الوباءات عبرة واتعاظ

حمزة بن فايع آل فتحي
عناصر الخطبة
  1. حال الناس عند الشدائد .
  2. استفادة المؤمن من البلاء .
  3. من عبر ودروس الأمراض .
  4. دعوة إلى التوبة. .

اقتباس

هذه الأسقام تكشف لبني آدم ضعفَهم، وأنهم أهون ما يكونون على الله!, فلِمَ الظلم؟، ولَم التجبر والإفساد في الأرض؟! وهو خليقٌ أن يبعث فينا التوبة، والرجوع إلى الله؛ (فَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[المائدة: 74], ففيروس صغير غير معروف حيّرهم، وأقلق بالهم!...

الخطبة الأولى:

الحمد لله خلق كل شيء فقدره تقديرًا، الحمد لله الذي كان بعباده خبيرًا بصيرا, شرعَ وحكم، ولا معقب لحكمه، وقضى وقدر، ولا رادَّ لقضائه, نحمده ونشكره ومن كل ذنبٍ نستغفره, أشهد أن لا إله إلله وحده لا شريك له.

معاشر المسلمين: إنّ الناسَ لا يضطربون إلا مع الشدائد، ولا ينتبهون إلا مع الحوادث؛ فتُخيفهم الكوارث، وتقُضّ مضاجعَهم الأمراض؛ فيسكنُ المتعجّل، ويخاف المطمئن، ويضطرب المتعلق بالدنيا!.

وها هم تجاه ما يُسمى بمرض "كورونا", قد تخوفوا البلاء، وفروا من المتاعب، وكرهوا الموت؛ (إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ)[الجمعة: 8], وأنتم كبشر تخافون وتضطربون مثلهم، ولكنكم تتعظون وتعتبرون، وتؤمنون وتستعدون.

فانظروا كيف أرعبَ المرضُ الخفي العالم؟! وكيف أذلَّ الأمم، وجعلهم في خسائر اقتصادية ونفسية؟! ومن تطاول قبل مدة، صار في صغار ووبال!, فهل لنا في ذلك من عبر؟، وهل اتعظنا به كحدث مزلزل، وسقم مخيف؟!, (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[الأنعام: 43].

نعم نحن -باعتبار أننا مسلمون- ما ينبغي أن يمر علينا الحدث بلا اتعاظ؛ (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)[ق: 37].

ماذا ألمَّ بأهل الأرض قاطبةً *** أجاءهم قاصفٌ، أم حلت النوبُ؟!

قالوا العوالمُ في خوف ومعضلة *** "كورونا" يعصفُ والأخطار تضطربُ

هلا اتعظنا من الأحداثِ وآ أسفى *** على المخالف لا رُجعى ولا إيَبُ

هذي المخاطر تقديرٌ ومرحمةٌ *** لعل يَعقبها الإصلاحُ والهربُ

فِروا الى الله لا دنيا ولا بشرٌ *** يحفظكمُ الله والإيمانُ والكتبُ

وأولى العبر: أن توقنَ أن الكونَ كله بيد الله، وأن له مقاليد السموات والأرض، ولا يحصل شيء فيه إلا بأمره؛ فالله خلق كل شيء فقدره تقديرًا, قال -تعالى-: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)[الحديد: 22], وقال رسول الله -عليه الصلاة والسلام-: "واعلَمْ أنَّ ما أخطَأَكَ لم يَكُن لِيُصِيبَكَ, وما أصابَكَ لم يَكُن ليُخطِئَكَ", ومن ذلك الأمراض والحوادث والوقائع.

ثانيا: أن هذه الأمراض بلاءٌ من الله؛ ليتعظَ وينتفع من ينتفع، وليَسخطَ ويَضلَّ من يضل، جاء في صحيح البخاري عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهَا أَخْبَرَتْنَا، أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الطَّاعُونِ، فَأَخْبَرَهَا نَبِيُّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَنَّهُ كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ، فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ؛ إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ".

ثالثا: أنّ هذه الأسقام تكشف لبني آدم ضعفَهم، وأنهم أهون ما يكونون على الله!, فلِمَ الظلم؟، ولَم التجبر والإفساد في الأرض؟!.

وهو خليقٌ أن يبعث فينا التوبة، والرجوع إلى الله؛ (فَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[المائدة: 74], ففيروس صغير غير معروف حيّرهم، وأقلق بالهم!.

رابعًا: أنّ في ديننا الحصنَ الحصين، والكنز الثمين، المتمثل في الذكر والدعاء, والصلاة والصدقة؛ فلا ينسينّ أحدُكم أذكار الصباح والمساء، وعملَ اليوم والليلة, وقد جاء في صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا لَقِيتُ مِنْ عَقْرَبٍ لَدَغَتْنِي الْبَارِحَةَ, قَالَ: "أَمَا لَوْ قُلْتَ حِينَ أَمْسَيْتَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ؛لَمْ تَضُرَّكَ".

وعند أبي داود عن عثمان -رضي الله عنه-, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؛ لَمْ تُصِبْهُ فَجْأَةُ بَلَاءٍ حَتَّى يُصْبِحَ، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُصْبِحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؛ لَمْ تُصِبْهُ فَجْأَةُ بَلَاءٍ حَتَّى يُمْسِيَ", قَالَ: فَأَصَابَ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ الْفَالِجُ, فَجَعَلَ الرَّجُلُ الَّذِي سَمِعَ مِنْهُ الْحَدِيثَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا لَكَ تَنْظُرُ إِلَيَّ؟! فَوَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ عَلَى عُثْمَانَ، وَلَا كَذَبَ عُثْمَانُ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلَكِنَّ الْيَوْمَ الَّذِي أَصَابَنِي فِيهِ مَا أَصَابَنِي غَضِبْتُ؛ فَنَسِيتُ أَنْ أَقُولَهَا.

خامسا: تيقنوا أن الحياة والموت مخلوقان لله، ولن تموت نفس حتى تستكمل رزقها, ولكل أجل كتاب, فانطلق في الحياة مؤمنا بقضاء الله، متوكلا عليه، طالبا مرضاتَه, مجتنبا عقابه.

سادسا: أن البلاءَ ما نزل إلا بذنب، ولا رُفع إلا بتوبة؛ (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)[الشورى: 30].

واستفحال الذنوب والمعاصي في البشر سبب لمثل هذه الأسقام؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: "لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا؛ إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ، وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا".

فاحذروا الذنوب وتوقَّوا المعاصي, قال الإمامُ ابن القيم -رحمه الله-: "فمما ينبغي أن يُعلم أن الذنوب والمعاصي تضر ولا بد، وأنّ ضرَرها في القلب كضرر السموم في الأبدان، على اختلاف درجاتها في الضرر، وهل في الدنيا والآخرة شر وداء؛ إلا سببه الذنوب والمعاصي؟".

سابعا: الحكمة الشرعية تقتضي أخذ الأسباب المادية من الدواء والمعقمات, والتباعد عن أسباب المرض والبلاء, والإسلام دين النظافة والطهارة, قال -عليه الصلاة والسلام-: "وفِرّ من المجذوم فرارك من الأسد", وكما قال عمر -رضي الله عنه- لما عوتبَ على عدم دخول الشام وفيها وقع الطاعون: "نفر من قدر الله إلى قدر الله".

ففروا -عبادَ الله- إلى ربكم، وأصلحوا أعمالكم، وجدّدوا توبتكم.

اللهم آت نفوسَنا تقواها، وزكها أنت خيرُ من زكاها.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين, وعلى آله وصحبه أجمعين, وبعد:

أيها الإخوة الفضلاء: صح دعاؤه -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم إني أعوذ بك من البرص والجنون والجذام, وسيئ الأسقام"؛ فهذا دعاء نافع ناجع فاحفظوه، وحفّظوا أبناءكم، وعوّذوهم بهذه السنن, وفيه دليلٌ على فضل الدعاء، وأنه مما تُدفع به الأمراض, وأن الاستعاذة من السوء والمرض من خطوات العلاج والمدافعة.

ومن العبر هنا أيضا: عظمُ قدرة الله -تعالى-، وأنه يرحم من يشاء ويعذب من يشاء، وما ربك بظلام للعبيد؛ (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ)[المدثر: 31].

فكل مصحات العالم ومختبراته عاجزة عن معرفة سر هذا المرض، فضلا عن علاجه، ومع ذلك فيندب العلماء إلى البحث والتفتيش، والأخذ بالأسباب؛ قال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: "يَا عِبَادَ اللَّهِ! تَدَاوَوْا؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً -أَوْ قَالَ- دَوَاءً، إِلَّا دَاءً وَاحِدًا", قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا هُوَ؟ قَالَ: "الْهَرَمُ".

وإن أعظمَ ما نعتبر به -يا مسلمون- في مثل هذه الظروف، هو التوبة وكثرة الاستغفار؛ (لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[النمل: 46].

فتب إلى الله، وأصلحْ من نفسك، وتخفّف من ذنوبك، وتسامح مع الآخرين، واهجر المحرمات، ونافس في الخيرات, وراجع حساباتك، وتفكر في الآخرة, وانظر إلى صندوق العمل، ولا تُقم للنزاعات والخصومات مجالا، واشتغل بالزكاة والنجاة؛ (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)[الشمس: 9، 10].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي