وكم من مرضٍ فجَّر ينابيعَ الخير في قلب صاحبه، وأطلَق لسانَه ذِكْرًا وحمدًا وتسبيحًا، المرض يُطَهِّر العبدَ من مشاعر الكِبْر والتفاخر، ويولِّد في النفس انكسارًا، ويملؤها تواضعًا وذُلًّا للخالق، ولولا محن الدنيا ومصائبها لأصاب العبدَ من أدواء الكِبْر والعُجْب وقسوة القلب ما هو سببُ هلاكِه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله الذي سمَا الكونُ بذِكْره، أحمده -سبحانه- على واسع حِلْمه وفضله، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)[الْإِسْرَاءِ: 44]، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، التي هي أعظم مقامات الإيمان، وسفينة النجاة في الدارين، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، خلَق الله الحياةَ وجعَل الإنسان يتقلَّب فيها بين صحة ومرض، وعافية وسقم، وفرح وحزن، وسراء وضراء؛ امتحانًا منه -سبحانه- لعباده، قال الله -تعالى-: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)[الْمُلْكِ: 1-2].
والمرض سُنَّة من سنن الله في الحياة في حياة البشر، يصيب به مَنْ يشاء مِنْ عباده، ويكشفه عمَّن يشاء، وهو العالِم بكل الأمراض، وأسبابها، وكنهها، ومَنْشَئِها، قال الله -تعالى-: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)[الْقَمَرِ: 49]، وقال صلى الله عليه وسلم: "واعلم أن ما أخطأكَ لم يكن ليصيبكَ، وما أصابكَ لم يكن ليخطئكَ" والله -عز وجل- هو الضارُّ النافع، وهو المعطي المانع، بيده وحده تقدير المرض، منه -سبحانه- الشفاء، قال الله -تعالى- حكايةً عن إبراهيم -عليه السلام-: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ)[الشُّعَرَاءِ: 80]، وكل ذلك لحكمة، وفي ثناياه نعمة، فإذا حلَّ الليل عُرِفَ قدرُ النهارِ، وفي المرض يعرَف قدرُ الصحة والعافية، والإنسان مهما ارتفع أمرُه، وترسَّخ علمُه، وفاض طِبُّه معرَّض للمرض؛ نال المرض من صفوة الخَلْق والنبيين، ولم يسلَمْ منه الأطباءُ، تقول عائشة -رضي الله عنها-: "ما رأيتُ أحدًا أشدَّ عليه الوجعُ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، ويقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "دخلتُ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يوعك، يتألم من الحمى".
ومن رحمة الله وعظيم ألطافه أَنْ جعَل لكلِّ مرضٍ دواءً، وجعَل لكل داء سببًا للشفاء، عَلِمَه مَنْ عَلِمَه، وجَهِلَه مَنْ جَهِلَه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء"، وفي الحديث الترغيب في طِبِّ الأبدانِ، سخَّر اللهُ -سبحانه- لعباده الدواءَ في الأرض والكون، فدواءٌ سِرُّهُ في الماء، وآخَرُ يُستخلَص من الغذاء، وثالث من نبات الأرض، ورابع من سموم الكائنات، بل إن الدواء موجود في كل مكان، كل ذلك يسَّره الله رحمةُ بعباده؛ لعلمه بضَعْفهم وحاجتهم، وافتقارهم إليه سبحانه.
حثَّ الإسلامُ على دراسة الداء والدواء، وجعَل تعلُّم الطب من أشرف العلوم بعد علم الشريعة؛ إذ به تُنقَذ حياةُ البشر، وتعاد الصحة من المرض، قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: "إنما العلم عِلْمَانِ، عِلم الدِّين وعِلْم الدنيا، فالعلم الذي للدِّين هو الفقه، والعِلْم الذي للدنيا هو الطب"، وقال رحمه الله: "لا أعلمُ عِلْمًا بعدَ الحلالِ والحرامِ أنبلَ مِنَ الطِّبِّ".
ومع كل ما بذلته البشرية في ميدان الطب وتطور وسائله فإنها تقف عاجزة عن الإحاطة بجُلِّ الأدواء، ويظهر عجزُ الإنسان حين تتسلَّل دقيقُ الكائنات وصغيرُها في حياتهم، وتتمكَّن من أجسادهم، وتُسَبِّب انتشارَ الأوبئة والأمراض الفتاكة، قال الله -تعالى-: (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)[الْحَجِّ: 73].
مع ظهور الأوبئة المفاجئة وسرعة حصدها لأرواح خلق كثير يتأكد ضَعْف الإنسان، وقصور علمه، ومحدودية قدرته، مهما بلغ قوة وسطوة، قال الله -تعالى-: (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا)[النِّسَاءِ: 28]، وهذا يدعوه إلى أن يطامن من نفسه، ويخضع لخالقه، خضوعَ التوبة والإنابة.
انتشارُ الأوبئةِ والطواعينِ أمرٌ جللٌ، يقتضي التوكلَ على الله، ودعاءَ الرب -سبحانه- السلامةَ منها، وبذلَ الوسع واتخاذَ الأسباب للتحرُّز منها، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا سمعتُم به بأرض فلا تَقْدَمُوا عليه، وإذا وقَع بأرضٍ وأنتُم بها فلا تخرجوا فرارًا منها".
عند انتشار الأوبئة يؤمِن المسلم بقضاء الله وقَدَرِه، ويُحسِن ظنَّه بربه، ويتأدب مع خالقه، فلا يتبرم، ولا يسخط، بل يتجمل بالصبر، ويُبصر في المرض مِنَحًا ربانيةً، وفضلًا عظيمًا، دخَل رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- على أم السائب أو أم المسيِّب فقال: "ما لكِ يا أمَّ السائب؟ أو يا أمَّ المسيِّب تُزَفْزِفِينَ؟ قالت: الحُمَّى لا بارَكَ اللهُ فيها. فقال: لا تَسُبِّي الحمَّى؛ فإنها تُذهِب خطايا بني آدم، كما يُذهِب الكيرُ خبثَ الحديدِ"، وقال صلى الله عليه وسلم: "ما يصيب المسلمَ من نصَب ولا وصَب ولا هَم ولا حزَن ولا أذًى ولا غَمٍّ حتى الشوكة يشاكها، إلا كفَّر اللهُ بها من خطاياه"، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يزال البلاءُ بالمؤمن أو المؤمنة في نفسه وماله وولده حتى يلقَى اللهَ وما عليه من خطيئة".
المرض سبب للجوء العبد إلى ربه، قال تعالى: (فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ)[الْأَنْعَامِ: 42]، وكم من مرضٍ فجَّر ينابيعَ الخير في قلب صاحبه، وأطلَق لسانَه ذِكْرًا وحمدًا وتسبيحًا، المرض يُطَهِّر العبدَ من مشاعر الكِبْر والتفاخر، ويولِّد في النفس انكسارًا، ويملؤها تواضعًا وذُلًّا للخالق، ولولا محن الدنيا ومصائبها لأصاب العبدَ من أدواء الكِبْر والعُجْب وقسوة القلب ما هو سببُ هلاكِه. ومصيبةٌ تُقبِل بها على الله، خيرٌ لكَ من نعمة تنسيكَ ذكرَ الله، والمسلم حين يُبصر الآفات والأوبئة تحل بغيره أفرادًا ومجتمعاتٍ فإنه يسأل الله -تعالى- السلامةَ ممَّا ابتلاهم به، ويحمده على العافية.
وفي الحديث: "من رأى مبتَلًى فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكَ به، وفضَّلَني على كثير ممَّن خلَق تفضيلًا لم يُصِبْه ذلك البلاءُ"، وقال صلى الله عليه وسلم: "سَلُوا اللهَ العفوَ والعافيةَ واليقينَ في الآخرة والأولى".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، تفرَّد بالجَلال والجَمال والكَمال، أحمده -سبحانه- وأشكره في الحال والمآل، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، الكبير المتعال، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسولُه، هداه اللهُ كريمَ الخصال، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه، صلاةً ننال ثوابَها في يوم لا بيع فيه ولا خلال.
أما بعدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
ومع تأمُّل التقلب في أحوال البشرية، والمنغِّصات الدنيوية، يتذكَّر المسلمُ النعيمَ المقيمَ، ثوابَ الجنة، التي لا مرضَ فيها، ولا همَّ ولا بلاءَ، قال صلى الله عليه وسلم: "ينادي منادٍ: إن لكم أن تَصِحُّوا فلا تسقموا أبدًا، وإن لكم أن تَحْيَوْا فلا تموتوا أبدًا، وإن لكم أن تَشِبُّوا فلا تهرموا أبدًا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدًا" فذلك قوله -عز وجل-: (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[الْأَعْرَافِ: 43].
ألا وصلوا -عبادَ اللهِ- على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وأزواجه وذريته، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدينَ، أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وعن الآل والصحب الكرام، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمِنًا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم من أراد بلادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرَّب إليها من قول وعمل، ونعوذ بكَ من النار وما قرَّب إليها من قول وعمل، اللهم إنَّا نسألكَ من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم.
اللهم أصلح لنا دينَنا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتَنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك فواتح الخير وجوامعه، وأوله وآخره، وظاهره وباطنه، ونسألك الدرجات العلا من الجنة يا رب العالمين.
اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علنيا، واهدنا ويسِّر الهدى لنا، وانصرنا على مَنْ بغى علينا، اللهم اجعلنا لك ذاكرين، لك شاكرين، لك مخبتين، لك أوَّاهين منيبين، اللهم تقبَّل توبتَنا، واغسل حوبتنا، وثبِّت حجتَنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخيمة قلوبنا.
اللهم إنَّكَ عفوٌّ تحب العفو فاعف عنا، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أعلنا وما أسررنا وما أنتَ أعلم به منا، أنتم المقدِّم وأنت المؤخِّر لا إله إلا أنتَ، اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، ومن تحوُّل عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك، اللهم إنا نعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، والهرم، وغلبة الدين وقهر الرجال، اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا وتولَّ أمرنا يا رب العالمين، اللهم وفِّق إمامَنا خادم الحرمين الشريفين لما تحب وترضى، اللهم وَفِّقْه لهداكَ واجعل عملَه في رضاك يا رب العالمين، ووفِّق وليَّ عهده لكل خير يا رب العالمين، ووفِّق جميعَ ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك ، وتحكيم شرعك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألك يا الله بأنكَ أنتَ اللهُ لا إله إلا أنتَ، أنتَ الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزِلْ علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا غرق، برحمتك يا أرحم الراحمين، (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23]، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الْحَشْرِ: 10]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي