إن اللغة العربية شأنها عظيم؛ لأنها لغة القرآن الكريم, وهي سبيل للتفقه فيه وفهم معانيه, ومما يلاحظ أننا أصبحنا لا نهتم بها, مما ولد عدم الاعتزاز بلغتنا, حتى أصبح الرد في القبول والرفض, وكثيرا من أساليب الطلب والعرض بغير اللغة العربية حتى أمام أبنائنا, مما أضعف قيمة اللغة العربية أمامهم, فلم تعد ضمن اهتماماتهم...
الحمد لله خلق الإنسان, فوهبه اللسان, وعلمه البيان, وسهل له تلاوة القرآن, أحمده -سبحانه- وأشكره, حمدا وشكرا يليق بربنا الرحمن, وأستعينه -تبارك وعز- وهو المستعان, وأستهديه وهو الهادي لمن شاء من الضلال والطغيان, وأستغفره -جل في علاه- من كل زلل وخطأ وعصيان, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, شهادة عبد اعتقدها بالجنان, وقالها باللسان, وعمل لها بالجوارح والأركان, وأشهد أن محمدا عبدالله ورسوله, آتاه ربه جوامع الكلم والتبيان, صل الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه, ما بقي الثقلان.
ثم أما بعد: فأوصيكم إخوة الإيمان ونفسي المقصرة بتقوى الواحد الديان, والقول والعمل بالسنة والقرآن, وتطبيقهما في كل أمر وشان؛ فهي من فتن الدنيا أمان, وللفوز بالأخرى ضمان, (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)[الأنفال: 29].
أيها المسلمون: يا من بالله تؤمنون وتوحدون, وله تركعون وتسجدون, ولرسوله تتبعون, ولكلامه تقرؤون, وبلغة كتابه تنطقون, حقيق لربكم أن تحمدوه -سبحانه- وله تشكرون, فالحمد لله حين تمسون وحين تصبحون, بكل ماسبق أنتم على غيركم مفضلون, وبإذنه -تعالى- تكونون أنتم الناجين, خير أمة أخرجت للعالمين, ونبيكم خاتم المرسلين, ولغتكم لغة القرآن المبين, الذي تحدى الله به أفصح ثلة, وجعله دواء لكل علة, وجعل السلام فيه تحية أهل الجنة, (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)[الشعراء: 192 - 195], وقال -سبحانه-: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[يوسف: 2]؛ فمن يعقل!, وكلكم يعقل ولا يجهل بأن من أهم أسباب عز الأمم وقيامها المحافظة على لسانها ولغتها, وإننا أمة الإسلام -كما أسلفت- منَّ الله علينا بأفصح لسان, وأبلغ بيان, أفضل اللغات, ألا وهي اللغة العربية لغة القرآن, فالحمد لله على الامتنان.
أيها الأحبة -وفقني الله وإياكم لما أحبه-: اعلموا بأن لغتكم العربية جعلها الله موافقة لكتابه المعجزة, الذي تحدى به أهل الشرك والضلالة, وجعله للعباد آية, وعلى عظمته -سبحانه- دلالة, هذه اللغة التي اعتز بها الأوائل, وطرحوا بها كل منازل, وجعلوا المحافظة عليها والاهتمام بها شغلهم الشاغل, فلا يتعبد بقراءة القرآن إلا بها, ولا تقرأ الفاتحة في الصلاة إلا بلفظها, والتي لا تصح الصلاة إلا بقراءتها, ولكم بلغ من اهتمام السلف كعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وغيره بها؛ فقد كان يوصي الصحابة الذين اختلطوا بالأعاجم ألا يغفلوا عن علوم العربية, فكتب لهم -أي لأصحابه-: "أما بعد: فتفقهوا في السنَّة, وتفقهوا في العربية, وأعربوا القرآن؛ فإنه عربي", وكان يقول: "تعلموا العربية؛ فإنها تنبت العقل, وتزيد المروءة", وفي مرة كتب كاتب لأبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- خطابا لعمر, فبدأه بقوله: "من أبو موسى", فكتب إليه عمر: "أن اضربه سوطا, واستبدله بغيره".
ألا رضي الله عن عمر, لو أنه بين ظهرانينا اليوم, كم منا سيجلد؟! وكم كاتبا لعمله سيفقد؟! ستتعب إن تعد, وكان الحسن البصري -رحمه الله- يقول: "ربما دعوت فلحنت؛ فأخاف ألا يستجاب لي", وكان أيوب السختياني -رحمه الله-: "إذا لحن استغفر الله"! فأكثروا من استغفار الله.
قال أحدهم شعرا فيها:
لغة القرآن يا شمس الهدى *** صانك الرحمن من كيد العدى
هل على وجه الثرى من لغة *** أحدثت في مسمع الدهر صدى؟
مثلما أحدثته في عالم *** عنك لا يعلم شيئاً أبداً
فتعاطاك فأمسى عالما *** بك أفتى وتغنى وحدا
وعلى ركنك أرسى علمه *** خبر التوكيد بعد المبتدا
أنت علمت الأُلى أن النهى *** هي عقل المرء لا ما أفسدا
واليوم أصبحت لغتنا غريبة بيننا, وحاد الجل, ولئلا أغضبكم لم أقل: الكل عنها, وأصبح حريصا على غيرها لا عليها؛ فغابت عنا لذتها, وفقدت المسامع حلاوتها, وأصبحنا نجهل معاني ألفاظها, وسادت الدارجة حتى أبعدتها, وأصبحت الدنيا وغيرها عالاً عليها, فمن السبب؟ أنا وأنت, وهو وهي, وهم وهن, بالإشارة قلت: إن كنت قبل هذا -يا أخي- لا تعرفهن.
قال حافظ ابراهيم على لسانها:
رَجعتُ لنفسي فاتهمتُ حصاتي *** وناديتُ قوْمي فاحتسبتُ حياتي
رَموني بعقمٍ في الشبابِ *** وليتني عقمتُ فلم أجزَعْ لقولِ عداتي
وَلدتُ ولما لم أجدْ لعرائسي *** رِجالاً وأَكفاءً وَأَدْتُ بناتي
وسعتُ كتابَ اللهِ لفظاً وغايةً *** وما ضقتُ عن آيٍ به وعظاتِ
فكيف أضيقُ اليومَ عن وَصفِ آلةٍ *** وتنسيقِ أسماءٍ لمخترَعاتِ
أنا البحر في أحشائه الدر كامن *** فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
إلى أن قال:
إلى معشرِ الكتابِ والجمعُ حافلٌ *** بسطتُ رجائي بعدَ بسطِ شكاتي
فإما حياةٌ تبعثُ الميتَ في البلى *** وتنبتُ في تلك الرُموسِ رُفاتي
وإما مماتٌ لا قيامة بعدَهُ *** مماتٌ لعمرِي لمْ يقسْ بممات
فيا لجمال لغة كتاب الله -جل وعلا- وما أبلغه!, وما أعظم تقصيرنا في حقه, وأن نتعمق فيه ونتعلمه, والله أسأل لي ولكم المغفرة فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله حمدا يليق بالمحمود كما أحبه, والشكر لمن أباح السحر في البيان وأحله, وبالتوحيد أشهد له وحده, وأن محمد المبعوث عبده, صلى الله وسلم عليه, وعلى من سار على النهج بعده.
وبعد: يا من أسأل لكم ربكم أن تكونوا في دينه النخبة, اتقوا الله فمن اتقى الله نال أجره وحاز فضله, (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا)[الطلاق: 4].
عباد الله: إن اللغة العربية شأنها عظيم؛ لأنها لغة القرآن الكريم, وهي سبيل للتفقه فيه وفهم معانيه, ومما يلاحظ أننا أصبحنا لا نهتم بها, مما ولد عدم الاعتزاز بلغتنا, حتى أصبح الرد في القبول والرفض, وكثيرا من أساليب الطلب والعرض بغير اللغة العربية حتى أمام أبنائنا, مما أضعف قيمة اللغة العربية أمامهم, فلم تعد ضمن اهتماماتهم, واستبدلت غيرها ألفاظهم, وقد سمعت حوارا بسيطا جرى بين أمير منطقة مكة المكرمة خالد الفيصل وبين شخص آخر, كان يضمن حديثه كلمات باللغة الإنجليزية؛ فقطع عليه حديثه وعاتبه على هذا الفعل, حتى قال -أعانه الله- في محفل: "لقد كرمنا الله بأن تكون لغة آخر الكتب السماوية بلغتنا, وبعث فينا ومن الأمة العربية آخر رسله محمد -صلى الله عليه وسلم-, كما أن مصدر الشرف والفخر لنا مجاورة بيته العتيق ومسجد رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم-, وهذه الأمور تحتم علينا العناية باللغة العربية والاحتفاء بها, فهي اللغة الوحيدة التي لا تزال تستخدم كما جاءت في أصلها, وهي اللغة التي لم تنبثق عن لغات أخرى", إلى آخر ما قاله في خطابه, وكله تأكيد لعظم هذه اللغة, واستنكار للبعد عنها, أو استخدام غيرها في البلاد العربية كافة.
وقد دعا -أجرى الله الخير على يديه- أن يكون موضوع ملتقى مكة الثقافي, بمسمى: "كيف نكون قدوة بلغة القرآن؟", جعلني الله وإياكم من أهل القرآن, وهدانا إلى الحق حيثما كان, ومع أني لم أخرج عن هذا الموضوع كل ما في خلدي والجنان, إلا أن التذكير به لعله يحرك ما في النفوس من أشجان للغة القرآن, وينبه الغافل مثلي؛ لما في لغته من عزة وجمال يشار إليها ببنان.
ثم الصلاة والسلام يبلغان *** من بين الدين لنا خير بيان
وثبت الشرع بوعظ وسنان
(إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56], اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِينَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالأَئِمَّةِ الـمَهْدِيينَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَعَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِعَفْوِكَ وَكَرَمِكَ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي