"اللهم إني أسألك حبك"؛ أي: يمتلئ بها قلبي وتخالطني في مشاعري وجوارحي, فلا أوثر عليك أحدا, ولا أقدم طريقة على شرعك، ولا أتشاغل بدنيا عنها؛ فإنها الفلاح والفوز, وهي أسمى المطالب وأعظم الأماني، ومن استدام محبة شرع الله نال محبة الله، فخصه برحمة بالغة، وتوفيق ظاهر...
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين، وقيوّم السموات والأرَضين, نحمده ونشكره، ومن كل ذنب نستغفره, ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله, وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الحشر: 18]
معاشر المسلمين: إن التحابَّ بين البشر يورث الخلق والمودة والاحترام، وبذلَ الغالي والنفيس, فكيف بمن صرف ذلك إلى خالقه؛ فألهمهُ الله حبه وحب شريعته؟!
ومن الأدعية الثابتة التي قال فيها -صلى الله عليه وسلم- إنها حق فادرسوها وتعلموها؛ كما عند أحمد والترمذي: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُبَّكَ, وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ, وَالْعَمَلَ الَّذِي يُبَلِّغُنِي حُبَّكَ".
فإذا أُلهم العبدُ هذه المنزلة, ووفق لصدق المحبة؛ حملته على التقوى وحسن العمل, والتفاني في خدمة المحبوب.
وحينما ترى عابدا خاشعا قد أطال الصلاة واستغرق فيها, ماذا تفهم؟ وكيف تفسر ذلك؟! ليس له إلا تفسير الحب، والتلذذ بطاعة الله؛ (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)[المائدة: 54]؛ فهل يحسّ ذلك الإنسان بعدها بحزن أو مرارة, أو ينتابه ضيق أو جفاء، كلا!, بل سعادةٌ غامرة، ولذةٌ متناهية.
فَلَيْتَكَ تَحْلُو، وَالحَيَاةُ مَرِيرَةٌ *** وَلَيْتَكَ تَرْضَى وَالأَنَامُ غِضَابُ
وَلَيْتَ الّذي بَيْني وَبَيْنَكَ عَامِرٌ *** وبيني وبينَ العالمينَ خرابُ
إذا صَحَّ منك الودّ فالكُلُّ هَيِّنٌ *** وكُلُّ الذي فَوقَ التُّرابِ ترابُ
قال الإمامُ ابن القيم -رحمه الله-: "المحبة هي المنزلة التي يتنافس فيها المتنافسون، وعليها تفانى المحبون, وبرَوح نسيمها تروّح العابدون؛ فهي قوت القلوب, وغذاء الأرواح, وقرة العيون, وهي الحياة التي من حُرمها فهو في جملة الأموات, والنور الذي من فقده فهو في بحر الظلمات".
ومحبة الله -تعالى- هي التي تبلغنا السعادة, وتنشر فينا الحلاوة, وتدفع عنا أسباب المرارة والكآبة، "أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما"؛ كما قال -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح.
لكنها لا تنفع دعوى بلا ادعاء, ولا رجاء بلا ارتجاء، ولا أقوال بلا أفعال، ولا تقبل صماء جرداء, بل لابد من هدي وسنة, وعلى طريقة محكمة, قال ابن القيم -رحمه الله-: "إذا غُرست شجرة المحبة في القلب, وسقيت بماء الإخلاص ومتابعة الحبيب؛ أثمرت أنواع الثمار, فآتت أكلها كل حين بإذن ربها، أصلُها ثابت وفرعها في السماء، متصلٌ بسدرة المنتهى".
"اللهم إني أسألك حبك"؛ أي: يمتلئ بها قلبي وتخالطني في مشاعري وجوارحي, فلا أوثر عليك أحدا, ولا أقدم طريقة على شرعك، ولا أتشاغل بدنيا عنها؛ فإنها الفلاح والفوز, وهي أسمى المطالب وأعظم الأماني، ومن استدام محبة شرع الله نال محبة الله، فخصه برحمة بالغة، وتوفيق ظاهر؛ "وما تقرب إلي عبدي بشيء أحبَّ إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعَه الذي يسمع به, وبصره الذي يبصر به".
"اللهم إني أسألك حبك, وحب من يحبك"؛ ومن أحب الله -تعالى- أحب أنبياءه وأولياءه وصالحي دينه، وفرح بما يُحدثونه من خير في الإسلام، ومن أحبّ القوم لحق بهم, وإن لم يكن مثلهم عملا وديانة.
ثم قال: "وحب عمل يقربني إلى حبك"؛ أي: وأسألك التوفيق للصالحات والأعمال المقتضية لمحبة الله, فمن وفق للمحبوبات الشرعية أصاب المحبوبَ الأعظم، ونال أشرف لذائذ الحياة.
وبعد تعلّم هذه الدعوة العظيمة وتفقه معانيها؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنها حقٌ فادرسوها وتعلموها", فلابد لنا من التفكر في الأمور الجالبة لمحبة الله فنتطلبها، والأسباب الجالبة لسخط الله ومقته فنتجنبها.
وفقنا الله وإياكم لحسن العمل وبلوغ محبة الله, إنه جواد كريم, أقول قولي هذا, وأستغفر الله لي ولكم ولوالدي ولوالديكم ولسائر المسلمين, فاستغفروه وتوبوا إليه.
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة الكرام: عظمُ هذه المنزلة يوجب علينا الجد في تحصيلها, وطلب أسبابها, قال إبراهيم بن أدهم -رحمه الله-: "لو أنّ العباد علموا حبَّ الله -تعالى-؛ لقلّ مطعمُهم ومشربهم وملبسهم وحرصُهم, وذلك أن ملائكة الله أحبوا الله واشتغلوا بعبادته عن غيره, حتى إن منهم قائما وراكعا وساجدا، منذ خلق الله -تعالى- الدنيا ما التف عن يمينه وشماله؛ اشتغالا بالله وبخدمته".
ومن الأسباب المعينة على محبة الله: كما عدها العلامة ابن القيم -رحمه الله-: قراءة القرآن بالتدبر والتفهم؛ (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)[ص: 29], فكيف أحوالنا مع القرآن، ومتى آخر مرة فتحته، وهل ختمت وردك, وهل تُعده زادك اليومي، وغذاءك الروحي؟! (وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا)[الفرقان: 30].
والتقربُ إلى الله بالنوافل بعد الفرائض, والذكر المطلق وإيثار محاب الله على كل شيء, تصور لو أنك تذكر الله على كل حال, هذه السيارة كم مرة تستعملها في اليوم؟ لا ينفك أحدنا عنها يوميا!, فهل جربت أن تقرأ وردك من القرآن فيها، أو تملأها بالتسبيحات والتهليلات؟! ستلحظ أن هنالك وقت مهدر، وساعات تذهب بلا طائل!, والموفق من استثمرها في ذكر الله وتعظيمه.
ومنها: مطالعة القلب لأسماء الله وصفاته، ومشاهدة بره وإحسانه في الآفاق, وانكسار القلب بين يدي مولاه، والخلوة به في قيام الليل.
ومنها: مجالسة أهل الحب والذكر والصدق، فتخير أصدقاءك، وانتخب جلساءك، ولا تصاحب إلا تقيا، يحيا به قلبك، ويزيدك حسنًا إلى جمالك.
ومنها: التباعد عن مضرات القلوب, من معاص قاتلة، وأسقام داهمة، وخصال باهتة، وما يعوقها عن ربها خالقها -تعالى-؛ (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا)[الأنعام: 122]؛ فهما قلبانِ في الحياة, متشابهان شكلًا ولونًا وخلقة، ولكنّ أحدهما حي بذكر الله، والآخر ميت من معصية الله!, فتحسس روحك، والتمسها في الآفاق, واحرص على ما ينفعك.
وفقنا الله وإياكم لمحبته ومرضاته, وصلوا وسلموا على سيدنا محمد؛ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي