فَخَافَتْ أُمُّ مُوسَى أَنْ تَصِلَ إِلَى وَلِيدِهَا الْحَبِيبِ يَدُ الْقَتْلِ؛ فَلِذَلِكَ اغْتَمَّتْ لِحَيَاتِهِ كَثِيرًا، فَأَلْهَمَهَا اللهُ -تَعَالَى- عِنْدَ خَوْفِهَا عَلَى مَوْلُودِهَا أَنْ تُرْضِعَهُ حَتَّى يَشْبَعَ، ثُمَّ تَضَعَهُ فِي نَهْرِ النِّيلِ دَاخِلَ تَابُوتٍ يَسْبَحُ عَلَى الْمَاءِ...
الْخُطْبَةُ الْأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: هُنَالِكَ بَيْنَ جُدْرَانِ الْخَوْفِ يُولَدُ مَوْلُودٌ سَيَكُونُ عَلَى يَدَيْهِ مُهِمَّةٌ جَلِيلَةٌ، تَتَغَيَّرُ بِهَا أَحْوَالُ الْحَيَاةِ وَالْأَحْيَاءِ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي سَيُولَدُ فِيهَا.
لَمْ تَكُنْ وِلَادَتُهُ فِي أُسْرَتِهِ كَحَالِ وِلَادَةِ الْمَوَالِيدِ فِي أُسَرِهِمْ؛ إِذْ تَعُمُّ الْفَرْحَةُ أَرْجَاءَ بُيُوتِهِمْ، وَيَأْتِي السُّرُورُ بِالْمُهَنِّئِينَ لِهَذَا الْقَادِمِ السَّعِيدِ، أَمَّا هَذَا الْمَوْلُودُ فَقَدْ خَيَّمَ الْحُزْنُ عَلَى أَرْجَاءِ الْبَيْتِ بِوِلَادَتِهِ، لَا لِشَيْءٍ فِيهِ، بَلْ خَوْفًا عَلَيْهِ أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِ أَيْدِي الذَّبَّاحِينَ الظَّالِمِينَ. إِنَّ ذَلِكَ الْمَوْلُودَ الْعَظِيمَ: هُوَ نَبِيُّ اللهِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ وُلِدَ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي مِصْرَ أَيَّامَ حُكْمِ فِرْعَوْنَ، وَكَانَ فِرْعَوْنُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَأْمُرُ بِذَبْحِ كُلِّ مَوْلُودٍ ذَكَرٍ مِنْ أَبْنَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ -تَعَالَى-: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)[القصص:4].
فَخَافَتْ أُمُّ مُوسَى أَنْ تَصِلَ إِلَى وَلِيدِهَا الْحَبِيبِ يَدُ الْقَتْلِ؛ فَلِذَلِكَ اغْتَمَّتْ لِحَيَاتِهِ كَثِيرًا، فَأَلْهَمَهَا اللهُ -تَعَالَى- عِنْدَ خَوْفِهَا عَلَى مَوْلُودِهَا أَنْ تُرْضِعَهُ حَتَّى يَشْبَعَ، ثُمَّ تَضَعَهُ فِي نَهْرِ النِّيلِ دَاخِلَ تَابُوتٍ يَسْبَحُ عَلَى الْمَاءِ، فَفَعَلَتْ، وَقَدْ وَعَدَهَا اللهُ -تَعَالَى- أَنْ يَرُدَّهُ إِلَيْهَا، فَلَا تَخَافُ عِنْدَ ذَلِكَ وَلَا تَحْزَنُ.
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: "وَلَقْد فَقَدَتْ أُمُّ مُوسَى وَلِيدَهَا، وَهِيَ لَمَّا تَنْتَهِ مِنْ آثَارِ وَضْعِهِ، فَهَلْ فَقَدَ مُوسَى عَطْفَ الْوُجُودِ حِينَ بُدِّلَ مِنْ صَدْرِ أُمِّهِ صَدْرَ الْأَمْوَاجِ الْهَائِجَةِ الْمَائِجَةِ، بَعْدَ أَنْ أَلْقَى التَّابُوتُ بِوَدِيعَتِهِ الْغَالِيَةِ فِي ثَبَجِ الْيَمِّ الطَّامِي؟ لَا؛ لِأَنَّ اللهَ -الَّذِي تَخْفِقُ اللُّجَجُ بِتَسْبِيحِهِ- كَانَ قَدْ تَكَفَّلَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِنْدَمَا قَالَ: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)[القصص:7]"(تَأَمُّلاتٌ فِي الدِّينِ وَالْحَيَاةِ ص:61).
فَتَأَمَّلُوا -عِبَادَ اللهِ- فِي حَالِ هَذِهِ الْأُسْرَةِ الَّتِي عَمَّهَا الْقَلَقُ خَوْفًا عَلَى وَلَدِهَا أَنْ يَبْلُغَ خَبَرُهُ إِلَى جُنُودِ فِرْعَوْنَ فَيَأْتِي جَمْعُهُمْ لِقَتْلِهِ، وَإِذَا بِالْأُمِّ تُسَابِقُ الزَّمَنَ فَتُلْقِي رَضِيعَهَا مِنْ حِضْنِهَا إِلَى الْمَاءِ، وَلَوْلَا ثِقَتُهَا بِاللهِ -تَعَالَى-، وَيَقِينُهَا بِوَعْدِهِ؛ مَا أَلْقَتْ بِهِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الْمَخُوفِ وَهِيَ لَا تَدْرِي مَا سَيَكُونُ حَالُهُ! وَلَكِنْ عِنَايَةُ اللهِ -تَعَالَى- رَافَقَتْ مُوسَى حَتَّى أَلْقَتْ بِهِ فِي حِضْنِ آسِيَةَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، فَأَوْلَتْهُ رَأْفَتَهَا وَحِرْصَهَا.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ عَاطِفَةَ الْأُمُومَةِ لَمْ تُفَارِقْ أُمَّ مُوسَى، بَلْ ظَلَّتْ تُنَازِعُهَا، وَبَقِيَ ذِكْرُ مُوسَى يَشْغَلُهَا عَنْ كُلِّ أُمُورِ دُنْيَاهَا، وَلَا عَجَبَ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّهَا أُمُّ فَقِيدٍ لَا تَدْرِي مَا مَصِيرُهُ! بَلْ إِنَّهَا أَصْبَحَتْ كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)[القصص:10]. يَعْنِي: "إِنَّهُ أَصْبَحَ فَارِغًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا إِلَّا مِنْ مُوسَى... إِنْ كَادَتْ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِهَا وَحُزْنِهَا وَأَسَفِهَا لَتُظْهِرُ أَنَّهُ ذَهَبَ لَهَا وَلَدٌ، وَتُخْبِرُ بِحَالِهَا، لَوْلَا أَنَّ اللهَ ثَبَّتَهَا وَصَبَّرَهَا".
وَلِلْمَرْءِ مِنَّا أَنْ يُطْلِقَ عِنَانَ تَفْكِيرِهِ فِي حَالِ أُسَرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ آنَذَاكَ حِينَمَا يَأْتِيهَا مَوْلُودٌ فَيَأْخُذُهُ جُنْدُ فِرْعَوْنَ، كَيْفَ سَتَكُونُ قُلُوبُ الْأُمَّهَاتِ وَالْآبَاءِ؟! إِنَّهَا حَالٌ تَقْطُرُ حُزْنًا، وَتَتَصَبَّبُ أَلَمًا، قَالَ بَعْضُهُمْ: فَهَذِهِ: "أُمُّ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَقَدْ أَصْبَحَ فُؤَادُهَا فَارِغًا مَعَ مَا أَلْهَمَهَا اللهُ مِنْ صَبْرٍ عَلَى الْمِحْنَةِ، وَمَا وَعَدَهَا بِهِ مِنْ حِفْظٍ لِوَلِيدِهَا مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَمَاذَا يَكُونُ حَالُ بَقِيَّةِ الْأُمَّهَاتِ وَالْعَائِلَةِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ عُمُومًا؟!" .
غَيْرَ أَنَّ ثِقَةَ أُمِّ مُوسَى بِاللهِ -تَعَالَى- لَمْ تَجْعَلْهَا تَتْرُكُ فِعْلَ الْأَسْبَابِ لِمَعْرِفَةِ خَبَرَ وَلِيدِهَا الذَّاهِبِ، بَلْ جَنَّدَتْ أُخْتَهُ لِمُهِمَّةِ الْبَحْثِ عَنْهُ، وَدِرَايَةِ مَآلِهِ، فَانْطَلَقَتْ أُخْتُهُ حَتَّى ظَفِرَتْ بِمَكَانِهِ، وَعَلِمَتْ خَبَرَهُ، وَاسْتَبَانَ لَهَا أَنَّهُ قَدْ أَهَمَّ أَهْلَ الْقَصْرِ شَأْنُهُ؛ إِذْ لَمْ يَقْبَلْ ثَدْيَ امْرَأَةٍ تُرْضِعُهُ، فَكَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمِفْتَاحُ لِرَدِّهِ إِلَى أُمِّهِ؛ فَأَخْبَرَتْ أَهْلَ الْقَصْرِ بِأَنَّ هُنَاكَ مُرْضِعَةً سَتُرْضِعُهُ، فَعَادَ إِلَى أُمِّهِ رَضِيعًا، فَذَهَبَ حُزْنُهَا وَخَوْفُهَا، وَحَلَّ فِي أُسْرَتِهَا الْفَرَحُ وَالْأَمَانُ. قَالَ -تَعَالَى-: (وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)[القصص:11-13].
إِنَّنَا فِي هَذَا الْمَشْهَدِ نَلْحَظُ دَوْرَ الْأُخْتِ فِي الْحِفَاظِ عَلَى أَخِيهَا، وَنَرَى دَوْرَ الْأُسْرَةِ فِي مُسَاعَدَةِ بَعْضِهَا بَعْضًا؛ فَالْأُسْرَةُ بِأُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا وَحَوَاشِيهَا مُحْتَاجٌ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ؛ فَلَا يَسْتَغْنِي أَحَدٌ عَنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، وَلَا عَنْ أَخِيهِ وَأُخْتِهِ، وَهَذَا يُوجِبُ الْحِرْصَ عَلَى الْحِفَاظِ عَلَى كِيَانِ الْأُسْرَةِ وَتَعْمِيقِ رَوَابِطِ الْمَحَبَّةِ وَالِاتِّفَاقِ وَالتَّقَارُبِ؛ فَإِنَّ الزَّمَنَ سَيُلْجِئُ بَعْضَ أَفْرَادِهَا إِلَى بَعْضٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَمَا الْمَرْءُ إِلَّا بِإِخْوَانِهِ *** كَمَا تَقْبِضُ الْكَفُّ بِالْمِعْصَمِ
وَلَا خَيْرَ فِي الْكَفِّ مَقْطُوعَةً *** وَلَا خَيْرَ فِي السَّاعِدِ الْأَجْذَمِ
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: شَبَّ مُوسَى فِي قَصْرِ فِرْعَوْنَ، وَبَلَغَ مَبْلَغَ الرِّجَالِ، وَحَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ الْقِبْطِيِّ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ الْقُرْآنُ؛ فَخَرَجَ مِنْ مِصْرَ فَوَصَلَ إِلَى مَدْيَنَ، وَهُنَاكَ بَدَأَ تَكْوِينَ أُسْرَتِهِ الْخَاصَّةِ، فَتَزَوَّجَ بِابْنَةِ صَاحِبِ مَدْيَنَ.
وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ الْبَيْتُ الَّذِي تَزَوَّجَ مِنْهُ مُوسَى بَيْتًا صَالِحًا؛ فَقَدَ وَجَدَ فِيهِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-الْأَمْنَ مِنْ خَوْفِ فِرْعَوْنَ، وَأَلْفَى فِيهِ مَكَانًا لِلْعَمَلِ وَاسْتِمْرَارِ الْعَيْشِ، وَوَجَدَ كَذَلِكَ الْمَرْأَةَ الصَّالِحَةَ الْحَيِيَّةَ الَّتِي كَانَتْ زَوْجَةً لَهُ فِيمَا بَعْدُ؛ فَمُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمَّا وَصَلَ إِلَى مَاءِ مَدْيَنَ وَجَدَ الرُّعَاةَ يَسْقُونَ، وَرَأَى فَتَاتَيْنِ لَا تُزَاحِمَانِ النَّاسَ فِي سَقْيِ أَغْنَامِهِمَا، فَحَمَلَتْهُ الرُّجُولَةُ وَالْمُرُوءَةُ عَلَى سَقْيِ الْأَغْنَامِ لَهُمَا، وَإِبْعَادِهِمَا عَنْ مُزَاحَمَةِ الرِّجَالِ، وَعَدَمِ تَأْخِيرِهِمَا انْتِظَارًا لِخُلُوِّ الْمَوْرِدِ عَنِ الرِّجَالِ.
فَلَمَّا رَجَعَتَا مُبَكِّرَتَيْنِ تَعَجَّبَتْ أُسْرَتُهُمَا مِنْ ذَلِكَ؛ فَأَخْبَرَتِ الْفَتَاتَانِ بِخَبَرِ مُوسَى، وَلَمَّا كَانَ أَبُوهُمَا الشَّيْخُ الْكَبِيرُ كَرِيمًا شَاكِرًا لِلْمَعْرُوفِ أَمَرَ بِاسْتِدْعَائِهِ لِيُكَافِئَهُ عَلَى مَعْرُوفِهِ، فَقَصَّ مُوسَى عَلَيْهِ قِصَّتَهُ، فَطَلَبَ ذَلِكَ الشَّيْخُ مُصَاهَرَتَهُ عَلَى إِحْدَى بِنْتَيْهِ، فَوَافَقَ مُوسَى عَلَى ذَلِكَ الْعَرْضِ الْكَرِيمِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ رَعْيَ أَغْنَامِهِمْ ثَمَانِيَ سِنِينَ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ...) الآيات[القصص: 23-28].
وَفِي هَذَا الْحَدَثِ نَرَى أَنَّ الْحَيَاءَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي تَصُونُ الْأُسْرَةَ، وَتَدْفَعُ عَنْهَا صِيَالَةَ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ تَحْتَاجُهُ فِي أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ مِنْ حَيَاتِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ: فِي مَشْيِهَا، وَظُهُورِهَا بَيْنَ الرِّجَالِ؛ فَالْحَيَاءُ يَصُونُ الْمَرْأَةَ عَنْ مُخَالَطَةِ الرِّجَالِ وَمُزَاحَمَتِهِمْ، وَيَمْنَعُهَا مِنَ التَّكَسُّرِ فِي مِشْيَتِهَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ)، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: "الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ".
كَمَا نَسْتَفِيدُ مِمَّا جَرَى: أَنَّ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى سَتْرِ أَعْرَاضِ الْآخَرِينَ، وَيَسْعَى فِي مُسَاعَدَةِ النِّسَاءِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ؛ كَوَقْتِ الزِّحَامِ مَعَ الرِّجَالِ.
وَأَنَّ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمَحْمُودَةِ: أَنْ يَلْتَمِسَ الْأَبُ لِبَنَاتِهِ أَزْوَاجًا صَالِحِينَ؛ حَتَّى يُكَوِّنَ أُسَرًا صَالِحَةً لَهُنَّ.
وَمِمَّا يَسْتَرْعِي الِانْتِبَاهَ مِمَّا جَرَى لِمُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي تَكْوِينِ أُسْرَتِهِ: أَنَّهُ بَقِيَ أَوْفَى الْأَجَلَيْنِ -وَهُوَ عَشْرُ سَنَوَاتٍ- يَعْمَلُ مِنْ أَجْلِ إِعْفَافِ فَرْجِهِ، وَهُوَ أَمْرٌ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ قَضِيَّةَ تَكْوِينِ أُسْرَةٍ، وَالظَّفَرِ بِامْرَأَةٍ صَالِحَةٍ، وَالْحُصُولِ عَلَى الذُّرِّيَّةِ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ وَأَكْثَرَ.
وَمِنْ مَظَاهِرِ الْعِنَايَةِ الْأُسَرِيَّةِ: لُطْفُ الرَّجُلِ بِزَوْجَتِهِ وَرِعَايَتِهِ لَهَا، وَهَذَا يَتَجَلَّى فِي قَوْلِ الْحَقِّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: (إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ)[النمل: 7].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
عِبَادَ اللهِ: عَادَ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِلَى مِصْرَ مَعَ زَوْجَتِهِ، رَسُولًا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، وَلَمَّا كَانَتِ النُّبُوَّةُ مَنْزِلَةً عَظِيمَةً، وَشَرَفًا كَبِيرًا، أَرَادَ مُوسَى أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْأُسْرَةِ فِيهَا؛ لِيَسْتَعِينَ بِهِ فِي دَعْوَةِ النَّاسِ، فَدَعَا اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يُرْسِلَ مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ، قَالَ –تَعَالَى-: ( وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى)[طه: 29-36].
وَهَذَا الْحِرْصُ مِنْ مُوسَى عَلَى نَفْعِ أَخِيهِ يُرْشِدُ الْمَرْءَ إِلَى أَنْ يَسْعَى فِي جَلْبِ الْخَيْرِ لِأُسْرَتِهِ، وَلَا سِيَّمَا الْخَيْرُ الدِّينِيُّ؛ فَالْأَقْرَبُونَ أَوْلَى بِالْمَعْرُوفِ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَا نَفَعَ أَخٌ أَخَاهُ كَمَا نَفَعَ مُوسَى هَارُونَ؛ فَقَدْ طَلَبَ لَهُ مِنْ رَبِّهِ أَنْ يَجْعَلَهُ وَزِيرًا لَهُ وَيُكْرِمَهُ بِالرِّسَالَةِ؛ فَاسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُ وَجَعَلَهُ نَبِيًّا مُرْسَلًا".
عِبَادَ اللهِ: لَقَدِ اعْتَمَدَ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى أَخِيهِ هَارُونَ فِي بَعْضِ جَوَانِبِ الدَّعْوَةِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ فَحِينَمَا ذَهَبَ مُوسَى لِمِيقَاتِ رَبِّهِ "اسْتَخْلَفَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَخَاهُ هَارُونَ، وَأَوْصَاهُ بِالْإِصْلَاحِ وَعَدَمِ الْإِفْسَادِ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ وَتَذْكِيرٌ، وَإِلَّا فَهَارُونُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- نَبِيٌّ شَرِيفٌ كَرِيمٌ عَلَى اللهِ، لَهُ وَجَاهَةٌ وَجَلَالَةٌ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ"(تَفْسِيرُ ابْنُ كَثِيرٍ). قَالَ -تَعَالَى-: (وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)[الأعراف:142].
غَيْرَ أَنَّ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ غَلَبَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَعَبَدُوا الْعِجْلَ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ هَارُونُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-كَبْحَ جِمَاحِ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ، فَرَجَعَ مُوسَى فَرَأَى الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِينَ، فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا، وَكَانَتِ الْحَالُ مَعَ أَخِيهِ هَارُونَ كَمَا قَالَ اللهُ –تَعَالَى-: (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[الأعراف:150-151].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الْأُخُوَّةَ الْأُسَرِيَّةَ وَالشَّرَاكَةَ النَّبَوِيَّةَ بَيْنَ مُوسَى وَهَارُونَ لَمْ تَمْنَعْ مُوسَى مِنَ الْغَضَبِ للهِ -تَعَالَى-، فَقَدْ خَشِيَ أَنْ يَكُونَ هَارُونُ قَدْ قَصَّرَ فِي نَهْيِ قَوْمِهِ، فَلِذَلِكَ فَعَلَ مُوسَى هَذَا الْفِعْلَ الشَّدِيدَ مَعَ شَقِيقِهِ هَارُونَ.
وَفِي هَذَا الْمَوْقِفِ مِنَ الْعِِبَرِ: أَنَّ الْجُرْمَ إِذَا حَصَلَ دَاخِلَ الْأُسْرَةِ لَا بُدَّ مِنَ الْأَخْذِ بِالْحَزْمِ، وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ مَا بَيْنَ أَفْرَادِهَا مِنَ الْحُبِّ، وَأَنَّ الرَّدَّ اللَّطِيفَ، وَبَيَانَ الْعُذْرِ الصَّحِيحِ يُهَوِّنُ مِنْ غَضَبِ الْغَضْبَانِ، وَمَا أَحْسَنَ عِبَارَةَ هَارُونَ فِي تَسْكِينِ غَضَبِ أَخِيهِ حِينَمَا قَالَ: (ابْنَ أُمَّ)! "لِتَكُونَ أَرْأَفَ وَأَنْجَعَ عِنْدَهُ، وَإِلَّا فَهُوَ شَقِيقُهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ".
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لِمُوسَى عُذْرُ أَخِيهِ دَعَا اللهَ لَهُمَا، وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الشَّقِيقُ مَعَ شَقِيقِهِ فِي قَبُولِ الْأَعْذَارِ، وَالدُّعَاءِ بِالْخَيْرِ لِكِلَيْهِمَا.
فَيَا عِبَادَ اللهِ: وَمِمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَأُمِّهِ وَأُخْتِهِ وَزَوْجِهِ وَأَخِيهِ نَتَعَلَّمُ بَيَانَ قَدْرِ حَنَانِ الْأُمِّ عَلَى أَوْلَادِهَا، وَحِرْصِ الْأُخْتِ عَلَى أَخِيهَا، وَسَعْيَ الْأَخِ فِي مَنْفَعَةِ أَخِيهِ، وَاسْتِرْخَاصَ التَّعَبِ فِي سَبِيلِ جَمْعِ مَهْرِ الزَّوَاجِ بِامْرَأَةٍ صَالِحَةٍ.
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَغْفِرَ لِوَالِدِينَا، وَأَنْ يُبَارِكَ فِي إِخْوَتِنَا وَأَخَوَاتِنَا وَزَوْجَاتِنَا.
وَصَلِّ اللَّهُمَّ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي