وَمِن هُنَا فَقَد يَكُونُ الحَقُّ في مَسأَلَةٍ مَا عِندَ وَاحِدٍ مِنهُم، وَالصَّحِيحُ في مَسأَلَةٍ أُخرَى عِندَ غَيرِهِ، وَالرَّاجِحُ في قَضِيَّةٍ ثَالِثَةٍ عِندَ غَيرِهِما، وَهَكَذَا، فَلَيسَ الحَقُّ محصُورًا في مَذهَبٍ، بَل وَلا حتى في أَحَدِ المَذَاهِبِ الأَربَعَةِ فَقَطْ، وَلِذَا فَإِنَّهُ لَيسَ مِنَ السَّائِغِ وَلا المَقبُولِ أَن يَجمُدَ مُسلِمٌ عَلَى مَذهَبٍ مَا، فَلا يَتَجَاوَزَهُ وَلَو عَلِمَ أَنَّ الحَقَّ الذي يُسنِدُهُ الدَّلِيلُ في غَيرِهِ...
أَمَّا بَعدُ: فَقَد سَبَقَ الكَلامُ في الجُمُعَةِ المَاضِيَةِ حَولَ مَا بُلِيَ بِهِ بَعضُ المَفتُونِينَ في الجَرَائِدِ وَالصُّحُفِ مِنَ التَّطَاوُلِ عَلَى العُلَمَاءِ وَالطَّعنِ فِيهِم وَالتَّقلِيلِ مِن شَأنِهِم، في مُحَاوَلَةٍ مِنهُم لِتَميِيعِ قَضَايَا الدِّينِ وَتَضيِيعِ أَحكَامِهِ، وَجَعلِ المُسلِمِين مسخًا مُشوَّهًا مِنَ المُجتَمَعَاتِ المُنحَلَّةِ الضَّائِعَةِ، وَتَخرِيجِ أَجيَالٍ مُرَاوِغَةٍ مُخَادِعَةٍ، ضَعِيفَةِ التَّمسُّكِ بِأَحكَامِ دِينِها، مُتقِنَةٍ لِلتَّحايُلِ عَلَى شَرَائِعِهِ، مُتَفَنِّنَةٍ في تَعطِيلِ سُنَنِهِ، وَإِنَّ ممَّا يَتَشَبَّثُ بِهِ هَؤُلاءِ المَفتُونُونَ وَيَجعَلُونَهُ مَخرَجًا لهم في كُلِّ مَرَّةٍ يُعَانِدُون فِيهَا وَيُجَادِلُونَ وَيُحَاوِلُونَ بِهِ أَنْ يَرُدُّوا الحَقَّ ويُطفِئُوا نُورَ الدَّليلِ، أَن يَذكُرُوا أَنَّ في المَسأَلَةِ خِلافًا، وَأَنَّ لِلعَالِمِ الفُلانيِّ فِيهَا رَأيًا، وَلِلبَاحِثِ العَلاَّنيِّ فِيهَا قَولاً، وَأَنَّ المُتَلَقِّيَ أَوِ المُستَفتيَ لَيسَ مُلزَمًا بِقَولِ هَذَا العَالِمِ أَو ذَاكَ، مُحَاوِلِينَ بِذَلِكَ أَن يُرَسِّخُوا في عُقُولِ العَامَّةِ وَالسُّذَّجِ أنَّهُ إِذَا كانتِ المَسأَلَةُ خِلافِيَّةً وَالآرَاءُ فِيهَا مُتَعَدِّدَةً فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلمَرءِ أَن يختَارَ مِنَ الأَقوَالِ ما يَرُوقُ لِذَوقِهِ ويُوَافِقُ هَوى نَفسِهِ.
وَايمُ اللهِ، إنهم بِذَلِكَ لَفَاتِحُو بَابٍ مِنَ الفتنةِ عَرِيضٍ، لَو وَلَجَتهُ الأُمَّةُ لَفَسَدَ دِينُها وَانهارت عَقِيدَتُها، وَلَمَا أَحلَّت حَلالاً ولا حَرَّمَت حَرَامًا؛ إِذْ إِنَّ مِن مَسَائِلِ الدِّينِ مجمُوعَةٌ لَيسَت بِاليَسِيرَةِ، لِلعُلَمَاءِ فِيهَا آرَاءٌ وَأَقوَالٌ، إِضَافَةً إلى أَنَّهُ ما مِن عالِمٍ إِلاَّ لَهُ خَطَأٌ أَو زَلَّةٌ أَو شَطحَةٌ أَو تَمَسُّكٌ بِرَأيٍ ضَعِيفٍ أَو انتِصَار لِقَولٍ مَرجُوحٍ، لا يُؤَيِّدُهُ دَلِيلٌ مِن نَقلٍ وَلا نَظَرٌ مِن عَقلٍ، وَلَو جَازَ لِكُلٍّ أَن يختَارَ مِنَ الأَقوَالِ مَا شَاءَ دُونَ ضابِطٍ، وَأَن يَتَّبِعَ زَلاَّتِ العلماءِ وَآرَاءَهُم المَرجُوحَةَ، وَيَأخُذَ بما نُقِلَ عَنهم مِنَ الرُّخَصِ، لَضَاعَ كَثِيرٌ مِنَ الدِّينِ، وَلَجَمَعَ الشَّرَّ كَثِيرٌ مِنَ المُسلِمِينَ.
وَمَا أَحسَنَ مَا قال سُلَيمَانُ التَّيمِيُّ -رحمه اللهُ-: "لَو أَخذتَ بِرُخصَةٍ كُلِّ عالِمٍ اجتَمَعَ فِيكَ الشَّرُّ كُلُّهُ". وَمِثلُهُ مَا جَاءَ عَنِ الإِمامِ أَحمَدَ -رحمه اللهُ- أَنَّهُ قال: سَمِعتُ يحيى القَطَّانَ يَقُولُ: "لَو أَنَّ رَجُلاً عَمِلَ بِكُلِّ رُخصَةٍ؛ بِقَولِ أَهلِ الكُوفَةِ في النَّبِيذِ، وَأَهلِ المَدِينَةِ في السَّمَاعِ، وَأَهلِ مَكَّةَ في المُتعَةِ، لَكَانَ فَاسِقًا".
وَقَالَ الأَوزَاعِيُّ -رحمه اللهُ-: "مَنْ أَخَذَ بِنَوَادِرِ العُلَمَاءِ خَرَجَ مِنَ الإِسلاَمِ".
وَقَالَ ابنُ عبدِ البَرِّ -رحمه اللهُ-: "لا يَجُوزُ لِلعَامِّيِّ تَتَبُّعُ الرُّخَصِ إجمَاعًا".
أيها المسلمون: إِنَّهُ وَإِن كان في مَسأَلَةٍ مَا قَولانِ أو ثَلاثَةٌ أَو أَكثَرُ فَإِنَّهُ يَجِبُ على المُسلِمِ أَن يَعلَمَ أَنَّ للهِ تعالى ورَسُولِهِ –صلى الله عليه وسلم- فِيهَا حُكمًا وَاحِدًا فَقَطْ، وَلَيسَ أَكثَرَ. نَعَمْ، لَيسَ لِلشَّرعِ في كُلِّ قَضِيَّةٍ إِلاَّ حُكمٌ وَاحِدٌ فَقَطْ؛ لأَنَّ الحَقَّ وَاحِدٌ لا يَتَعَدَّدُ، وَهَذَا الحُكمُ الصَّحِيحُ يُصِيبُهُ بَعضُ العُلَمَاءِ بِتَوفِيقِ اللهِ، وَيُخْطِئُهُ آخَرُونَ بِقَدَرِ اللهِ، وَلمَّا سُئِلَ الإِمَامُ مَالِكٌ -رحمه اللهُ- عَمَّن أَخَذَ بِحَدِيثٍ حَدَّثَهُ ثِقَةٌ عَن أَصحَابِ رَسُولِ اللهِ –صلى الله عليه وسلم- أَتُرَاهُ مِن ذَلِكَ في سَعَةٍ؟! فَقَالَ: "لا وَاللهِ، حتى يُصِيبَ الحَقَّ، مَا الحَقُّ إِلاَّ وَاحِدٌ".
وَقَالَ ابنُ عبدِ البَرِّ -رحمه اللهُ-: "وَلَو كَانَ الصَّوَابُ في وَجهَينِ مُتَدَافِعَينِ مَا خَطَّأَ السَّلَفُ بَعضُهُم بَعضًا في اجتِهَادِهِم وَقَضَائِهِم وَفَتوَاهُم، وَالنَّظَرُ يَأبى أَن يَكونَ الشَّيءُ وَضِدُّهُ صَوَابًا كُلُّهُ". انتهى كَلامُهُ.
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الخِلافَ في مَسأَلَةٍ مِنَ المَسَائِلِ أَو حُكمٍ مِنَ الأَحكَامِ -وَإِنْ سَاغَ لِلعُلَمَاءِ المُجتَهِدِينَ لأَسبَابٍ لَيسَ هَذَا مجالَ ذِكرِها- فَهُوَ لا يُسَوِّغُ لِلمَرءِ أَن يختَارَ مَا يُنَاسِبُ مَيلَ نَفسِهِ أو يُوافِقُ هَوَاهَا، ثم إِذَا نُوقِشَ أَو أُنكِرَ عَلَيهِ قَالَ: في المَسأَلَةِ خِلافٌ، أَو: هَذِهِ مَسأَلَةٌ خِلافِيَّةٌ. إِنَّ هذا لا يَصِحُّ وَلا يُقبَلُ عَلَى إِطلاقِهِ؛ لأَنَّهُ يَعني أَنَّ الإِنسَانَ تَحَلَّلَ مِن قُيُودِ الدِّينِ كُلِّهَا، وَلَو أَنَّ إِنسَانًا عَمِلَ بِهَذَا الانتِقَاءِ فَأَخَذَ قَولاً شَاذًّا في مَسأَلَة، وَمَالَ إِلى فَتوَى شَاذَّةٍ في حُكمٍ، وَأَعجَبَهُ رَأيٌ شَاذٌّ في قَضِيَّةٍ، لأَصبَحَ مجمُوعَةً مِنَّ الشُّذُوذَاتِ، وَلاجتَمَعَ فِيهِ الشَّرُّ كُلُّهُ، وَلَصَارَ عَبدًا لِهَوى نَفسِهِ ضَالاًّ مُضِلاًّ مُبتَدِعًا، لا عَبدًا رَبَّانِيًّا مُخبِتًا مُتَّبِعًا.
وَمِن هُنا -أيها المسلمون- فَإِنَّ عَلَينَا أَن نَحذَرَ كُلَّ الحَذَرِ، وَنُحَذِّرَ أَشَدَّ التَّحذِيرِ مِنِ اتِّبَاعِ هَذَا المَسلَكِ، وَالاعتِمَادِ على قَضِيَّةِ الخِلافِ لِلتَّحَلُّلِ مِن أَحكَامِ شَرِيعَتِنَا وَالتَّحَايُلِ عَلَيهَا. وَيَقُولُ قَائِلٌ: مَا المَوقِفُ السَّلِيمُ مِن خِلافِ العُلَمَاءِ؟! وَمَاذَا نَفعَلُ وَأَيَّ قَول نُرَجِّحُ، وَلا سِيَّمَا وَنحنُ في عَصرِ العَولَمَةِ وَانتِشَارِ القَنَوَاتِ وَكَثرَةِ المُفتِينَ وَاصطِدَامِنَا بِهَذَا القَدرِ مِنَ الخِلافَاتِ الفِقهِيَّةِ في الكُتُبِ المَطبُوعَةِ؟!
تَكَاثَرَتِ الظِّبَاءُ عَلَى خِرَاشٍ *** فَمَا يَدرِي خِرَاشٌ مَا يَصِيدُ
فَنَقُولُ أَوَّلاً -لِئَلاَّ يَأتيَ جَاهِلٌ مُغَرَّرٌ بِهِ أَو مُنَافِقٌ مَرِيضُ القَلبِ مَفتُونٌ، فَيَدَّعِيَ أَنَّ الدِّينَ كُلَّهُ خِلافٌ وَتَنَازُعٌ وَتَجَاذُبُ آرَاءٍ- نَقُولُ: إِنَّ مَسَائِلَ الخِلافِ في الشَّرِيعَةِ -وَإِنْ وُجِدَت وَتَكَلَّمَ فِيهَا العُلَمَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا- إِلاَّ أَنَّها -بِحَمدِ اللهِ- لا تُمَثِّلُ شَيئًا إِذَا قُورِنَت بِمَسَائِلِ الاتِّفَاقِ وَالإِجمَاعِ، فَمَسَائِلُ الإِجمَاعِ أَكثَرُ وَأَشمَلُ، وَاتِّفَاقُ العُلَمَاءِ أَغلَبُ وَأَعَمُّ.
ثم نَقُولُ ثَانِيًا: إِنَّ الناسَ يَنقَسِمُونَ حِيَالَ المَسَائِلِ الخِلافِيَّةِ إلى قِسمَينِ: طُلاَّبِ عِلمٍ وَعَامَّةٍ، فَهُنَاكَ طَالِبُ عِلمٍ يَمتَلِكُ الآلَةَ العِلمِيَّةَ؛ مِن مَعرِفَةٍ بِأُصُولِ الفِقهِ وَمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، وَإِلمَامٍ بِدلالاتِ اللُّغَةِ وَتَفسِيرِ القُرآنِ وَمَعَاني الآثَارِ، وَقُدرَةٍ على المُوَازَنَةِ بَينَ أَقوَالِ أَهلِ العِلمِ، وَيَستَطِيعُ أَن يَبحَثَ بِنَفسِهِ وَيَصِلَ بِالأَدِلِّةِ إلى القَولِ الرَّاجِحِ في نَظرِهِ وَإِن كَانَ لَيسَ دائِمًا هُوَ الرَّاجِحُ مُطلَقًا، فَهَذَا يَجِبُ عَلَيهِ أَن يَفعَلَ هَذَا الأَمرَ وَيَبحَثَ بِنَفسِهِ، وَيَنصَاعَ لِلدَّلِيلِ إِذَا عَلِمَهُ وَصَحَّ عِندَهُ، وَلا يَجُوزُ لَهُ التَّقلِيدُ أَبَدًا؛ قَالَ الشَّيخُ محمدُ بنُ صَالحٍ العُثَيمِين -رحمه اللهُ-: "الوَاجِبُ على مَن عَلِمَ بِالدَّلِيلِ أَن يَتَّبِعَ الدَّلِيلَ وَلَو خَالَفَ مَن خَالَفَ مِنَ الأَئِمَّةِ، إِذَا لم يُخَالِفْ إِجمَاعَ الأُمَّةِ".
القِسمُ الثاني: وَهُم مَن يُمكِنُ أَن نَصِفَهُم بِالعَامَّةِ، وَلا نَقصِدُ بِهِمُ الذين لا يَقرؤُونَ وَلا يَكتُبُونَ، وَإِنما المَقصُودُ كُلُّ مَن لَيسَ عَلَى جَانِبٍ مِنَ العِلمِ الشَّرعِيِّ، ولا يَستَطِيعُ البَحثَ وَلا يَهتَدِي إِلَيهِ سَبِيلاً، وَهَؤُلاءِ فَرضُهُم وَحُكمُهُم التَّقلِيدُ، لَيسَ لهم إِلاَّ هَذَا؛ لِعَجزِهِم عَنِ البَحثِ وَالنَّظَرِ وَالتَّرجِيحِ، وَلَكِنْ مَن يُقَلِّدُونَ؟! وَبِقَولِ مَن يَأخُذُونَ؟! وَمِن أَيِّ مَشرَبٍ يَرتَوُونَ؟! أَيجرُونَ خَلفَ كُلِّ نَاعِقٍ وَيَتَّبِعُونَ كُلَّ فَاسِقٍ؟! أَيَتَلَقَّونُ أَحكَامَ دِينِهمِ مِنَ مُرتَزِقَةِ الصَّحَافَةِ وَأَقزَامِ الإِعلامِ؟! أَم يَستَفتُونَ ذَلِكَ العَالِمَ لأَنَّهُ مُتَسَاهِلٌ، أَم يَتَّبِعُونَ رَأيَ هَذَا لأَنَّهُ سَمحٌ، أَم يَجمُدُونَ عَلَى قَولِ عَالِمٍ وَاحِدٍ، أَم لا يَسمَعُونَ إِلاَّ لِمَن كَانَ مِن أَهلِ بَلَدِهِم، أَم يَأخُذُونَ القَضِيَّةَ بِالأَمزِجَةِ وَالأَهوَاءِ وَالرَّغَبَاتِ؟! لا وَاللهِ، وَمَعَاذَ اللهِ أَن يَفعَلَ هَذَا مُسلِمٌ يَحذَرُ الآخِرَةَ وَيَرجُو رَحمَةَ رَبِّهِ.
إِنَّ هَؤُلاءِ العَامَّةَ وَاجِبٌ عَلَيهِم أَن يُقَلِّدُوا مَن يَثِقُونَ بِهِ في عِلمِهِ وَتَقوَاهُ وَأَمَانَتِهِ، وَيَستَفتُوا مَن يَعتَقِدُونَ أَنَّ آرَاءَهُ أَقرَبُ إلى حُكمِ اللهِ وَرَسُولِهِ، سَوَاءٌ مِنَ الأَحيَاءِ كَانَ أَم مِنَ الأَموَاتِ، مِن أَهلِ بَلَدِهِم أَم مِن غَيرِهِ، ثم هُم بَعدَ ذَلِكَ غَيرُ مُلزَمِينَ أَن يَسأَلُوا عَنِ الدَّلِيلِ، إِلاَّ مَن كَانَ مِنهُم يَفهَمُهُ وَيَعِيهِ، فَحَسَنٌ أَن يَعرِفَهُ وَيَتَمَسَّكَ بِهِ وَيَعَضَّ عَلَيهِ بِالنَّوَاجِذِ، أَمَّا مَن كَانَ مِنهُم غَيرَ مُستَطِيعٍ لِفَهمِ الأَدِلَّةِ فَحَسبُهُ أَن يَأخُذَ بِالفَتوَى وَيَعمَلَ بها دِيَانَةً للهِ القائِلِ سُبحانَه: (فَاسأَلُوا أَهلَ الذِّكرِ إِنْ كُنتُم لا تَعلَمُونَ) [النحل: 43].
أيها المسلمون: وَإِذَا كَانَ الشَّيءُ بِالشَّيءِ يُذكَرُ، وَإِذَا كُنَّا نَقُولُ: إِنَّهُ يَجِبُ على العَامِيِّ أَن يُقَلِّدَ، فَإِنَّ ممَّا يُنَبَّهُ إِلَيهِ مَعَ اختِلافِ المَذَاهِبِ أَنَّ الحَقَّ لَيسَ محصُورًا في وَاحِدٍ مِنَ المَذَاهِبِ دائِمًا، وَلَو قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ المَذهَبَ الفُلانيَّ كُلُّهُ حَقٌّ وَمَا عَدَاهُ بَاطِلٌ، لَكَانَ في ذَلِكَ مُخطِئًا بِلا خِلافٍ عِندَ أَهلِ العِلمِ، فَالحَقُّ لَيسَ مَحصُورًا في مَذهَبٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنَّ هَؤُلاءِ العُلَمَاءَ مِن أَصحَابِ المَذَاهِبِ كُلُّهُم قَدِ اجتَهَدُوا وَبَحَثُوا عَن الحَقِّ بِدَلِيلِهِ، حَالُهُم في ذلِكَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَكُلُّهُم مِن رَسُولِ اللهِ مُلتَمِسٌ *** غَرفًا مِنَ البَحرِ أَو رَشفًا مِنَ الدِّيَمِ
وَمِن هُنَا فَقَد يَكُونُ الحَقُّ في مَسأَلَةٍ مَا عِندَ وَاحِدٍ مِنهُم، وَالصَّحِيحُ في مَسأَلَةٍ أُخرَى عِندَ غَيرِهِ، وَالرَّاجِحُ في قَضِيَّةٍ ثَالِثَةٍ عِندَ غَيرِهِما، وَهَكَذَا، فَلَيسَ الحَقُّ محصُورًا في مَذهَبٍ، بَل وَلا حتى في أَحَدِ المَذَاهِبِ الأَربَعَةِ فَقَطْ، وَلِذَا فَإِنَّهُ لَيسَ مِنَ السَّائِغِ وَلا المَقبُولِ أَن يَجمُدَ مُسلِمٌ عَلَى مَذهَبٍ مَا، فَلا يَتَجَاوَزَهُ وَلَو عَلِمَ أَنَّ الحَقَّ الذي يُسنِدُهُ الدَّلِيلُ في غَيرِهِ، بَل الوَاجِبُ عَلَيهِ إَِذا قَلَّدَ عَالِمًا أَوِ اتَّبَعَ مَذهَبًا ثم وَجَدَ الحَقَّ في غَيرِهِ وَوَثِقَ أَنَّهُ الحَقُّ أَن يَأخُذَ بِهِ، قَال شَيخُ الإِسلامِ ابنُ تِيمِيَّةَ -رحمه اللهُ-: "مَنِ التَزَمَ مَذهبًا مُعَيَّنًا ثم فَعَلَ خِلافَهُ مِن غَيرِ تَقلِيدٍ لِعَالِمٍ آخَرَ أَفتَاهُ وَلا استِدلالٍ بِدَلِيلٍ يَقتَضِي خِلافَ ذَلِكَ وَمِن غَيرِ عُذرٍ شَرعِيٍّ يُبِيحُ لَهُ مَا فَعَلَهُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ، وَعَامِلاً بِغَيرِ اجتِهَادٍ وَلا تَقلِيدٍ، فَاعِلاً لِلمُحَرَّمِ بِغَيرِ عُذرٍ شَرعِيٍّ، فَهَذَا مُنكَرٌ.
وَأَمَّا إِذَا تبَيَّنَ لَهُ مَا يُوجِبُ رُجحَانَ قَولٍ على قَولٍ، إِمَّا بِالأَدِلَّةِ المُفَصَّلَةِ إِن كَانَ يَعرِفُها وَيَفهَمُهَا، وَإِمَّا بِأَن يَرَى أَحَدَ رَجُلَينِ أَعلَمَ بِتِلكَ المَسأَلَةِ مِن الآخَرِ وَهُوَ أَتقَى للهِ فِيمَا يَقُولُهُ، فَيرجِعُ عَن قَولٍ إلى قَولٍ لِمِثلِ هَذَا، فَهَذَا يَجُوزُ، بَل يَجِبُ، وَقَد نَصَّ الإِمَامُ أَحمَدُ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَالَ الشَّيخُ صالحٌ الفَوزَانُ حفظه اللهُ: "وَمُجَرَّدُ الانتِمَاءِ إلى المَذهَبِ لا مَانِعَ مِنهُ، لَكِنْ بِشَرطِ أَن لا يَتَقَيَّدَ بِهَذَا المَذهَبِ فَيَأخُذَ كُلَّ مَا بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ صَوَابًا أَم خَطَأً، بَلْ يَأخُذُ مِنهُ مَا كان صَوَابًا، وَمَا عَلِمَ أَنَّهُ خَطَأٌ لا يَجُوزُ لَهُ العَمَلُ بِهِ، وَإِذَا ظَهَرَ لَهُ القَولُ الرَّاجِحُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيهِ أَن يَأخُذَ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ في مَذهَبِهِ الذي يَنتَسِبُ إِلَيهِ أَم في مَذهَبٍ آخَرَ؛ لأَنَّ مَنِ استَبَانَت لَهُ سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ –صلى الله عليه وسلم- لم يَكُنْ لَهُ أَن يَدَعَهَا لِقَولِ أَحَدٍ... وَإِذَا كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَجِبُ تَقلِيدُ إِنسَانٍ مُعَيَّنٍ غَيرِ الرَّسُولِ –صلى الله عليه وسلم- فَهَذَا رِدَّةٌ عَنِ الإِسلامِ". انتَهَى كَلامُهُ.
نَعَم -أيها الإِخوَةُ-، الحَقُّ هُوَ مَا أَسنَدَهُ الدَّلِيلُ، الحَقُّ هُوَ مَا جَاءَ في كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، فَمَن أَفتى بِهِ مِنَ العُلَمَاءِ فَعَلَى الرَّأسِ وَالعَينِ، وَمَن جَهِلَهُ أَو ضَلَّ عَنهُ فَلا اعتِبَارَ لِرَأيِهِ وَلا اتِّبَاعَ لِقَولِهِ كَائِنًا مَن كَانَ، فَكَيفَ إِذَا كَانَ صَحَافِيًّا إِعَلامِيًّا مُهَرِّجًا أَو كَاتِبًا في جَرِيدَةٍ أَو مُحَرِّرَ صَحِيفَةٍ؟! قَالَ سُبحَانَهُ: (اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيكُم مِن رَبِّكُم وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ) [الأعراف: 4].
وَقَد كَانَ الأَئِمَّةُ الأَربعَةُ -رحمهم اللهُ- على هذا، ولم يَكُونُوا يَدعُونَ الناسَ إلى رَأيِهِم، بَل كَانُوا يُؤَصِّلُونَ في نُفُوسِهِم اتِّبَاعَ الحَقِّ بِدَلِيلِهِ؛ قال الإِمامُ أَبو حَنِيفَةَ -رحمه اللهُ-: "إِذَا صَحَّ الحَدِيثُ فَهُوَ مَذهَبي". وَقَال: "إِذَا قُلتُ قَولاً يُخَالِفُ كِتَابَ اللهِ تعالى وَخَبَرَ الرَّسُولِ –صلى الله عليه وسلم- فَاترُكُوا قَولي".
وَأَمَّا الإِمامُ مالكُ بنُ أَنَسٍ -رحمه اللهُ- فقد قال: "إِنما أَنَا بَشَرٌ أُخطِئُ وَأُصِيبُ، فَانظُرُوا في رَأيِي، فَكُلُّ مَا وَافَقَ الكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَخُذُوهُ، وَكُلُّ مَا لم يُوافِقِ الكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَاترُكُوهُ".
وَقَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ -رحمه اللهُ-: "مَا مِن أَحَدٍ إِلاَّ وَتَذهَبُ عَلَيهِ سُنَّةٌ لِرَسُولِ اللهِ –صلى الله عليه وسلم- وَتعزُبُ عَنهُ، فَمَهمَا قُلتُ مِن قَولٍ أَو أَصَّلتُ مِن أَصلٍ فِيهِ عَن رَسُولِ اللهِ –صلى الله عليه وسلم- خِلافُ مَا قُلتُ فَالقَولُ مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ –صلى الله عليه وسلم-، وَهُوَ قَولي".
وَقَالَ الإِمَامُ أَحمَدُ -رحمه اللهُ-: "لا تُقَلِّدْني، وَلا تُقَلِّدْ مَالِكًا، وَلا الشَّافِعِيَّ وَلا الأَوزَاعِيَّ وَلا الثَّورِيَّ، وَخُذْ مِن حَيثُ أَخَذُوا". وَقَالَ: "مَن رَدَّ حَدِيثَ رَسولِ اللهِ –صلى الله عليه وسلم- فَهُوَ عَلَى شَفَا هَلَكَةٍ، وَاللهُ تعالى يَقُولُ: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لاَ يَجِدُوا في أَنفُسِهِم حَرَجًا ممَّا قَضَيتَ وَيُسَلِّمُوا تَسلِيمًا) [النساء: 65]، ويقول: (فَلْيَحذَرِ الذِينَ يُخَالِفُونَ عَن أَمرِهِ أَن تُصِيبَهُم فِتنَةٌ أَو يُصِيبَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63].
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ -أيها المسلمون- وَكُونُوا رَبَّانِيِّينَ مُتَّبِعِينَ، وَلا تَكُونُوا شَهوَانِيِّينَ مُبتَدِعِينَ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ: (إِنَّمَا كَانَ قَولَ المُؤمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحكُمَ بَينَهُم أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ * وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ) [النور: 51، 52].
أَمَّا بَعدُ:
فاتقوا اللهَ حَقَّ التقوى، وَتَمَسَّكُوا مِنَ الإِسلامِ بِالعُروَةِ الوُثقى، وَاحذَرُوا مَا يُسخِطُ رَبَّكُم -جل وعلا-، فَإِنَّ أَجسَامَكُم على النارِ لا تَقوَى.
ثم اعلَمُوا أَنَّ مَن أَرَادَ الحَقَّ أَصَابَهُ، وَمَن طَلَبَ الصَّوَابَ وَجَدَهُ، وَمَن لَجَأَ إلى اللهِ وَفَّقَهُ اللهُ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرضَاهُ، قال سبحانَه: (فَأَمَّا مَنْ أَعطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالحُسنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِليُسرَى) [الليل: 5-7]، وقال -جل وعلا: (ومن يَعتَصِمْ باللهِ فقد هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُستَقيمٍ) [آل عمران: 101].
وَأَمَّا مَن تَحَايَلَ على شَرعِ اللهِ، وَطَلَبَ الحِيَلَ لِتَميِيعِ الأَحكَامِ، وَجَادَلَ في آيَاتِ اللهِ بِغَيرِ عِلمٍ، وَأَلزَمَ نَفسَهُ المُحَاجَّةَ وَالمُمَاحَلَةَ في البَاطِلِ -كَحَالِ أَولَئِكَ الصَّحافِيِّينَ الحَمقَى- فَمَا أَقرَبَهُ مِن غَضَبِ اللهِ وَمَا أَشقَاهُ بِعَذَابِهِ، وَمَا أَضَلَّ سَعيَهُ وَأَبطَلَ حُجَّتَهُ، فَقَد قَالَ سُبحانَهُ: (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ في اللهِ مِن بَعدِ مَا استُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُم دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِم وَعَلَيهِم غَضَبٌ وَلَهُم عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى: 16].
قَالَ ابنُ كَثِيرٍ -رحمه اللهُ- في تَفسِيرِهِ: "يَقُولُ تعالى مُتَوَعِّدًا الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ مَن آمَنَ بِهِ: (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ في اللهِ مِن بَعدِ مَا استُجِيبَ لَهُ)، أَيْ: يُجَادِلُونَ المُؤمِنِينَ المُستَجِيبِينَ للهِ وَلِرَسُولِهِ لِيَصُدُّوهُم عَمَّا سَلَكُوهُ مِن طَرِيقِ الهُدى، (حُجَّتُهُم دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِم) أَيْ: بَاطِلَةٌ عِندَ اللهِ، (وَعَلَيهِم غَضَبٌ) أَيْ: مِنهُ، (وَلهم عَذَابٌ شَدِيدٌ) أَيْ: يَومَ القِيَامَةِ. قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ -رضي اللهُ عنه- ومُجَاهِدٌ -رحمه اللهُ-: "جَادَلُوا المُؤمِنِينَ بَعدَمَا استَجَابُوا للهِ وَلِرَسُولِهِ لِيَصُدُّوهُم عَنِ الهُدى، وَطَمِعُوا أَن تَعودَ الجَاهِلِيَّةُ".
وَقَالَ سُبحانَهُ: (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ في آيَاتِ اللهِ بِغَيرِ سُلطَانٍ أَتَاهُم إِنْ في صُدُورِهِم إِلاَّ كِبرٌ مَا هُم بِبَالِغِيهِ فَاستَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ). قال ابنُ كثيرٍ -رحمه اللهُ-: "(إنَّ الذينَ يُجَادِلُونَ في آيَاتِ اللهِ بِغَيرِ سُلطَانٍ أَتَاهُم) أَيْ: يَدفَعُونَ الحَقَّ بِالبَاطِلِ وَيَرُدُّونَ الحجَجَ الصَّحِيحَةَ بِالشُّبَهِ الفَاسِدَةِ بِلا بُرهَانٍ وَلا حُجَّةٍ مِنَ اللهِ، (إِنْ في صُدُورِهِم إِلاَّ كِبرٌ مَا هُم بِبَالِغِيهِ) أَيْ: مَا في صُدُورِهِم إِلاَّ كِبرٌ عَلَى اتِّبَاعِ الحَقِّ وَاحتِقَارٌ لِمَن جَاءَهُم بِهِ، وَلَيسَ مَا يَرُومُونَهُ مِن إِخمَادِ الحَقِّ وَإِعَلاءِ البَاطِلِ بِحَاصِلٍ لهم، بَلِ الحَقُّ هُوَ المَرفُوعُ، وَقَولُهُم وَقُصدُهُم هُوَ المَوضُوعُ، (فَاستَعِذْ بِاللهِ) أَيْ: مِن حَالِ مِثلِ هَؤُلاءِ، (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)".
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي