فاحذر يا عبدَ اللهِ أن توافي ربَّكَ يومَ القيامة بأعمال صالحة أمثال الجبال، ثم لا تنفعك؛ لأنك قد تهاوَنْتَ وتساهلتَ، تهاونتَ وتساهلتَ فأقدمتَ على ما يُذهِب ثوابَها وحسناتها وأجرها، فكيف
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله حمدا يليق بقُدْسِه، سبحانه لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشكره على إنعامه المتواصل، وخيره المتكاثر، واللسانُ عن شُكْرِه قاصِر، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة ترجُح في الميزان، وتُوصل إلى أعالي الجِنان، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، أرسَلَه رحمةً للعالمينَ، وسراجًا منيرًا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، أذهَب عنهم الرجزَ وطهَّرَهم تطهيرًا، وعلى أصحابه الغُرِّ الميامينِ، أعزَّ بهم دينه، ونصره بهم نصرا كبيرا، وأتباعه بإحسان وسلم تسليما كثيرا.
أما بعدُ: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله؛ فاتقوا الله -رحمكم الله-، فالعز بطاعة الله مربوط، والذُّلُّ للمعصية قرين، واستعِيذوا بالله من شرك يهدم التوحيدَ، وبدعة تقضي على السُّنَّة، وهوى يمنع الإخلاصَ، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تشغل عن الذِّكْر، (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)[الْبَيِّنَةِ: 5].
أيها المسلمون: العبادة بغير نية عناء، والنية بلا إخلاص رياء، والإخلاص من غير اتباع هباء، ورأس مال العبد نَظَرُه في حقوق ربه، ثم نَظَرُه هل أتى بهذه الحقوق على وجهها.
عباد الله: فعلُ الطاعات وأداء العبادات فيه كُلْفة، فقد يلاقي العبدُ بعضَ المشقة في أدائها، لكن الأهم من ذلك كله -يا عبد الله- المحافَظة على هذه الطاعات، والحرص على هذه العبادات حتى لا تذهب هباء، ولا تضيع سُدًى، فترى العبدَ يحافظ على الصلوات الخمس، مع المسلمين في مساجدهم، ويصوم ويحج ويعتمر ويزكي ويصل الرحم، ويعمل أعمال الخير والبر، ثم يستحوذ عليه الشيطان فيُوقِعُه في المحبِطات والمبطِلات، فيذهب تعبه، ويخسر آخرته عياذا بالله.
عباد الله: مُحبِطات الأعمال هي أشد ما ينبغي الحذر منه، والتنبه له، والإحباط هو إبطال الحسنات بالسيئات، ومن المحبطات ما يُحبِط العملَ كلَّه؛ من الكفر والردة والنفاق الأكبر الاعتقادي والتكذيب بالقدر -عياذا بالله-، وهذا هو الإحباط الكلي، ومنها إحباط جزئي لا يذهب بالإيمان، ولكنه قد يُحبِط العبادةَ التي يقترن بها، وقد يترقَّى إلى الإحباط الحقيقي، نسأل الله العافية، وقد قال الله -عز وجل- في الكفر وأهله: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْمَائِدَةِ: 5]، وقال عز شأنه: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[هُودٍ: 15-16]، وقال في الشرك: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ)[التَّوْبَةِ: 17]، وتأملوا هذا الخطاب لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، يقول -عز شأنه-: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الزُّمَرِ: 65]، وحاشا محمدا -صلى الله عليه وسلم- أن يشرك، حاشاه أن يشرك -عليه الصلاة والسلام-، لكنه التحذير العظيم، والإنذار المخيف من الشرك والقرب منه.
وقد قال الله في مقام آخر في سياق ذِكْر الأنبياء، وفيهم أولو العزم -عليهم جميعا صلوات الله وسلامه-، قال سبحانه: (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[الْأَنْعَامِ: 88]، وحاشاهم ثم حاشاهم، ولكنه الخوف العظيم من الشرك والاقتراب منه ومن وسائله وذرائعه، وحفظ جناب التوحيد وإفراد الله وحدَه بالعبادة وصَرْف جميع أنواع العبادة له وحدَه لا شريكَ له، أما الردة -نعوذ الله منها- فيقول الله -عز وجل-: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[الْبَقَرَةِ: 217].
ومن المحبِطات عباد الله: التكذيب بالقَدَر، جاء في حديث زيد بن ثابت -رضي الله عنه- يقول: "سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: لو كان لكَ مثل أُحُد ذهبًا، أو مثل جبل أُحُد ذَهَبًا تُنفِقُه في سبيل الله ما قَبِلَه اللهُ منكَ حتى تؤمِنَ بالقَدَرِ كُلِّهِ"(رواه أحمد، وابن ماجه).
وعبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- يقول في المكذِّبين بالقَدَر: "فإذا لقيتَ أولئك فَأَخْبِرْهُم أني بريء منهم، وهم برآء مني، والذي أحلف به، لو أن لأحدهم مثل جبل أُحُد ذهبًا فأنفَقَه في سبيل الله ما قَبِلَه اللهُ منه، حتى يؤمن بالقَدَر"(رواه مسلم).
ومن مُحبِطات الأعمال أيها المسلمون: مُشاقَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومخالفة أمره، وفي التنزيل العزيز: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ)[مُحَمَّدٍ: 32]، ومثل المشاقَّة رفع الصوت عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد قال رب العزة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ)[الْحُجُرَاتِ: 2]، وقد ذكر أهل العلم أن هذا قد يحصل بعد وفاته -عليه الصلاة والسلام-، فإذا كان المسلم في مسجده -صلى الله عليه وسلم- أو في زيارة قبره -عليه الصلاة والسلام- فعليه أن يخفض صوته، وإذا كان في حديث أو في نِقَاش وهو في المسجد النبوي الشريف فعليه مراعاة ذلك كله، ومما يُروَى أن الخلفية أبا جعفر المنصور تناظَر مع الإمام مالك؛ إمام دار الهجرة -رحمهم الله جميعا- وهما في المسجد النبوي، فقال مالك للخليفة: "لا ترفع صوتك يا أمير المؤمنين في هذا؛ فإن الله -تعالى- أدَّب قومًا فقال: (لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ)[الْحُجُرَاتِ: 2]، ومدحهم فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ)[الْحُجُرَاتِ: 3]، وذمَّ قومًا فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ)[الْحُجُرَاتِ: 4]، وإن حرمته ميتا كحرمته حَيًّا"، فاستكان لها أبو جعفر.
ومن لطيف ما قرره أهل العلم في ذلك أن هذا الأدب ينبغي أن يكون حين قراءة حديثه -عليه الصلاة والسلام-، وسماعه، فقد قالوا: "إن كلامه المأثور بعد موته مثل كلامه المشهور من لفظه".
ومن المحبِطات -عبادَ الله-: السخريةُ بالدِّين وأهله، يقول الحق -جل وعلا-: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ)[التَّوْبَةِ: 65-66]، وكذلك كراهية شيء من الدين، وقد قال عز شأنه: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ)[مُحَمَّدٍ: 9]، وهذا باب عظيم ينبغي للمسلم أن يحذَر منه، وبخاصة حينما لا يوافِق الشرعُ هواه ورغباته، أو يقع في نفسه نفرةٌ منه؛ فيُخشى عليه حبوطُ عمله، ولهذا كان من الذِّكر الذي ينبغي أن يحرص عليه المسلم ويداوم عليه: "رضيتُ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا"، يقول ذلك ثلاث مرات في الصباح وفي المساء.
ومن المحبِطات عباد الله: إتيان الكهان والسحرة والعرَّافين والمنجِّمين، ففي الحديث الصحيح: "مَنْ أتى عرَّافا فصدَّقَه بما يقول فقد كفَر بما أُنزِلَ على محمد -صلى الله عليه وسلم-"(رواه أحمد)، وفي الحديث الآخَر: "مَنْ أترى عرَّافًا فسأله عن شيء لم تُقبَل له صلاةٌ سبعينَ ليلةً"(رواه مسلم)، قال أهل العلم: "سؤال الكهان يَمنَع قبولَ الصلاة أربعينَ ليلةً، وتصديقهم بما يقولون يُوقِع في الكفر" عياذا بالله.
عباد الله: الذَّهاب للعرَّافين والمنجِّمين وتصديقهم والعمل بما يقولون قدحٌ في التوحيد، وإذا ذهَب توحيدُ العبد فماذا بقي له؟ وقد دخَل المشعوِذون والكهنةُ قنواتِ التواصل وأدواته فلبَّسُوا على الناس وغرَّرُوا بهم، فالحذرَ الحذرَ رحمكم الله.
ومن المحبِطات: التألِّي على الله؛ وهو استبعاد الخير عن أخيك المسلم، فمَن تألى على الله فقد استبعد شموله رحمةَ الله، وعفوه لأخيه المسلم، استعظم ذنب أخيه وتقصيره فكأنه تحجَّر رحمةَ الله وفضله، فعن جُنْدب بن عبد الله البجلي -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حدَّث أن رجلا قال: "واللهِ لا يغفر اللهُ لفلان، وإن الله -تعالى- قال: ومَنْ ذا الذي يتألَّى عليَّ ألا أغفر لفلان؟ فإني قد غفرتُ لفلان وأحبطتُ عملَه" أو كما قال، (رواه مسلم)، ومعنى: "يتألَّى عليَّ" أي: يُقسِم عليَّ.
عبادَ اللهِ: مَنْ رأى في نفسه صلاحًا واستقامةً فليحذر أن يحتقر أحدًا من المقصِّرين المذنبينَ، أو أن ينظر لهم بعين الازدراء، وينظر إلى نفسه بعين الرضا والإعجاب، فهذا مَورِدٌ من موارد الهلاك عظيم، نسأل الله العافية، وعليكَ -أيها الناصح- لنفسه بكسب القلوب، لا بتسجيل المواقف.
أيها المسلمون: ومن المحبِطات -حفظنا الله وإياكم- الرياء، ففي الحديث القدسي: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَنْ عَمِلَ عملًا أشرَك معي فيه غيري تركتُه وشِرْكَه"(رواه مسلم)، فالحذرَ -رحمكم الله- الحذرَ من تطلُّب ثناء الناس ومراءاتهم، جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أرأيتَ رجلًا غَزَا يلتمس الأجرَ والذِّكْرَ. ما له؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا شيءَ له، فأعادها ثلاثَ مراتٍ، يقول رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: لا شيءَ له، ثم قال: إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصًا، وابتغي به وجهه"(رواه أبو داود، والترمذي).
فما تقرَّب عبدٌ قُرْبةً يتطلب بها ثناءَ الناس إلا وقد عرَّضها للحبوط والبطلان وحرمان ثوابها، يوم تُبلى السرائر، وتُفْشَى النوايا ويفضح المراؤون، وقد ابتلي أهل هذا العصر بهذه الأدوات المعاصرة، فترى بعض الناس يذكر أعماله من خلالها، ويذكر ما قدَّمه لإخوانه من دعوات، وأعمال صالحات، والمطلوب هو الدعاء بظهر الغيب؛ فالحذر الحذر، حفظكم الله.
اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك به ونحن نعلم، ونستغفرك لما لا نعلم.
ومن المحبِطات يا عبدَ اللهِ: حفظك الله وحماك، انتهاك محارم الله في السر: فعن ثوبان -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لَأَعْلَمَنَّ أقوامًا من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء، فيجعلها الله هباءً منثورًا، قال ثوبانُ: يا رسول الله، صِفْهُم لنا، جَلِّهم لنا؛ ألَّا نكون منهم ونحن لا نعلم. قال: أمَا إنهم إخوانُكم ومن جِلْدَتِكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خَلَوْا بمحارم الله انتهكوها"(رواه ابن ماجه، والبيهقي)؛ فكأن هؤلاء المساكين راقَبُوا الناسَ ولم يراقبوا اللهَ، فجعلوا اللهَ أهونَ الناظرين لهم، وهو الذي يعلم السر وأخفى، وكم من أنواع الخلوات في عصرنا -نسأل الله السلامة-!، أجهزة الاتصالات، والشبكات والشاشات، فقد يخلو بها المختلي وهو بين جلسائه، اقرؤوا قولَ اللهِ -تعالى-: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا)[النِّسَاءِ: 108]، والحافظ ابن القيم -رحمه الله- يقول: "أجمَع العارفون أن ذنوب الخلوات هي أصل الانتكاسات، وأن طاعة السر هي أصل الثبات".
وبعدُ عبادَ اللهِ: فقد سألت عائشة -رضي الله عنها- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الآية: "(وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)[الْمُؤْمِنَونَ: 60]، هم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يا ابنةَ الصِّدِّيقِ، ولكنهم الذين يصومون ويُصَلُّونَ ويتصدَّقون وهم يخافون ألَّا يُتَقَبَّلَ منهم"، فتسابَقُوا في الخيرات، وتنافَسُوا في الصالحات.(أخرجه أحمد والترمذي والحاكم وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي).
فاحذر يا عبدَ اللهِ أن توافي ربَّكَ يومَ القيامة بأعمال صالحة أمثال الجبال، ثم لا تنفعك؛ لأنك قد تهاوَنْتَ وتساهلتَ، تهاونتَ وتساهلتَ فأقدمتَ على ما يُذهِب ثوابَها وحسناتها وأجرها، فكيف تنجو؟ وتذكَّرْ هذا الوعيدَ: (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ)[الْحُجُرَاتِ: 2].
نفعني الله وإياكم بهَدْي كتابه، وبسُنَّة نبيِّه محمد -صلى الله عليه وسلم- وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، من كل ذنب وخطيئة، فاستغفِروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، الحمد لله تفرَّد بالكمال، وتكرَّم بجزيل النوال، فله الحمد على كل حال وفي كل حال، وأشكره بالغُدُوِّ والآصالِ، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، تنزَّه عن الأشباه والأمثال، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، المنعوت بشريف الخصال، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه خير صَحْب، وآله، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآل.
أما بعد، عباد الله: ومن المحبِطات قطيعة الرحم؛ فقد جاء في حديثٍ حسنِ الإسنادِ: "إن الأعمال تُعرَض كل خميس وليلة الجمعة، فلا يَقبَل اللهُ عملَ قاطعِ رحمٍ"، وقاطعُ الرحمِ مستحِقٌّ لِلَّعْنِ، ففي كتاب الله -عز وجل- قال عز شأنه: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)[مُحَمَّدٍ: 22-23]، وفي حديث جبير بن مطعم عند مسلم: "لا يَدْخُل الجنةَ قاطعُ رحمٍ"، وكان ابن مسعود -رضي الله عنه- جالسًا بعد الصبح في حلقة فقال: "أُنْشِدُ اللهَ قاطعَ الرحمَ لَمَا قام عنا؛ فإننا نريد أن ندعو ربنا، وإن أبواب السماء مرتَجَّة؛ -أي: مغلقة- دون قاطع الرحم".
معاشر الأحبة: ومن المحبِطات المهلِكات انتهاك حقوق الناس، وظلمهم في الأقوال والأعمال، ويكفي وعيدًا في ذلك، حديث المفلس الذي يأتي يوم القيامة وقد شتَم هذا، وقذَف هذا، وأكَل مال هذا، وسَفَكَ دمَ هذا، وضرَب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فَنِيَتْ حسناتُه قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطُرحت عليه ثم طُرِحَ في النار (رواه مسلم، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-)، التعامل يومَ القيامة ليس بالدرهم ولا بالدينار، ولكنه بالحسنات والسيئات، فمن عندَه لأخيه مظلمة فليتحلله منها؛ فإنه ليس ثَمَّ دينار ولا درهم.
ألا فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن المحبِطات كثيرة، يجب الحذرُ منها، وعدم التهاون فيها، فالابتداع مبطِل للعمل، محبِط للأجر، "مَنْ أحدَث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ، ومن عمل عملا ليس عليه أمرنا، ومن لم يَدَعْ قولَ الزور والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أن يدَع طعامَه وشرابَه، ومن ترَك صلاةَ العصر فقد حبط عمله، ومن شرب الخمر لم تُقبَل له صلاة أربعين صباحا، ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة إلا أن يتوب، ومدمِنُ الخمرِ لا يدخل الجنةَ، ومن اتخذ كلبًا إلا كلبَ ماشية أو صيد أو زرع انتقص من أجره كل يوم قيراط"(رواه مسلم).
فخذوا حذركم عبادَ اللهِ، ثم صلُّوا وسلِّمُوا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبيكم محمد رسول الله، فقد أمرَكم بذلك ربُّكم فقال في محكم تنزيله، وهو الصادق في قيله، قال قولا كريما: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللهم صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ على عبدك ورسولك، نبينا محمد، الحبيب المصطفى، والنبي المجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوكَ وجودكَ وإحسانك وإكرامك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذلَّ الشركَ والمشركينَ، واخذل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملة والدين، اللهم آمنا في أوطاننا، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامَنا وولي أمرنا بتوفيقك، وأعزه بطاعتك، وَأَعْلِ به كلمتك، واجعله نصرةً للإسلام والمسلمينَ، ووفِّقْه ووليَّ عهده وإخوانَه وأعوانَه لِمَا تحب وترضى، وخُذْ بنواصيهم للبر والتقوى.
اللهم وفِّق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، واجعلهم رحمة لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم احقن دماءهم، واجمع على الحق والهدى والسنة كلمتهم، وانصرهم على عدك وعدوهم، وَوَلِّ عليهم خيارهم، واكفهم أشرارهم، وابسط الأمن والعدل والرخاء في ديارهم، وأعذهم من الشرور والفتن ما ظهَر منها وما بطَن.
اللهم انصر جنودنا، اللهم انصر جنودنا المرابطين على حدودنا، اللهم سدِّد رأيهم، وصوِّب رميهم، واشدد أزرهم، وقوِّ عزائمَهم وثبِّت أقدامَهم، واربط على قلوبهم، وانصرهم على مَنْ بغى عليهم، اللهم أيِّدْهُم بتأييدِكَ، وانصرهم بنصرِكَ، اللهم وارحم شهداءهم، واشف جرحاهم، واحفظهم في أهلهم وذرياتهم، إنك سميع الدعاء.
اللهم انصر إخواننا، اللهم انصر إخواننا المستضعفين المظلومين في فلسطين وفي بورما وفي إفريقيا الوسطى وفي ليبيا وفي العراق وفي اليمن وفي سوريا، اللهم قد مسهم الضر، اللهم قد مسهم الضر وحل بهم الكرب واشتد عليهم الأمر، تعرضوا للظلم والطغيان والتهجير والحصار اللهم انتصر لهم، اللهم انتصر لهم، وتولَّ أمرَهم، واكشف كربهم، وارفع ضرهم، وعجِّل فرجَهم، وألِّف بين قلوبهم، واجمع كلمتهم، اللهم مدهم بمددك وأيدهم بجندك، وانصرهم بنصرك.
اللهم عليك بالطغاة الظالمين ومن شايعهم ومن أعانهم، اللهم فرِّق جمعهم وشتت شملهم، ومزِّقهم كلَّ ممزَّق، اللهم واجعل تدميرهم في تدبيرهم يا رب العالمين.
اللهم عليك بالطغاة الظالمين، ومن شايعهم ومن أعانهم، اللهم فرق جمعهم، وشتت شملهم، ومزقهم كل ممزق، اللهم واجعل تدميرهم في تدبيرهم يا رب العالمين، اللهم عليك باليهود، اللهم عليك باليهود الغاصبين المحتلين، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يُرَدّ عن القوم المجرمين، اللهم إنَّا ندرأ بكَ في نحورهم، ونعوذ بكَ من شرورهم.
اللهم اغفر ذنوبنا، اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ونفس كروبنا، وعاف مبتلانا، واشف مرضانا، وارحم موتانا، (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-182].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي