إذا خصَّ اللهُ عبدَه بخصيصة، أو مرتبة، أو منزلة، فلا ينسِبْها إلى حوله وقوته، وعلمه وخبرته، أو كَسْبه وجُهْده، بل عليه أن يُسنِدَها إلى فضل الله ومِنَّته، ولطفه ورحمته...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله كتَب على نفسه الرحمةَ، وأجزَل لنا النعمةَ، أحمده -سبحانه- وأشكره، رضي لنا باليسير من العمل، وتجاوَز عن الكثير من الزَّلل، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، شهادةَ مَنْ لا مطمعَ له في جنَّتِه إلَّا برحمته، ولا نجاةَ من عذابه إلا بعفوه ومغفرته، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه، قدوةُ العامِلينَ، ورحمةُ الله للعالَمِينَ، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين ومَنْ تَبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله -رحمكم الله-، فالخيرُ كلُّ الخيرِ، والسعادةُ كلُّ السعادةِ في تقوى الله -عز وجل- والعمل الصالح؛ مِنْ جَهلٍ يُرفَع، وعِلْم يُنشَر، ومحتاج يعان، ومعروف يُفعَل، ومنكَر يغيَّر، الدنيا خُلِقت لكم، وأنتُم خلقتُم للآخرة، (وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[آلِ عِمْرَانَ: 185].
أيها المسلمون: القصص في كتاب الله فيها متعةٌ وتسليةٌ، ولكنَّها كذلك هي تقرَع بمواعظها القلوبَ، وتُزَكِّي بدروسها النفوسَ، وترسِّخ بأحداثها الإيمانَ، ويَبرُز في رجالاتِها الصراعُ بين الحق والباطل؛ وهذه قصة عجيبٌ خبرُها، خطيرٌ شأنُها، متكررٌ نظيرُها، قصة تُعنى بموضوع معيَّن، وتتَّجِه إلى فئة خاصة، نموذج يتكرَّر في كل العصور، وفي كل أجناس البشر.
إنها قصة قارون والمسلك القارونيّ، قصة تجسِّد الموقفَ من المال وفتنتِه، وكيفية التصرف فيه، وهذه جملة من الوقفات تتضمَّنُها هذه القصةُ العظيمةُ: الأولى: قارونُ نموذجٌ لصنف من البشر كافرٍ بنعمة الله، موجود مثيلُه في كل الأعصار والأمصار، بخصائصه وصفاته، يَفتن، ويَستفزّ، ويُغري، ويكون سببًا لانحراف بعض النفوس، فقارونُ هو قرينُ فرعونَ وهامانَ؛ ثلاثةُ نماذجَ تحمل صُوَرًا سيئةً لأنواع من البغي والفساد، وصنوف من التسلُّط والاستكبار.
معاشر الإخوة: للمال سلطان على النفوس -إن لم يتداركها الله برحمته-، سلطان يَسُوقُها في دروب التيه، والبُعْد عن الله، وإذا لم تفطن هذه النفوسُ لِمَا هي فيه، وما هي مُقدِمة عليه، وتراجِع نفسَها، وتُراجِع أمرَ الله، فإنها ستهلك؛ إمَّا إفراطًا وإما تفريطًا.
أيها المسلمون: الوقفة الثانية: وفي هذا المسلك القاروني، وأمام فتنة المال والثروات والمرابَحات والأرباح والاستثمار، ثمَّةَ طائفتانِ؛ طائفة وقفَت موقف المأخوذ المبهور المتهافِت، ضعاف النفوس، قصيرو النظر؛ ممَّا يجسِّد الطبائعَ البشريةَ على اختلاف فهومها وتطلعاتها، وأمانيها ورغباتها، وموقِفِها من النِّعَم، (قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)[الْقَصَصِ: 79]، والطائفة الثانية: عباد الله، أهلُ العلم والإيمان والحكمة، استعلَتْ بإيمانها، وعلَّقَت رجاءها بربها، وأيقَنَت حسنَ ثوابه، وعرَفَت قيمةَ الإيمان، وهي درجةٌ رفيعةٌ لا يلقَّاها إلا الصابرون على دواعي المشتَهيات، والرغبات، والإغراءات، ومن فضل الله على الأمة أن يوجد فيها علماء صالحون، وإلى الخير والحق يُرشِدون، أهل العلم لا يَجرفهم مثلُ هذا الطوفان، فهم أشداءُ بإيمانهم، أقوياءُ بيقينهم، (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ)[الْقَصَصِ: 80].
الوقفة الثالثة: (وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)[الْقَصَصِ: 77]، إنه إعمار الدنيا بالدين؛ فيعيش المرء عيشة متوازنة، فلا نصيبه من دنياه ضائع، ولا عَرَض الدنيا عن دينه شاغل، والسماء لا تُمطِر ذهبًا ولا فضةً، (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)[الْمُلْكِ: 15]، فلا رهبانية تفوت بها مصالح الدنيا، ولا مادية تجنح بالإنسان فلا يرجو موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، ومن حِكَم لقمان: "لا تَدْخُلِ الدنيا دُخُولًا يضرُّ بآخرتِكَ، ولا تتركها تَرْكًا تكون فيه كَلًّا على الناس".
الوقفة الرابعة: (وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ)[الْقَصَصِ: 77]، معاشرَ الأحبة: المال إذا لم يُحسَن توظيفُه فهو وسيلة من أعظم وسائل الفساد والإفساد، من الكسب الحرام، وأكل الحرام، والبغي، والظلم وبخس الناس وغمط الحق، وفي الحديث: "ما ذئبان جائعان أُرسِلَا في غنم، بأفسدَ لهما مِنْ حرصِ المرءِ على المال، والشرفِ لِدِينه"، (رواه أحمد بسند صحيح)، وتدَيُّن الغنيِّ كما يكون بالإنفاق يكون كذلك بالإمساك عن توظيف المال في مشاريع الإفساد في الاقتصاد والأخلاق.
الوقفة الخامسة: الغرور والغفلة، (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي)[الْقَصَصِ: 78]، فالمتكبِّر، والغافل، يعزو كلَّ عمل إلى جُهدِه، وعقلِه، وعلمِه، وذكائه، ومؤهِّلاته، وكَدِّه.
معاشر الأحبة: إذا خصَّ اللهُ عبدَه بخصيصة، أو مرتبة، أو منزلة، فلا ينسِبْها إلى حوله وقوته، وعلمه وخبرته، أو كَسْبه وجُهْده، بل عليه أن يُسنِدَها إلى فضل الله ومِنَّته، ولطفه ورحمته.
الوقفة السابعة: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ)[الْقَصَصِ: 79]، صورةُ البطرِ، والزهُوِّ، وتكامُل الزينة الجاذبة للنفوس الضعيفة، زينة باهرة: في ملابسه، ومَراكِبِه، وخَدَمِه، وحَشَمِه، وأُبَّهَتِه، بُهرت بها العيونُ، وطاشَت عندها العقولُ (يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ)[الْقَصَصِ: 79].
معاشر الأحبة: عجيب أن تُبتلى بعضُ النفوس ذات الثراء واليسار بفتنةِ عَرْضِ ثرواتِها أمامَ الناس، واستعراضِ ثرواتِها أمامَ المستضعَفين، يَعبُرون بمراكبهم الوثيرة، وملابسهم الزاهية أمامَ حُفاة الأقدام، ومرقَّعِي الملابس ليتَصَاعد غبارُ مراكبهم منتَثِرًا في وجوه الضعاف والمساكين، مع غَرَق هؤلاء المتكبِّرين المتغطرسين في النشوة والسَّكْرة، ولكن تأبى سنن الله في ابتلائه لعباده إلا أن يكون هذا الدرس؛ (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ)[الْقَصَصِ: 81]، فحينما نزل سخط الله، صمت ضجيج الطغيان، وخمدت أنفاسه، وسحت شخوصه، (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ) انشقت الأرض فابتلعته وكنوزَه ودارَه، وخزائنَه ومفاتحَه ولم ينصره جمعُه، ولا المنتفعون، هكذا تُطوى صفحة هذا الضلال المتحرك وتذهب معالِمُه من غير نصير ولا ظهير، وبئس المصير.
وبعد عباد الله: فالأغنياء في كل زمان ومكان يعيشون بواحد من قلبين؛ إما قلب قارون وطغيانه وبطره وغفلته يمارس الظلم والمعاصي، وإما بقلب سليمان -عليه السلام-، (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ)[النَّمْلِ: 40]، وقلب ذي القرنين: (هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي)[الْكَهْفِ: 98]، إيمان وإقرار بفضل الله ومنته وصرف له في طاعته، وحين التفكر في هذا المسلك القاروني تأملوا في هذا المعيار النبوي: "يا حكيم، إن هذا المال خضر حلو، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومَنْ أخَذَه بإشراف نفس لم يُبارَك له فيه، فكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى" (مخرَّج في الصحيحين).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى)[اللَّيْلِ: 5-11].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، الحمد لله المطلوب دواؤه، المرهوب عذابه، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأشهد ألا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، لا كفءَ له ولا نظيرَ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، دعا إلى التوحيد، صلى الله وسلم وبارَك عليه، وعلى أصحابه والتابعينَ، ومَنْ تَبِعَهم بإحسان، على كَرِّ الجديدينِ في تجديد، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها المسلمون: ولدى حضارة اليوم مؤسسات كبرى، وكيانات عظمى، تُدِير الاستكبارَ الماديَّ، وتصنع مكائنَ الابتزاز المالي، وتُنتج فقرًا ولهاثًا مسعورًا خلفَ المال، ورجال الأعمال، إنه الفكر القارونيُّ يتجدَّد في كل عصر من الجمع والكسب والإنفاق والبَطَر والغفلة.
ألَا فاتقوا الله -رحمكم الله- وافقهوا وصايا الوحي، واعتبروا بدروس الحياة ورصيد التاريخ، وعبر الزمان من قبل ألا يستفيق ذو الغفلة إلا من بعد أن ترتطم الرؤوس في الصخور، ولا يلقاها إلا الصابرون، فقلما يصبر أمام جوارف الدنيا ومفاتنها، (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)[الْقَصَصِ: 83].
واعلموا -رحمكم الله- أن ما استدفع البلاء بمثل الاستكانة إلى الله -عز وجل- والتضرع إليه، واحذروا الغفلة، فإن للقلب قسوة، ولقد عاب الله أقواما بتركهم التضرع فقال -عز شأنه-: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ)[الْأَنْعَامِ: 43]، -حفظكم الله- وحمى بلادنا وبلاد المسلمين من كل شر.
عباد الله: والأوبئة والأمراض -عافاكم الله- تظهر ثم تعبر، وتحل ثم ترحل، فأبشروا واستبشروا، وتفاءلوا وتعلقوا بربكم، وخذوا بأسباب الوقاية والتزموا بالتعليمات والتوجيهات ومَنْ أكثرَ الرجوعَ إلى ربه بكثرة ذِكْره أورَثَه رجوعًا إليه في قلبه، فيبقى إلى الله مفزَعُه، وإلى ربه ملاذُه، أكثِرُوا -حفظكم الله- من هذا الذكر: "بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم" كرِّروه ثلاثَ مراتٍ، فمَن فعَل ذلك لم تُصِبه فجأةُ بلاءٍ حتى يصبح، ومَنْ قاله حين يُصبِح ثلاثَ مرات لم تُصِبْه فجأةُ بلاء حتى يُمسِي" (رواه أبو داود بسند صحيح).
اللهم إنا نعوذ بك من البرص والجنون والجزام، ومن سيئ الأسقام، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، نعوذ بالله مما نخاف ونحذر، اللهُ ربُّنا لا نُشرِكُ به شيئًا، عز جارُك، وجل ثناؤُك، وتقدَّست أسماؤك، ولا إله غيرك، اللهم إنَّا نعوذ بكَ من شر قضاء السوء، ومن شر كل شر أنتَ آخِذ بناصيته، اللهم احرسنا، اللهم احرسنا بعينك التي لا تنام، واكنفنا بكنفك الذي لا يضام، واحفظنا بعزك الذي لا يضام، اللهم إنا نسألك العافيةَ من كل بلية، والشكرَ على العافية، اللهم إنا نستدفع بكَ كلَّ مكروه، ونعوذ بك من كل شر، تحصَّنَّا بذي العزة والجبروت، واعتَصَمْنا بذي الملك والملكوت، وتوكلنا على الحي الذي لا يموت، اللهم اصرف عنا هذا الوباءَ، اللهم اصرف عنا هذا الوباءَ، اللهم اصرف عنا هذا الوباءَ، وعن بلاد المسلمين أجمعينَ، وَقِنا شرَّ الداء، وعن البلدان أجمعينَ، وقِنَا شرَّ الداء، ونَجِّنا من البلاء، بلُطْفِكَ وقدرتِكَ إنكَ على كل شيء قدير.
اللهم إنا نسألك دوام العافية من جميع الأمراض والبلايا، اللهم إنا نعوذ بك من الطعن والطاعون والوباء ومن عموم البلاء، وموت الفجاءة، ومن ساعات الحمى، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، مما نخاف ونحذر، الله ربنا لا نشرك به أحدا، اللهم ادفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا والزلازل والمحن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلادنا وعن سائر بلاد المسلمين أجمعين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي