اتقوا الله -تعالى- واسلكوا سبيل مرضاته تغنموا واجتهدوا في القيام بما يبعدكم عن الشقاء تسعدوا في الدنيا والآخرة، واعلموا أن من أعظم ما ينجيكم من الشقاوة: الحياة مع القرآن تلاوة وتدبرا وعملا؛ فلا يجتمع معه...
الحمد لله الكريم المقصود ذي الإحسان والجود والكرم الممدود، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ الفرد المعبود الذي به يلوذ المحمود وإليه يرجع المطرود وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صاحب المقام المحمود والحوض المورود صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحابته والتابعين لهم إلى اليوم الموعود والخَطْب المشهود؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71]، أما بعد:
معاشر المسلمين: خلق الله الخلق لعبادته وتقواه والاستقامة على شريعته وهداه ووعد -سبحانه- من أطاعه وتمسك بما أنزله بالسعادة والرخاء؛ فقال -جل في عليائه-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النحل: 97]، وتوعد من خالف أمره بالخيبة والشقاء بقوله -سبحانه-: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى)[طه: 124- 127].
أيها المؤمنون: ومن تأمل في وعيد الله للسالكين سبيل الشقاء أدرك أنه لا نجاة للعبد إلا في السعي لنيل رحمة رب كريم ومعرفة ما يوجب له الحياة الطيبة في الدارين ويصرفه عن الشقاء والعناء في الحياتين؛ ألا وإن من أهم ما يصرف المؤمن عن الشقاء ما يلي:
الدخول في الإسلام؛ قال -سبحانه وتعالى-: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ)[الأنعام: 125].
يقول تعالى -مبينا لعباده علامة سعادة العبد وهدايته، وعلامة شقاوته وضلاله-: "إن من انشرح صدره للإسلام استنار بنور الإيمان، وحيي بضوء اليقين، فاطمأنت بذلك نفسه، وهذا علامة على أن الله قد هداه، ومَنَّ عليه بالتوفيق، وسلوك أقوم الطريق، وأن علامة من يرد الله أن يضله، أن يجعل صدره ضيقا حرجا. أي: في غاية الضيق عن الإيمان والعلم واليقين لا ينشرح قلبه لفعل الخير؛ كأنه يكلف الصعود إلى السماء، الذي لا حيلة له فيه. وهذا سببه، عدم إيمانهم، هو الذي أوجب أن يجعل الله الرجس عليهم، لأنهم سدوا على أنفسهم باب الرحمة والإحسان، وهذا ميزان لا يعول، وطريق لا يتغير، فإن من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى، يسره الله لليسرى، ومن بخل واستغنى وكذب بالحسنى؛ فسييسره للعسرى"(تفسير السعدي).
ومن صوارف الشقاء: اتباع الهدى والسير على منهج سيد الأنبياء وإمام الأتقياء -صلى الله عليه وسلم-؛ قال -سبحانه-: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى)[طه: 123]، بل أخبر الله -تعالى- أن اتباع الهدى يصرف صاحبه عن الخوف والحزن في الدنيا والآخرة؛ (فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[البقرة:38].
واتباع الهدى يتحقق بتصديق ما جاء من عند الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- من غير شك بشيء من ذلك مع امتثال أوامرهما واجتناب نواهيهما.
وإن مما يصرف العبد عن الشقاء في الدنيا ويوم اللقاء: تحقيق تقوى الله -تعالى- فبها اليسر والرخاء والنجاة من الشقاء؛ قال -تعالى-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا)[الطلاق: 4]؛ ومفهوم المخالفة أن من لم يتق الله -تعالى- أن حياته في شقاء وضيق وعناء.
من يتق الله يُحمد في عواقبه *** ويكفه شر من عزوا و من هانوا
من استجار بغير الله في فزع *** فإن ناصره عجز وخذلان
فالزم يديك بحبل الله معتصماً *** فإنه الركن إن خانتك أركان
ومن صوارف الشقاء: الصبر فإن بالصبر تنقلب حياة العبد من الشقاء إلى السعادة ومن الضيق إلى السعة ومن الضعف إلى القوة، وانظروا حال بني إسرائيل اللذين أبدلهم الله بصبرهم الاستخلاف بعد الاستضعاف من فرعون وجنوده؛ قال -تعالى-: (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ * وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ)[الأعراف: 136- 137]؛ وبصبر أهل الإيمان نالوا جنة الله ودار كرامته؛ قال -تعالى- مخبرا عن ما استحقوه بصبرهم؛ (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا)[الفرقان: 75].
ومن صوارف الشقاء: دعاء رب الأرض والسماء؛ قال الله على لسان عبده زكريا -عليه السلام-: (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا)[مريم: 4]، وكيف يشقى من نادى ربه ومولاه وهو القائل: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)[غافر: 60]، والقائل: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)[البقرة: 186].
وجاء في الحديث القدسي -أيضا- قوله -سبحانه-: "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر"(رواه مسلم)؛ بل إن -سبحانه- و-تعالى- يغضب من عبده الذي لا يدعوه ويطلب منه حاجته، وصدق القائل:
الله يغضب إن تركت سؤاله *** وبُني آدم حين يُسأل يغضب
اجعل سؤالك للإله *** فإنما في فضل نعمة ربنا تتقلب
اللهم أبعدنا عن الشقاء وأبعده عنا وأسعدنا بطاعتك في الدنيا والآخرة.
بارك الله لي ولكم بالقرآن الكريم ونفعني وإياكم بما فيها من الآيات والذكر الحكيم؛ أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله الذي هدانا سبيل الفلاح والهدى وبصرنا بمسالك الضلالة والشقاء، والصلاة والسلام على نبيه المجتبى، أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله -تعالى- واسلكوا سبيل مرضاته تغنموا واجتهدوا في القيام بما يبعدكم عن الشقاء تسعدوا في الدنيا والآخرة، واعلموا أن من أعظم ما يصرفكم عن الشقاوة: الحياة مع القرآن تلاوة وتدبرا وعملا؛ فلا يجتمع معه شقاء وصدق الله؛ حيث أنزل على نبيه -صلى الله عليه وسلم- قوله -سبحانه-: (طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)[طه:1- 2].
ولما كان القرآن الكريم مصدر كل سعادة وسببا في رحيل كل عناء رغب الله -تعالى- عباده بالإقبال عليه؛ فقال عز من قائل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)[يونس: 57]؛ يقول السعدي -رحمه الله-: "شفاء لما في الصدور من أمراض الشهوات الصادة عن الانقياد للشرع وأمراض الشبهات، القادحة في العلم اليقيني، فإن ما فيه من المواعظ والترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، مما يوجب للعبد الرغبة والرهبة".
واتل بفهم كتاب الله فيه أتت *** كل العلوم تدبره تر العجبا
واقرأ هديت حديث المصطفى وسلن *** مولاك ما تشتهى يقضى لك الأربا
من ذاق طعما لعلم الدين سُرّ به *** إذا تزيد منه قال واطربا
أيها المؤمنون: الصوارف للشقاء كثيرة وما ذكرناه منها ما يصرف الشقاء في الدنيا ومنها ما يصرف الشقاء في الدنيا والآخرة؛ أما الصوارف المختصة بالحياة الآخرة؛ فمن ذلك: الصيام بقصد طلب مرضاة الله ونيل ثوابه؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صام يومًا في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفًا"(متفق عليه).
ومن صوارف الشقاء في الحياة الآخرة كذلك: خشية الله في الغيب والشهادة؛ فإنها تبعد عن صاحبها الشقاء في الآخرة؛ قال -تعالى-: (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى)[الأعلى: 10-11]، وكيف يشقى من وعده ربه بالمغفرة والأجر الكبير كما في قوله؛ (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)[الملك: 12]؛ بل أنى لمن خشي الله أن يشقى وقد جعل الله جزاءه الجنة؛ (جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ)[البينة: 8].
أيها المسلمون: تلكم بعضا من أسباب زوال الشقاء؛ فاعملوا بها تحيون سعداء بما آتاكم الله فرحين بفضله عليكم ورحمته؛ (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)[يونس: 58].
وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير والشافع يوم المصير؛ حيث أمركم بذلك العليم الخبير؛ فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واخذل أعداءك أعداء الدين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم، واجمع على الحق كلمتهم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي