فيجب على من لا يعلم أن يسأل أهل الذكر، فالعامي يستفتي العالِم الذي اشتُهر عند الناس بعلمه، واستفاض ذلك عنه، ومن الخطأ الذي يقع فيه البعض -ويكثر ذلك في الحج والعمرة- أنَّ البعض إذا رأى من عليه آثار الصلاح، قام بسؤاله، وربَّما أفتاه بغير علم، فوقع المفتي والمستفتي في الإثم، ولا بد أن نفرق حينما نريد الاستفتاء بين العالم وطالب العلم، وبين الواعظ والداعية...
إنَّ الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].
أمَّا بعد: فإنَّ خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
في ظلِّ سهولة الاتِّصالات، وكثرة مصادر التلقِّي، وتعدُّد الفتوى واختلافها، وتسوُّر البعض على الفتوى، حتَّى آل الأمر إلى أن تصدَّى للفتوى مَن ليس لها، من ليس معدودًا من طلاب العلم، فضلاً عن كونه من العلماء، في ظلِّ هذه الظروف يقعُ البعض في حَيْرة من أمره عمن أصدر، وبأيِّ الأقوال آخذ، لعلِّي في هذه الدَّقائق أحاول أنْ أجيب عن هذا التساؤل.
فالنَّاس طائفتان: طائفة لديها الأهلية للنَّظر في الأدلة الشرعيَّة صحةً وضعفًا ودلالة، ممن تخرجوا في المدارس الشرعيَّة، أو ممن لديهم عناية بالعلم الشَّرعي، فهذه الطائفة من الناس يَجب عليهم أن يجتهدوا، ولا يقلدوا أحدًا في المسائل التي يستطيعون الخروجَ بالحكم فيها، أمَّا المسائل التي لا يستطيعون معرفةَ الحكم فيها، فيقلدون أهل العلم.
والطائفة الثانية: هم مَن ليس لديهم أهليَّة النظر في الأدلة الشرعيَّة، فهؤلاء يقلدون غيرهم من علماء الأمة وطلاب العلم، دَلَّ على هذا التقسيم قول ربنا -تبارك وتعالى-: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [النحل: 43]، فمن لا يعلم يسأل أهل الذِّكر، ومفهوم الآية أنَّ من يعلم لا يسأل أهل الذِّكر.
فيجب على من لا يعلم أن يسأل أهل الذكر، فالعامي يستفتي العالِم الذي اشتُهر عند الناس بعلمه، واستفاض ذلك عنه، ومن الخطأ الذي يقع فيه البعض -ويكثر ذلك في الحج والعمرة- أنَّ البعض إذا رأى من عليه آثار الصلاح، قام بسؤاله، وربَّما أفتاه بغير علم، فوقع المفتي والمستفتي في الإثم، ولا بد أن نفرق حينما نريد الاستفتاء بين العالم وطالب العلم، وبين الواعظ والداعية، فلا نستفتي إلا مَن فرَّغ نفسه للعلم والتعليم وعُرف بذلك.
وهنا ينقدح في الذِّهن سؤال: ما صفاتُ أهل الذِّكر؟! مَنِ الفقيهُ الذي نستفتيه ونقلده؟! فالفقيه هو العالم العامل؛ قال ابن القيم في "مِفتاح دار السعادة" (1/319): "لم يكن السَّلف يطلقون اسمَ الفقه إلا على العلم الذي يصحبه العمل، كما سئل سعد بن إبراهيم عن أفقه أهل المدينة، قال: أتْقاهم، وسأل فرقدُ السبخيُّ الحسنَ البصريَّ عن شيء، فأجابه فقال: إنَّ الفقهاء يُخالفونك، فقال الحسن: ثكلتك أمُّك فريقد، وهل رأيت بعينيك فقيهًا؛ إنَّما الفقيه: الزاهد في الدُّنيا، الراغب في الآخرة، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربه، الذي لا يهمز من فوقه، ولا يسخر بمن دونه، ولا يبتغي على علم علَّمه الله تعالى أجرًا". اهـ.
إذًا هذا حال من سَلَفَ من فقهاء الأمة، وطَلَبُ مَن هذه صفاته في زماننا عزيز، لكن يتخير أفضل الموجود.
ومن صفات الفقيه الذي يُستفتى: أن لا يكون مهتمًّا بحب الظُّهور والرياسة، زاهدًا في ثناءِ النَّاس، ليس حريصًا على تصدُّر المجالس، فمن كان مهتمًّا بذلك، فليس بفقيه حقًّا، فالنُّصوص الشرعية تَنهى عن ذلك، فالفقه الفهم، ومَنْ هذه حاله، لم يفهم النصوص ومقاصد الشريعة.
قال سعيد بن يعقوب: "كتب إليَّ أحمد بن حنبل: بسم الله الرحمن الرحيم، مِن أحمد بن محمد إلى سعيد بن يعقوب، أمَّا بعد: فإنَّ الدُّنيا داء، والسلطان داء، والعالم طبيب، فإذا رأيت الطبيب يجر الداء إلى نفسه، فاحذره، والسَّلام عليك. فحذَّر الإمام أحمد من استفتاء مَن يرغب في المال والشَّرف من العلماء". شرح الكوكب المنير (4/550).
ومن صفاتِ الفقيه الذي يُستفتى: أن لا يكون عرف عنه التساهُل في الفتوى، سواء تساهله في دلالات النُّصوص، أم تساهله في عدم التثبُّت في ثبوت الأحاديث والآثار، أم تساهله في الاستعجال والإفتاء قبل فهم مُراد السائل، وما يحف بالسؤال من قرائن.
قال ابن النجار في "شرح الكوكب المنير" (4/588): "ويحرم التساهل فيها -أي الفتوى-، وتقليد معروف به -أي: بالتساهل-؛ لأنَّ أمر الفتيا خطر، فينبغي أن يتبع السَّلف في ذلك، فقد كانوا يهابون الفتيا كثيرًا". اهـ.
ومن صفات المفتي: أنْ يكونَ عُرف عنه تعظيم النُّصوص الشرعية، والوقوف عند ما جاء في كتاب الله، وما ثَبَتَ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الرَّاشدين، وعدم تقديمه العقل القاصر على النَّقل عن المعصوم، فما ضَلَّ من ضل في باب الاعتقاد من المعتزلة وغيرهم من المبتدعة، إلاَّ بردهم النُّصوص الشرعية، وتقديمهم العقل على النَّقل، وكذلك ما نراه من أقوال شاذَّة لبعض المعاصرين خرقوا بها الإجماع، إنَّما كان بسبب تقديمهم عقولهم القاصرة، وتأثر فتاواهم بالواقع.
قال الشوكاني في "إرشاد الفحول" (2/363): "العامي عليه أنْ يسأل أهل العلم المعروفين بالدِّين وكمال الورع، عن العالم بالكتاب والسنة، العارف بما فيهما، المطَّلع على ما يَحتاج إليه في فهمها من العلوم الآلية، حتَّى يدلوه عليه ويرشدوه إليه، فيسأله عن حادثته، طالبًا منه أنْ يذكر له فيها ما في كتاب الله سبحانه أو ما في سنة رسول الله، فحينئذ يأخذ الحقَّ من معدنه، ويستفيدُ الحكمَ من موضعه، ويستريحُ من الرأي الذي لا يأمن المتمسك به أنْ يقعَ في الخطأ المخالف للشرع المباين للحق، ومن سلك هذا المنهج، ومشى في هذا الطريق، لا يعدم مطلبه، ولا يفقد مَن يرشده إلى الحق، فإنَّ الله -سبحانه وتعالى- قد أوجد لهذا الشَّأن من يقوم به ويعرفه حقَّ معرفته، وما من مدينة من المدائن إلاَّ وفيها جماعة من علماء الكتاب والسنة". اهـ.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على القائل: "مَن يُردِ الله به خيرًا يُفقهه في الدِّين"، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين.
وبعد:
ومن صفات الفقيه الذي يُستفتى: أن لا يكون مرتكبًا محرمًا يُخرجه من العدالة إلى الفِسْق، كأن يكون مرتكبًا كبيرة، أو مصرًّا على صغيرة، فإذا كان ربُّنا اشترط العدالة في الشُّهود على قضايا دُنيوية قد تكون يسيرة أحيانًا، فأمر -تبارك وتعالى- إشهاد العدول في الدِّين؛ في قوله تعالى: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ اَلشُّهَدَاءِ) [البقرة: 282]، وأمر بإشهاد العدل في الطَّلاق والنكاح في قوله تعالى: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ) [الطلاق: 2]، وفي قول النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "لا نكاحَ إلاَّ بولي وشاهدي عدل".
فإذا كانت تُشتَرط العدالة في الشُّهود الذين يُخبرون عن أمور دنيوية، فالمفتي مبلغ عن الله، مُخبر عن أمره ونهيه، فاشتراط العدالة فيه أَوْلَى وأحرى، وأجمع أهلُ العلم على اشتراط العدالة في المفتي، وأنَّ الفاسق لا يُستفتى، وكيف يُستفتى وقد أمر الله بالتثبُّت من خبر الفاسق؟! قال النووي في "المجموع" (1/42): "واتَّفقوا على أنَّ الفاسق لا تصحُّ فتواه، ونَقَل الخطيب البغدادي فيه إجماع المسلمين". اهـ.
فالفقيه الذي نستفتيه هو الفقيه النَّاصح لنفسه، الذي ظَهَر للنَّاس حُسن سيرته وديانته، آثارُ العلم والسنة بادية عليه، قد صان نفسَه عما يشينها من المعاصي وخوارم المروءات، تتلمذ على عُلماء ربَّانيِّين، تعلَّم منهم العلم والعمل، عرف عنه الثَّبات وعدم التلون والتذبذب.
عبادَ الله: إذا اختلفت على المستفتي فتوى مفتِيَيْن، فعليه أنْ يجتهد في معرفة مأخذ كلِّ مُفتٍ، ويبحث عن أقربهما للحق، فيعمل بقوله، فإن لم يتمكن من ذلك، عمل بقول الأوثق من المفتِيَيْن، فيعمل بفتوى أفضلهما علمًا وتقوى وصلاحًا وحرصًا على السنة، وبعدًا عن المشتبهات، فمن هذه حاله من الفُقهاء يوفَّق للحق، ويُلهَم رشده؛ قيل للإمام أحمد: مَن نسأل بعدك؟! قال: "عبد الوهاب الورَّاق؛ فإنه صالح، مثله يوفَّق للحق". اهـ.
وفتوى الميت أَوْلَى من الحي، فالحي عرضة للتغيير والتبديل من حال إلى حال -نسأل الله أنْ يثبتنا جميعًا على الحقِّ-، بخلاف الميت، فقد أُمِنَت الفتنة عليه، فمن مقولة السَّلف: "إنْ كنتم لا بد مقتدين، فاقتدوا بالميت؛ فإنَّ الحي لا يُؤمن عليه الفتنة".
وقد حبا الله هذه البلاد وغيرها من بلاد المسلمين بعلماء ربانيِّين: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) [الأحزاب: 23]، ومن هؤلاء الشيخان ابن باز وابن عثيمين -رحمهما الله-؛ فلا يُعلم في هذا الزَّمان أعلم منهما ولا أتقى ولا أنصح للخلق منهما، أحسبهما كذلك، وحسيبهما الله، ولا أزكِّي على الله أحدًا، فليرجع لأقوالهما في المسائل التي يكثُر فيها القيل والقال.
أمَّا تتبُّع الرخص والاختيار من أقوال المفتين ما يناسب الهوى، فلم يقل أحد من أهل العلم بجوازه، فالعلماء مُجمعون على تحريم تتبُّع الرخص والاختيار بالتشهي، فهذا ينافي رسالةَ الرُّسل كلهم الذين جاؤوا لتحرير النفس من دواعي الهوى، والتسليم لأمر خالقها فيما تحب وتكره، فلنتق الله في أنفسنا، ولنتحرر من عبودية غير الله، وليكن طلب مرضاة الله واتِّباع هدي رسوله هو غايتنا ومقصدنا.
ولنكُن مِن:
قَوْمٌ إِذَا مَا نَاجِذُ النَّصِّ بَدَا *** طَارُوا لَهُ بِالْجَمْعِ وَالْوُحْدَانِ
وَإِذَا بَدَا عَلَمُ الْهُدَى اسْتَبَقُوا لَهُ *** كَتَسَابُقِ الْفُرْسَانِ يَوْمَ رِهَانِ
وَإِذَا هُمُ سَمِعُوا بِمُبْتَدِعٍ هَذَى *** صَاحُوا بِهِ طُرًّا بِكُلِّ مَكَانِ
وَرِثُوا رَسُولَ اللَّهِ لَكِنْ غَيْرُهُمْ *** قَدْ رَاحَ بِالنُّقْصَانِ وَالْحِرْمَانِ
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي