وإن المؤمن لَيمتَدُّ إحسانُه إلى غيره، ويعمُّ مَنْ سواه، فإذا استجمع خِلَالَ الإحسانِ إلى النفس دَأَبَ على ترويضها على الإحسان إلى المخلوقينَ، في أبواب من الإحسان مشرَعة، لا منتهى لها؛ كبَذْلِ الندى، وبَسْط الوجه، وصُنْع المعروف، وإغاثة الملهوف...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، جعَل الإحسانَ أعلى الدرجات، وأورَث أهلَه أحسنَ المقامات، أحمده -سبحانه- وأشكره على نعمه السابغات، وآلائه الظاهرات، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وَلِيُّ الخيراتِ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، نبي المكرُمات، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ذوي الأيادي الباسطات، وسلَّم تسليمًا كثيرًا ما دامت الأرض والسماوات.
أما بعد: فاتقوا الله -أيها المسلمون-؛ فإنه -سبحانه- أهل التقوى، وراقِبوه في السر والنجوى، وأقبِلوا عليه بإحسان يجزكم إحسانًا ورحمةً وبُشْرَى.
لله دَرُّ أقوامٍ قلوبُهم معمورةٌ بذكر الحبيب، وأوقاتهم بالمناجاة تطيب، ليس فيها لغيره حظ ولا نصيب، إن نطقوا فبِذِكْره، وإن تحرَّكوا فبأمره، وإن فرحوا فبقُرْبِه، أو حزنوا فبِعَتْبِه، لا يصبرون عنه لحظةً، ولا يتكلمون في غير رضاه بلفظة.
أيها المسلمون: إن ثمة مقامات مرضِيَّة تبلغ بأهلها منازلَ الشرف، وتسمو بهم إلى معاقد العِزِّ، وتبوؤهم محلَّ القدوة من الناس، وتنزِل بهم في طريق لاحِب من رضوان الله -تعالى- ومحبته -سبحانه-، ويأتي في الذروة من ذلكم -يا عباد الله- مقامُ الإحسان، الذي يُفضي بصاحبه إلى فعل الأحسن والأجمل على الوجه الأكمل، فهو مقام يلتئم من الكمال الجلال، ولَمَّا كان الإسلام منبعًا للمكارم كلها، كان هذا المقام فيه على أتم صورة، وأشرف حال، وصار فيه عبادة من أجَلِّ العبادات، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى)[النَّحْلِ: 90]، وقال إمامُ المحسنين -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله كتَب الإحسانَ على كل شيء"(أخرجه مسلم).
وإن مبتدأ الإحسان إحسان المرء إلى نفسه؛ بدلالتها على خالقها وربها، وتجريد التوحيد له -سبحانه-، وعبادته على غاية الشهود والمراقَبة، وتمام الإخلاص والمجاهَدة، حتى يصدق فيه قولُه -صلى الله عليه وسلم-: "أن تَعْبُدَ اللهَ كأنَّكَ تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراكَ"(أخرجه الشيخان)، وهذه هي غاية الدين، وأعلى مراتبه، ونهاية منازله، وليس وراءها للمؤمن مرمى، فإن المؤمن يصير بها كأنه يشهد ربَّه -تبارك وتعالى- رأيَ العين، ولا تَسَلْ عن حاله حينئذ من الخشية والمهابة، والخشوع والخضوع والتذلُّل، فإذا عَلِمَ أن ربَّه يراه في كل حال، ويطَّلِع على دقيق سره، ولا يغفُل عنه طرفةَ عين، كان ذلك مدعاةً له إلى إتقان العبادة وإجادتها، وتكميلها في غير نقصان ولا إخلال، ومن دون سآمة ولا كلال.
والمؤمنُ مُحسِنٌ في صلاته التي هي لقاؤه بمحبوبه، ومناجاته لربه، فيؤدِّيها على غاية الكمال، يطمئنُّ في ركوعها وسجودها، ولا يختلسها اختلاسًا، ولا ينقرها نقرًا، غيرَ ذاهل عنها، ولا مشتَغِل البال بغيرها، بل يؤدِّيها بسكون طائر، وخفض جَناح، وجَمْع خاطر، وتفريغ لُبٍّ، وهو محسِن في زكاته أيضًا، التي هي طُهْرَةٌ لمالِه، ونماء لكَسْبِه، ومواساة لإخوانه من ذوي الفاقة، فيؤدِّيها إلى أهلها في وقتها، من غير بَخْس، راضية بإخراجها نفسُه، لا يمنُّ بها، ولا يؤذي طالِبَها، ولا يشحُّ بإتباعها بالتصدق المستحَبِّ، إمعانًا في الجميل، وإبلاغًا في الإحسان.
والمؤمن كذلك مُحسِن في صومه، الذي هو تركُ الشهوةِ لله -تعالى-، فيتعبد به تعبُّدًا خاصًّا، ويبلغ به من الإحسان إلى أعلى مراتبه؛ فإنه يترك أحبَّ الأشياء إليه، من غير اطلاع أقربِ الناس في ذلك عليه؛ إيثارًا لاطلاع علام الغيوب، وشهودًا لمراقَبته، وهذا هو لُبُّ الإحسانِ ومراقبته وجوهره؛ فالصيام مَورِد من موارد تحقيق الإحسان أَعْظِمْ به وَأَجْمِلْ.
وهو بَعْدُ محسِنٌ في حَجِّه، الذي هو إجابة محبٍّ لدعوة حبيبه، وقصد زيارته في بيته، فيتم جميع أعماله لله -تعالى-، مباعِدًا للرفَثِ مجانِبًا للفسوق، نائِيًا عن الجدال، قد أقبَل بكليته على مولاه، يأنس من نفسه جلالة المزور، فيتحفَّظ من أن يراه ربُّه في بيته وحرمه، وعلى بساط كرمه، مُخِلًّا بأدبٍ أو مضيِّعًا لفرض، أو مقصِّرًا في عمل، فحَجُّه مشهدٌ من مَشاهِد الإحسان الكبرى، وموقف من مواقفه العظمى.
وإن المؤمن لَيمتَدُّ إحسانُه إلى غيره، ويعمُّ مَنْ سواه، فإذا استجمع خِلَالَ الإحسانِ إلى النفس دَأَبَ على ترويضها على الإحسان إلى المخلوقينَ، في أبواب من الإحسان مشرَعة، لا منتهى لها؛ كبَذْلِ الندى، وبَسْط الوجه، وصُنْع المعروف، وإغاثة الملهوف، والتنفيس عن المكروب، والتنفيس عن المهموم، وسد الخَلَّات، وقضاء الحاجات، وإطعام أهل المسغَبة، وكفالة الأيتام، والسعي على الأرامل وتزويج الأيامى، وعيادة المرضى، وتعليم الجاهل، وإرشاد الضال، وغير ذلك مما لا يُحصى.
أيها المسلمون: وإن من مَشاهِد الإحسان التي هي ذكرى للعابِدين، ومنار للسالكين، وحادٍ للمحسِنين، ما جاء في خبر السبعة الذين يُظِلُّهم اللهُ في ظله، يومَ لا ظِلَّ إلا ظله، وذكَر منهم: "رجلٌ دَعَتْه امرأةٌ ذاتُ منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدَّق بصدقة فأخفاها؛ حتى لا تعلم شِمالُه ما تُنفق يمينُه، ورجل ذكَر اللهَ خالِيًا ففاضَتْ عيناه"(أخرجه الشيخان).
فهذه المشاهِد الثلاثة المذكورة هي مِنْ أبلغِ مشاهِدِ الإحسان التي لا ينهض لها إلا الكاملون المصطَفَوْنَ، فأما المشهد الأول: فهو مشهد رجل يقع في فتنة امرأة حسناء جميلة، ذات حسَب وشرَف، تدعوه إلى نفسها، قد أخذَت بِلُبِّهِ، وكادت تملك زمامَ أمره، إلا أن جذوة المراقَبة لله -جل جلاله- اشتَعَلَتْ في قلبه، فغلَبَتْ داعيَ الشهوة، فيا لَلَّهِ ما أحلى قولَه وقد انتصر على هواه، فقال: "إني أخاف اللهَ"؛ إنها كلمة لا تبوح بها إلا الشفاةُ إلا وقد تجذَّر أصلُها في القلب، ورسَخ أيَّما رسوخ، وما كان له أن يبلغ هذا المبلغَ إلا وله من حقيقة الإحسان والمراقَبة أبلغُ نصيب.
وأما المشهد الثاني: فهو مشهَد رجل واسى الفقيرَ بماله، فأمعَن في إخفائه إخلاصًا لله -تعالى-؛ فهو قد أحسَن غايةَ الإحسان، أحسَن أولًا بجوده بصدقته، ثم أتبَع الإحسانَ بإحسان آخَر، وأكمَلَ من الأول؛ حيث أخفى صدقتَه عن أعين الخَلْق، وهذا هو جوهر الإحسان؛ أن يغيب عن العبد في عبادته ملاحظةُ غير الله -تعالى-، ويستأثر بمشاهَدة الله له وإحاطته بعمله.
وأما المشهَد الثالث: فهو مشهَد رجل خلا عن الناس، يذكر ربَّه ففاضت عيناه، خشيةً وحُبًّا، ورجاءً وشوقًا، وهذا قد أخلَص دينَه لله، وأحسَن في عمله؛ إذ اختار الخُلُوَّ عن ملاحَظة المخلوقين، والتفرد بنظَر الخالق -سبحانه-، ثم استحضر مراقَبة ربه فقد جمَع الإحسانَ بخلوته وذِكْره ومناجاته وبكائه، فهو يتقلَّب في ألوان من الإحسان.
ولَمَّا أفرَد هؤلاء ربَّهم بالمراقَبة أفرَدَهم -سبحانه- يومَ القيامة بجزاء حسَن من جنس إحسانهم؛ فجعَلَهم مستظلينَ بظِلِّه يومَ لا ظلَّ إلا ظِلُّه، وصدَق سبحانه: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ)[الرَّحْمَنِ: 60].
نفعني اللهُ وإياكم بما أنزَلَه من البيِّنات والهدى، وبارَك لنا في سُنَّة خير الورى، وأستغفر اللهَ العظيمَ لي ولكم من كل ذنب، فاستغفِرُوه إنه كان غفَّارًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، وأشكره على مزيد فضله وامتنانه، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومَنْ تَبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن للإحسان إلى النفس وإلى الناس عواقب حلوة الجنى، طيبة الثمر، كريمة الأثر؛ فأوَّلُها: أن المحسِن ينال درجةَ المحبة، وينعَم بخالص المعية؛ كما قال سبحانه في غير موضع: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[الْبَقَرَةِ: 195]، (وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 69].
وثانيها: أن رحمة الله أقرب ما تكون من المحسِنينَ، كما قال تعالى ذكرُه: (إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)[الْأَعْرَافِ: 56]، وثالِثُها: أن المحسِن موعود بالإحسان والزيادة، كما قال جل ثناؤه: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ)[الرَّحْمَنِ: 60]، وقال: (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ)[الْبَقَرَةِ: 58]، ورابِعُها: أن المحسِن مِنْ أهلِ البشرى قال تقدَّسَت أسماؤُه: (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ)[الْحَجِّ: 37]، وقال: (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ)[الزُّمَرِ: 34]، وخامِسُها: أن ثواب المحسن محفوظ عند الله وإن خَفِيَ عن الناس أو جحدوه، قال عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)[التَّوْبَةِ: 120]، وسادِسُها: أن الإحسان يعقب في قلب صاحبه لذةً لا مثلَ لها؛ ولذا قال بعض العلماء: "إن أكبرَ لَذَّاتِ الدنيا هي لذَّةُ الإحسانِ"، ولعلَّ هذه اللذةَ داخلةٌ في بشارته -تعالى- للمحسنين.
ألَا وإنَّ في كل ذلك لَباعِثًا يبعث المرءَ على السير في درب المحسِنينَ، فيكون له في كل قول إحسان، وفي كل فعل إحسان، وتكون حالُه كلُّها دائرةً مع إحسان، سلَك اللهُ بنا سبيل المحسنين، اللهم آمين.
هذا وصَلُّوا وسَلِّموا على خيرته من خلقه، المصطفى لوحيه، والمنتخَب لرسالته، المرفوع ذِكْرُه مع ذِكْره في الأولى، والشافع المشفَّع في الأخرى، كما أمرَكم ربُّكم -جل وعلا- فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِكَ ورسولِكَ محمد وعلى آله وصحبه، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وعن سائر الآل والأصحاب، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بفضلك وكرمكم وجودك يا أرحمَ الراحمينَ.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذِلَّ الشركَ والمشركينَ، ودَمِّرْ أعداءَ الدين، واجعل هذا البلدَ آمِنًا مطمئِنًّا سخاءً رخاءً وسائرَ بلاد المسلمين، اللهم آمِنَّا في أوطاننا ودُورِنَا، وأصلح أئمتَنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق والتوفيق والتسديد إمامَنا وولي أمرنا، اللهم وَفِّقْه لهداكَ، واجعل عملَه في رضاكَ، اللهم وَفِّقْه ونائِبَه لِمَا فيه صلاح البلاد والعباد، يا من له الدنيا والآخرة، وإليه المعاد.
اللهم ما سألناك من خير فأَعْطِنَا، وما لم نسألك فابتَدِئْنا، وما قصَّرت عنه آمالُنا وأعمالُنا من خيرَي الدنيا والآخرة فبَلِّغْنا، اللهم إنا نسألكَ الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم علِّق قلوبَنا برجائِكَ، اللهم علِّق قلوبَنا برجائِكَ، واقطع رجاءنا عمَّن سِواكَ يا رب العالمين.
اللهم انصر جنودنا المرابطين على حدود بلادنا، اللهم كن لهم معينًا وظهيرًا، ومؤيِّدًا ونصيرًا يا رب العالمين.
اللهم ربَّنا آتِنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقِنَا عذابَ النار.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23].
عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه وفضله وآلائه وإحسانه يزدكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي