وقد اختلف العلماء في فضل هذه العشر، والعشر الأخير من رمضان، فقال بعضهم: هذه العشر أفضل لهذا الحديث، وقال بعضهم: عشر رمضان أفضل للصوم والقدر، والمختار أن أيام هذه العشر أفضل ليوم عرفة، وليالي عشر رمضان أفضل لليلة القدر؛ لأن يوم عرفة أفضل أيام السنة، وليلة القدر أفضل ليالي السنة، ولذا قال: "ما من أيام"، ولم يقل: ما من ليال.
الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، أرسله بالحق بشيرًا ونذيرًا بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد: بعد أيام يظلنا هلال شهر ذي الحجة، بعشره الأوائل المباركات، إنها أفضل أيام الدنيا، أقسم الله بها في كتابه العزيز بقوله -سبحانه وتعالى-: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) [الفجر: 1-3]، والمراد بالفجر هنا فجر يوم النحر خاصة، وهو خاتمة الليالي العشر، والمراد بالوتر يوم عرفة، والشفع يوم النحر.
إنها الأيام المعلومات التي شرع الله فيها ذكره في قوله -عز وجل-: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ)[الحج: 28]، وقوله -سبحانه وتعالى-: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) [البقرة: 203]، قال ابن عباس: "الأيام المعلومات هي أيام العشر من ذي الحجة، والأيام المعدودات هي أيام التشريق.
ما من أيام يحب الله العمل الصالح فيها أكثر من هذه الأيام، وفى فضلها قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما من أيامٍ العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر"، وفى لفظ آخر: "ما من عملٍ أزكى عند الله -عز وجل- ولا أعظم أجرًا من خيرٍ تعمله في عشر الأضحى"، فقالوا: يا رسول الله: ولا الجهاد في سبيل الله؟! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيءٍ".
ففي الحديث تفضيل بعض الأزمنة على بعض كما تفضل الأمكنة بعضها على بعض، وفيه فضل أيام عشر ذي الحجة على غيرها من أيام السنة، كأنه قيل: ليس العمل في أيام سوى العشر من ذي الحجة أحب إلى الله من العمل في هذه العشر؛ لأنها أيام زيارة بيت الله، والوقت إذا كان أفضل كان العمل الصالح فيه أفضل.
وقد اختلف العلماء في فضل هذه العشر، والعشر الأخير من رمضان، فقال بعضهم: هذه العشر أفضل لهذا الحديث، وقال بعضهم: عشر رمضان أفضل للصوم والقدر، والمختار أن أيام هذه العشر أفضل ليوم عرفة، وليالي عشر رمضان أفضل لليلة القدر؛ لأن يوم عرفة أفضل أيام السنة، وليلة القدر أفضل ليالي السنة، ولذا قال: "ما من أيام"، ولم يقل: ما من ليال.
وفي الحديث تعظيم قدر الجهاد وتفاوت درجاته، وأن الغاية القصوى فيه بذل النفس لله؛ ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم-: "ولا الجهاد في سبيل الله" أفضل من العمل الصالح في تلك الأيام، "إلا" جهاد "رجلٍ" "خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك" المال ولا من نفسه، "بشيءٍ"؛ فهو قد بذل ماله ونفسه في سبيل الله، فيكون هذا –فقط- هو العمل الأفضل من أي عمل صالح آخر في أيام العشر أو المساوي له.
إنها العشر التي بها يوم عرفة، يوم إكمال الدين، وإتمام النعمة، فيه نزل قول الله -عز وجل-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً) [المائدة: 3]، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام، فهذه أكبر نعم الله -سبحانه وتعالى- على هذه الأمة، حيث أكمل -عز وجل- لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم -صلى الله عليه وسلم-.
إنها العشر التي يزينها يوم عرفة، ذاك اليوم الذي يدنو الله -سبحانه وتعالى- فيه ثم يباهي بأهل الموقف ملائكة السماء، فما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيدًا من النار من يوم عرفة.
إنها العشر التي جمع الله فيها أمهات العبادات كلها، فما من عبادة في الإسلام إلا ولها مكان في هذه العشر، إنها الموسم الأخير في هذا العام، العمل الصالح فيها محبوب إلى الملك الديان، أفلا تحب ما أحبه مولاك؟!
إن بلوغ هذه العشر بعد رمضان نعمة عظيمة؛ فكم من نفس أدركت رمضان لم تدرك عيد الفطر بعده، وكم نفس أدركت عيد الفطر لم تدرك عشر ذي الحجة ولا عيد الأضحى بعدها، فاحمد الله على نعمة بلوغ هذا الموسم من مواسم الجنة.
إن هذه العشر هي العزاء لمن فرَّط في رمضان، فها هو مولاك -عز وجل- يمهلك ويمد في عمرك، فماذا أنت فاعل؟!
كم مرت علينا في أوائل الشهور من عشرٍ لم يكن لها مزية، أما هذه العشر فقد ميَّزها خالقها وجعلها خير أيام العام، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أفضل أيام الدنيا أيام العشر".
إنها عشر ذي الحجة، الشهر الأخير من العام، وعما قليل ستطوى صحائفه، وتغلق خزائنه على ما عملناه فيه من خير أو شر، فاختم عامك -أيها المسلم- بخير؛ فإن العبرة بالخواتيم.
علينا إذن أن نبذل أقصى الجهد لاستغلال هذا الموسم، موسم الخير الذي فاق العمل الصالح فيه حبًّا عند الله، فاق الجهاد في سبيل الله، مع أن الجهاد ذروة سنام الدين، فهي نفحة من الله قد لا ندرك مثلها مرة ثانية؛ فالأعمار بيد الله -عز وجل-، والعاقل من ينتهز الفرصة، والمحروم من ضيعها.
فما هي أنواع العمل الصالح في هذه العشر التي قد لا تعود؟!
أولاً: التوبة النصوح؛ فحري بالمسلم أن يستقبل هذه الأيام العشر بالتوبة الصادقة؛ لأنه ما حُرم عبد خيرًا في الدنيا أو الآخرة إلا بسبب ذنوبه، قال -عز وجل-: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى: 30].
والتوبة تكون بالإقلاع عن الذنوب والمعاصي، والندم على ما مضى، والعزم على عدم العودة، وأن تكون خالصة لله، وأن يتمسك بشرع الله بعدها في كل الأمور؛ فيكون بذلك ممن مدحهم الله -سبحانه وتعالى- بقوله: (إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) [الفرقان: 70]. ومع التوبة يكثر من أعمال الخير في هذه العشر، فهي موسم من مواسم الخير العامة.
ثانيًا: صيام تسعة أيام من هذه العشر أو ما تيسر، فكثير من الناس يركز على الصيام، والصيام عمل طيب، بل قد استدل بالحديث الذي ذكرناه على فضل صيام عشر ذي الحجة؛ لاندراج الصوم في العمل، فاحرص على هذه القربة وخاصة يوم عرفة؛ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده".
انظر إلى هذا الفضل العظيم، كيف أن صوم عرفة وحده يمحو الله به ذنوب سنتين كاملتين، فالسعيد من اغتنم هذه الأوقات العظيمة وصام يوم عرفة، وحفظ فيه لسانه وسمعه وبصره وجميع جوارحه عما يغضب الله تعالى، وينبغي -أخي المسلم- أن تدعو أهل بيتك وأقاربك وأصدقاءك وجيرانك لصوم يوم عرفة المبارك؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من دل على خيرٍ فله مثل أجر فاعله". وتذكر أن "من صام يومًا في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفًا".
ثالثًا: التكبير والذكر؛ قال ابن عباسٍ -رضي الله عنه-: "(وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) أيام العشر". والأيام المعدودات أيام التشريق، وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.
فالتكبير هو شعار أهل الإيمان في هذه الأيام العشر، ولا يمنعك الخجل -أيها المسلم- من الجهر بالتهليل والتكبير والتحميد والتسبيح ورفع الصوت بها في المساجد والدور والطرقات والأسواق في كل وقت، فقد عرفنا من قول ابن عباس أن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ومنهم ابن عمر وأبو هريرة -رضي الله عنهما- كانا يخرجان إلى الأسواق لا لحاجة الشراء وإنما لإحياء هذه السنة وهي التكبير، ويكبر الناس بتكبيرهما، وصفته أن تقول: "الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد".
رابعًا: أداء الحج والعمرة؛ وليتذكر المسلم أن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، وأن جائزة أهل عرفات أن يقال لهم: انصرفوا مغفورًا لكم، وأنت -يا من تركت الحج مع استطاعتك- تذكر زحام المحشر وحر جهنم، ثم تذكر أن الحج باب لنفي الفقر والذنوب: "تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثوابٌ إلا الجنة". والبخيل من بخل على نفسه.
خامسًا: الصدقة والإحسان إلى الخلق؛ وتذكر -أخي- أنك بهذا تحسن إلى نفسك قبل إحسانك إلى المحتاجين، تصدق في كل يوم من هذه الأيام ولو بالقليل اليسير، عسى أن يرفع اسمك إلى السماء مع أسماء المنفقين؛ فـ"ما من يومٍ يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعطِ منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعطِ ممسكًا تلفًا".
واعلم أن الله يقبل الصدقة ولو كانت تمرة، وتمعَّن في قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "من تصدق بعدل تمرةٍ من كسبٍ طيبٍ -ولا يقبل الله إلا الطيب-، وإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون مثل الجبل". فكم ضيعنا في مواسم الخير من جبال ومن فرص.
سادسًا: الأضحية؛ وهنا أذكركم بسنة نسيها الكثيرون، وهي أن من أراد الأضحية فليمسك عن شعره وظفره وبشرته أيام العشر؛ لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من كان له ذبحٌ يذبحه فإذا أهلَّ هلال ذي الحجة فلا يأخذن من شعره ولا من أظفاره شيئًا حتى يضحي". وهذا الحكم خاص بالمضحي فقط، أما المضحى عنهم فلا يلزمهم الإمساك، طبعًا ما عدا اللحية؛ فإنه لا يجوز حلقها أو تقصيرها لا في هذه الأيام ولا في غيرها من الأيام، واعلم أن من أخذ شيئًا من ذلك متعمدًا فإن ذلك لا يمنعه من الأضحية، وعليه التوبة.
سابعًا: الحرص على أداء الصلاة جماعة، والاستزادة من الأعمال الصالحة؛ فاحرص -أخي المسلم- على إدراك تكبيرة الإحرام، وأداء السنن الرواتب والنوافل المطلقة، وأن تعود إلى قيام الليل يا من تركته بعد رمضان، ولا تتهاون في أداء صلاة العيد؛ فإنها من إقامة ذكر الله، وليعلم المسلم أن أفضل ما انشغل به أن يقف بين يدي الله مصليًا.
واحرص أيضًا على تلاوة القرآن، وحاول أن تختمه ولو مرة واحدة في هذه العشر، واحرص على البر وصلة الأرحام. كل هذه أنواع من الأعمال الصالحة تستطيع أن تملأ بها هذه الأيام العشر.
أما أيام العيد -وهي خاتمة هذه الأيام العشر- فهي "أيام أكلٍ وشربٍ وذكر الله" -عز وجل-، فرح ومرح في حدود المشروع، فاحذر أن تجعلها أيام أشر وبطر وانتهاك لحرمات الله، فتهدم بذلك ما سبق أن بنيته من عمل صالح طيلة هذه العشر.
وتذكر أن الأجور في هذا الموسم تتضاعف، فاجعلها نقطة الانطلاق إلى رحاب الإيمان وميادين المسابقة في الخيرات.
اللهم أعنَّا على استغلال هذا الموسم، وبلغنا اللهم مواسم الخير دائمًا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي