي إِلَيْكَ *** وَالْحُلْمُ لَا يَجْرِي لِيَسْقُطَ فِي يَدَيْكَ
هِيَ هَكَذَا الْأَيَّامُ سَعْيٌ دَائِمٌ *** إِنْ تَلْتَفِتْ لِلْخَلْفِ تَخْسَرْ مَا لَدَيْكَ
وحريٌ بمن أراد السلامةَ لنفسه، والحمايةَ لعِرْضه أن يُعرِض عن سفه الجاهلين، وألا يقابلهم بجهلهم المتين، حاله:
وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي *** فَأَجُوزُ ثَمَّ أَقُولُ: لَا يَعْنِينِي
وقال رجل لرجل وسبَّه، فلم يلتفت إليه: إياك أعني، فقال له الرجل: وعنك أُعرِضُ، وما أجمل ما نُقِلَ عن الإمام الشافعي -رحمه الله- في هذا:
قَالُوا: سَكَتَّ وَقَدْ خُوصِمْتَ قُلْتُ لَهُمْ: *** إِنَّ الْجَوَابَ لِبَابِ الشَّرِّ مِفْتَاحُ
وَالصَّمْتُ عَنْ جَاهِلٍ أَوْ أَحْمَقٍ شَرَفٌ *** وَفِيهِ أَيْضًا لِصَوْنِ الْعِرْضِ إِصْلَاحُ
أَمَا تَرَى الْأُسْدَ تُخْشَى وَهْيَ صَامِتَةٌ *** وَالْكَلْبُ يَخْسَا -لَعَمْرِي- وَهْوَ نَبَّاحُ
وعدم مداراة أهل الجهل والباطل وعدم الالتفات لقولهم هو من مظاهر الحكمة ودلائل العزة؛ فقد أثنى اللهُ على قوم ديدنهم أنهم متى سمعوا كلاما لا يليق وُجِّهَ إليهم من السفهاء أعرضوا عنه كأنهم لم يسمعوه ولم يشغلوا أنفسَهم بالرد عليهم، ولم يخاطبوهم بمقتضى جهلهم الصريح؛ فيقابلوهم بمثله من الكلام القبيح، قال تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ)[الْقَصَصِ: 55]، والواجب على المرء ألَّا يلتفتَ لِمَا يقوله الناسُ عنه إذا كان على الجادَّة، وينبغي ألا يُؤَثِّر عليه كلامُهم إذا كان في الإصغاء إليهم ترك ما يجوز، أو فعل ما لا يجوز؛ ولذلك قال الله لنبيِّه -صلى الله عليه وسلم-: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)[الْحِجْرِ: 97-99]، فهذا توجيه رباني للتعامل مع ما سيقوله الناس، وعلاج نافع لكلامهم، كثرة ذكر الله والصلاة والمضي في العبادة حتى الموت.
أيها الإخوة في الله: مَنْ كَثُرَ إلى غير مطلوبه التفاتُه عَظُمَتْ غفلاتُه وضاعت أوقاتُه، ويكفيه خسارةً أن كل التفاتة منه تعطِّل سيرَه وتُضعِفُ إتقانَه؛ فليكن شعاره: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)[الْأَعْرَافِ: 199]، فالعاقل يسير وفق ما اختطَّ لنفسه، وحدَّد من أهداف كريمة، ومطالب عالية، فيمضي ولا يلتفت إلا لمراجَعة عمله وتصحيحه وتحسينه.
والالتفات غير المجدي قد يقطعه عن وجهته، ويحُول دون تحقيق بغيته، ويُوقِعه في آفة التسويف، ويُقعِده عن أداء التكليف، ومن المهم أيضا -عبدَ الله- عند عدم التفاتك لطعن الناس فيك، وانتقادهم لكَ أن تنظر في الأمر؛ فإن كان ما ذكروه عنكَ من قدح حقًّا فلتكن إيجابيًّا وتجعل ذلك سببًا في ترقِّيكَ، وعنوان تساميكَ، ومراجعة أعمالكَ، واستدراك أخطائكَ، وبهذا تتقدَّم ويصلح حالك، ويحسن مآلك بإذن الله تعالى.
أيها المسلمون: ومِنْ نُصْحِه -صلى الله عليه وسلم- لأمته أن بيَّن لهم كيف يكون الالتفات في بعض الأحوال قادحًا؛ بأن يمنع صاحبه من الخير، ويذهب عليه الأجر، ففي (صحيح البخاري) عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "سألتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- عن الالتفات في الصلاة فقال: هو اختلاس يختلسه الشيطانُ من صلاة العبد"، وعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا يزال الله -عز وجل- مُقبِلًا على العبد في صلاته ما لم يلتفت؛ فإذا صرَف وجهَه انصرف عنه"(أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي).
والالتفات في الصلاة يشمل أيضا التفات القلب؛ وذلك بأن يشتغل الشخصُ بأمور الدنيا، ويشتغل عمَّا هو فيه من الإقبال على الله -تعالى- بوجهه وبدنه؛ بألَّا يلتفتَ إلى سواه -جل وعز-، وكِلَا الالتفاتين البدني والقلبي يُنقص الثوابَ والأجرَ في الصلاة، وإن كان التفات الوجه يَحْذَرُه كثيرٌ من الناس ويتحاشاه، لكنَّ التفات القلب أعظم منه؛ ولذلك يجوز التفات البصر عند الحاجة، أمَّا قلبُه فينبغي أن يكون في كل الأحوال مُقبِلًا على الرب -جل في علاه-، فمن استشعر هذا في صلاته أوجَب له ذلك حضورَ قلبه بين يدَيْ ربه، وخشوعَه له، وتأدُّبَه في وقوفه بين يديه، فلا يلتفت إلى غيره بقلبه ولا ببدنه.
هذا وقد أصبحت عادة بعض الناس -وللأسف- أن يعبث في صلاته فيتلفت ببصره ويُكثِر الحركةَ من غير داعٍ، ولا يَثبُت ولا يطمئنُّ، ومنهم من إذا قضى صلاتَه مع الإمام أدار عنقَه ينظر يمينا وشمالا، وربما خلفَه لغير حاجة، وتجده لا ينفك عن هذه العادة وخاصة بعض كبار السن، فينشغل عن التسبيح والأذكار بعد الصلاة ولا يُقبل بقلبه عليها، فيتدبَّر معانِيَها، ويستثنى من هذه المسألة -عبادَ اللهِ- إذا كان النظر والالتفات في الصلاة لحاجة، ويدل على ذلك ما جاء في (صحيح البخاري) أنه لَمَّا أمَّ أبو بكر -رضي الله عنه- الصحابة في الصلاة وجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهم يُصَلُّونَ صفَّق الصحابةُ ليُنَبِّهوا أبا بكر فلم يلتفت، وكان لا يلتفت في صلاته، فلمَّا أكثَر الناسُ من التصفيق التفتَ، ثم أوضَح لهم صلى الله عليه وسلم: "أنَّ مَنْ نابَه شيءٌ في صلاته فليقل: سبحان الله؛ فإن التصفيق للنساء"، ومعنى أن أبا بكر كان لا يلتفت في صلاته؛ أي أنه كان مُقبِلًا عليها مشتغِلًا بها، لا يلتفت عن يمينه ولا عن شماله، كان يفعل ذلك ويداوم عليه، حتى وُصِفَ به وعُرِفَ من حاله.
أيها الإخوة: وإذا ما تساءلنا عن مغزى النهي عن الالتفات في قوله -تعالى-: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ)[هُودٍ: 81]، فالجواب كما ذكَر بعضُ العلماء أن هذا توجيه من الله -تعالى- لنبيِّه لوط -عليه السلام- لَمَّا أمرَه أن يسري بأهله عن الالتفات لئلا ينقطعوا عن السير المطلوب منهم، وليبادروا بالخروج من القرية، وأن يكون همُّهم النجاةَ أن يصيبهم ما أصاب قومَ السوء الفاسقين، وتضمن قوله -تعالى-: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ)[الْحِجْرِ: 65]، تضمَّن قاعدةً قرآنيةً عظيمةً نفيسةً، جديرةً بالتأمل، نجد ذلك في النهي والأمر: (وَلَا يَلْتَفِتْ)[الْحِجْرِ: 65]، (وَامْضُوا)[الْحِجْرِ: 65]، فهي دعوة لأن يطوي المرء صفحات الماضي المؤلم الذي لا يذكر من طي الْمَشاهِد، وطي الأشخاص، وطي اللحظات، وطي المراحل، وطي الآلام والمكابَدة والأحزان.
إن كثرة الالتفات معيقة، وإن إمضاء الخطى على الطي معينة، ويُلحَظ -عباد الله- أن النهي عن الالتفات في قوله: (وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ)[الْحِجْرِ: 65]، جاء متوافقا مع قصة خليل الله إبراهيم -عليه السلام- عندما جاء مكةَ، والشاهد فيها: "ثم قفى إبراهيم منطلقا بعد أن وضَع هاجرَ وإسماعيلَ حيث أمرَه اللهُ، فتبعته أمُّ إسماعيل فقالت: يا إبراهيمُ، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا، وجعَل لا يلتفت إليها، فقالت له: آللَّهُ الذي أمرَكَ بهذا؟ قال: نعم. قالت: إِذَنْ لا يضيعنا، ثم رجعَتْ"، والتوافق في قوله: "وجعَل لا يلتفت إليها"، بل جعل وجهه حيث أمر، فلم يلتفت عن قصده حِسًّا ولا معنًى، وكذلك ما جاء في (صحيح مسلم) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال يوم خيبر: "لأعطينَّ هذه الرايةَ رجلًا يحب اللهَ ورسولَه، يفتح الله على يديه"، فأعطاها عليَّ بنَ أبي طالب وقال: "امشِ ولا تلتَفِتْ حتى يفتح الله عليك"، قال: "فسار عليٌّ شيئا ثم وقَف ولم يلتفت"، فلنحظ التوافقَ في قوله: "امشِ ولا تلتفت"، فسار شيئًا ثم وقَف ولم يلتفت عن قصده حِسًّا ولا معنًى، والمعنى المشتَرَك في الآية والخبرين هو المنع عن الالتفات خشيةَ أن يُشغَل المرءُ عن إدراك ما كُلِّفَ به.
معاشرَ المسلمينَ: من المهم أن ندرك بجلاء أن عدم الالتفات يُعَدُّ علاجًا لبعض الأدواء؛ فمثلا أساس علاج الوساوس الشيطانية لمن ابتُلِيَ بها عدم الالتفات لهذه الخواطر والهواجس، وعدم الاكتراث والاسترسال معها، بل يكف عن ذلك؛ لأن الإنسان إذا أعطاها اهتمامًا والتفتَ إليها زادَتْ واستحكمَتْ وتمكَّن منه الشيطانُ، وقد ذكَر العلماءُ قاعدةً محكمةً في هذا بالباب بأنه: لو كَثُرَ الشكُّ عند العبد في وضوء وغُسْل وإزالة نجاسة وتيمُّم فإنه يطرحه ولا يعتد به.
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسُّنَّة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول هذا القول وأستغفر الله الجليل لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب وخطيئة، وتوبوا إليه، إن ربي غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي وسع علمُه جميعَ العباد، وخصَّ أهلَ طاعته ومراقبته بسلوك سبيل الرشاد، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أدخرها ليوم المعاد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، تركنا على المحجة، وأوضح لنا طريق الهدى والسداد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم التناد.
أما بعد: فيا عباد الله: إن صاحب المبدأ الثابت على الحق، لا يزحزحه عن منهجه شيء، فلا يترك رضا الله ليُرضي الخلقَ، ويتبع أهواءهم، فهذا نبي الله يوسف -عليه السلام- ظلت امرأة العزيز تراوده عن نفسه، وتحاول مرارا إثارة غريزته البشرية لإغوائه، وتبذل كلَّ ما تستطيع في سبيل إغرائه، وهو في كل ذلك لا يلتفتُ إليها، بل يهرب منها، وينأى بنفسه عن الوقوع في سخط الله، ويُعرِض عن الفتنة وما دعته إليه من الرذيلة، فتبقى صفحتُه بيضاء نقية، ويخلَّد اسمُه في سِجِلِّ الأبرارِ الأتقياءِ الأنقياءِ الأطهارِ الورعينَ المتعففينَ الأخيارِ.
وَنِسَاءُ الْأَرْضِ لَمَّا أَنْ بَدَتْ *** أَقْبَلَتْ نَحْوِي وَقَالَتْ لِي: إِلَيَّ
فَتَعَامَيْتُ كَأَنْ لَمْ أَرَهَا، عِنْدَمَا *** أَبْصَرْتُ مَقْصُودِي لَدَيَّ
كَيْفَ أَلْقَى اللَّهَ رَبِّي آثِمًا *** يَوْمَ حَشْرِ النَّاسِ إِذْ غُلَّتْ يَدَيَّ
بِئْسَتِ اللَّذَّةُ إِنْ كَانَ بِهَا غَضَبُ *** الْجَبَّارِ وَالسَّخَطُ عَلَيَّ
فَمَعَاذَ اللَّهِ هَذِي صَيْحَةٌ قَالَها *** يُوسُفُ قُلْهَا يَا أُخَيَّ
عباد الله: ومما يجدر التذكير به أنه متى ما أراد المرء أن يُنجِز أعمالَه، ويسبق في مضمار الخير فليحذر ما يُعَطِّله عن إكمال ما شَرَعَ فيه؛ بأن يلتفت إلى تلك الشواغل والصوارف التي قد تؤدي إلى توقُّفه عمَّا هو فيه؛ كأن يشرع في أداء عمل أو إنجاز مهمة وهو في أثناء ذلك يلتفت إلى هاتفه المحمول يتابعه على كل حال، وفي كل حين، ويكرر ملاحظته على الدوام؛ ليتبين من اتصل عليه أو أرسل رسالة إليه؛ فيقبل على هذا الأمر الشاغل ويترك ما هو فيه من الشغل الحاضر الذي ينبغي أن يقضيه ويُتِمَّه، ولا ينصرف عنه، وبهذا التشاغل والتناهي يكون المرء قد ضيَّع أوقاتَه وانشغل بهذه المقتنَيات وجعلها تتحكَّم فيه، مع أن المتحتِّم على المسلم أن يراعي واجبَ الوقت؛ بحيث يؤدي في كل وقت ما هو مطلوب منه دون أن ينشغل بسواه.
عبادَ اللهِ: إن من الظواهر الخطيرة التي بُلِيَ بها كثير من المسلمين وارتُكب بسببها العديدُ من المخالَفات والمنهِيَّات، والتي تُعَطِّل المرءَ عن العمل الجاد وموافقة الحق -ظاهرة الالتفات لما يقول الناسُ، والخوف من كلامهم، وتقليدهم في عاداتهم الباطلة وأهوائهم، حتى أصبح بعضهم يخاف من كلام الخلق أكثر مما يخاف من الخالق -تعالى-، ويتَّقي كلامَهم أكثر مما يتقي النار عياذًا بالله، إنك عندما تتأمل في حال كثير من الناس ممن تركوا اتباع الهدى وسلكوا سبيل الردى، ونظرتَ في سبب ارتكابهم لكثير من المنهِيَّات الشرعية؛ كالإسراف والتبذير وعدم تحرِّي الحلال في كسب الأموال ورد الأَكْفَاء من الخاطبين، وتأخير الزواج وغلاء المهور، وتعاطي بعض المحرمات من المأكولات والمشروبات، وإضاعة الأوقات في اللغو واللهو وارتياد أماكن الفحش والمنكَرات، والثرثرة في المدارس والمنتديات تجدهم يقعون في هذه الأفعال وغيرها التفاتًا لأقوال الناس وإرضاءً لمبتغاهم، مع أن الشرع يرفضها ولا يُقِرُّها، ولا ينقضي عجبُكَ عندما تراهم لا يكتفون بارتكاب المحظورات، بل يذمُّون مَنْ لا يُتابِعُهم عليها ويقلِّدهم، ويعيبون على مَنْ لا يقتدي بهم ويوافقهم، وكأن هذا المخالِف لهم ترَك شيئًا من أصول الدين، أو أهمَل واجبًا من واجبات الشرع القويم.
ألَا وصلُّوا وسلِّمُوا -رحمكم الله- على النبي المصطفى إمام الهدى وقدوة الورى، (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وعلى أزواجه وذريته كما صليتَ على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، وانصر عبادك الموحدين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا رخاء وسعة، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا رخاء وسعة، وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في الأوطان والدُّور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم كن لإخواننا المستضعفين والمجاهدين في سبيلك، والمرابطين على الثغور، وحماة الحدود، اللهم كن لهم معينا ونصيرا، ومؤيِّدا وظهيرا، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-182].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي