فَالْمُؤْمِنُ دَائِمًا فِي خَيْرٍ وَنِعْمَةٍ، يَعِيشُ حَيَاةً طَيِّبَةً بَيْنَ شُكْرٍ وَصَبْرٍ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ: شَكَرَ الْمُنْعِمَ الْمُتَفَضِّلَ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ: صَبَرَ وَرَضِيَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَسَلَّمَ أَمَرَهُ لِخَالِقِهٍ وَوِثِقَ بِهِ، وَفَرَّ إلَيْهِ، وَاعْتَصَمَ بِحَبْلِهِ الْمَتِينِ؛ فَكَانَ لَهُ الْخَيْر ُكُلُّهُ، وَالسَّعَادَةُ كُلُّهَا، وَعَاشَ حَيَاةً طَّيِّبَةً فِي سَرَّائِهِ وَضَرَّائِهِ؛
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ؛ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيِكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صلى الله وبارك عليه وسلم تسليًما كثيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ! أُوصِيكُم وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللَّهِ -تَعَالَى-؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران:102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: يَقُولُ اللَّهُ -تَعَالَى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النحل: 97]؛ قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "وَقَدْ فُسِّرَتِ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ بِالْقَنَاعَةِ وَالرِّضَا، وَالرِّزْقِ الْحَسَنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالصَّوَابُ: أَنَّهَا حَيَاةُ الْقَلْبِ وَنَعِيمُهُ، وَبَهْجَتُهُ وَسُرُورُهُ بِالْإِيمَانِ؛ وَمَعْرِفَةِ اللَّهِ، وَمَحَبَّتِهِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا حَيَاةَ أَطْيَبُ مِنْ حَيَاةِ صَاحِبِهَا، وَلَا نَعِيمَ فَوْقَ نَعِيمِهِ إِلَّا نَعِيمَ الْجَنَّةِ..
كَمَا كَانَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ يَقُولُ: إِنَّهُ لَتَمُرُّ بِي أَوْقَاتٌ أَقُولُ فِيهَا إِنْ كَانَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي مِثْلِ هَذَا إِنَّهُمْ لَفِي عَيْشٍ طَيِّبٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّهُ لَيَمُرُّ بِالْقَلْبِ أَوْقَاتٌ يَرْقُصُ فِيهَا طَرَبًا، وَإِذَا كَانَتْ حَيَاةُ الْقَلْبِ حَيَاةً طَيِّبَةً تَبِعَتْهُ حَيَاةُ الْجَوَارِحِ، فَإِنَّهُ مَلِكُهَا، وَلِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ الْمَعِيشَةَ الضَّنْكَ لِمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ، وَهِيَ عَكْسُ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ..
وَهَذِهِ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ تَكُونُ فِي الدُّورِ الثَّلَاثِ، أَعْنِي: دَارَ الدُّنْيَا، وَدَارَ الْبَرْزَخِ، وَدَارَ الْقَرَارِ، وَالْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ أَيْضًا تَكُونُ فِي الدُّورِ الثَّلَاثِ، فَالْأَبْرَارُ فِي النَّعِيمِ هُنَا وَهُنَالِكَ، وَالْفُجَّارُ فِي الْجَحِيمِ هُنَا وَهُنَالِكَ، قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ)[النحل:30]. وَقَالَ -تَعَالَى-: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ)[هود:3]، فَذِكْرُ اللَّهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وَمَحَبَّتُهُ وَطَاعَتُهُ، وَالْإِقْبَالُ عَلَيْهِ ضَامِنٌ لِأَطْيَبِ الْحَيَاةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُ وَالْغَفْلَةُ وَمَعْصِيَتُهُ كَفِيلٌ بِالْحَيَاةِ الْمُنَغَّصَةِ، وَالْمَعِيشَةِ الضَّنْكِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ" انتهى.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: قَدْ يَجِدُ الْمُؤْمِنُ شَيْئًا مِنَ الْمُنَغِّصَاتِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَالْهُمُومِ وَالْغُمُومِ وَالْأَمْرَاضِ وَالْأَسْقَامِ وَغَيْرِهَا، وَهَذِهِ لَا تُنَافِي سُنَّةَ الِابْتِلَاءِ الَّتِي كَتَبَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ؛ لِرَفْعِ دَرَجَاتِهِ، وَتَكْفِير سَيِّئَاتِهِ، وَبُلُوغِ غَايَاتِهِ: وَقَدْ سَأَلَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ"(صححه الألباني في السلسلة الصحيحة).
فَالرَّجُلُ الْمُوَفَّقُ السَّعِيدُ مَنْ نَظَرَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَعَرَفَ حَقَّهَا وَقَدْرَهَا؛ فَهِيَ وَاَللّهِ حياةٌ طَيِّبَةٌ لِمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ اِسْتِغْلالَ لَحَظَاتِهَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَمَرْضَاتِهِ، وَالْبُعْدِ عَنْ مَا يُغْضِبُ رَبَّهُ لِيَحْيَ حَيَاةَ السُّعَدَاءِ، وَيَفُوزَ بِرِضَا رَبِّ الْأرْضِ وَالسَّمَاءِ.
اللَّهُمَّ اخْتِمْ بِالصَّالِحَاتِ أَعْمَالَنَا، وَاقْرِنْ بِالسَّعَادَةِ غُدُوَّنَا وَآصَالَنَا، وَاجْعَلْ إلَى جَنَّتِكَ مَصِيرَنَا وَمَآلَنَا يَا رَبّ الْعَالَمِينَ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: رَوَى مُسْلٍمٌ -فِيِ صَحِيِحِهِ- عَنْ صُهَيْبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ".
فَالْمُؤْمِنُ دَائِمًا فِي خَيْرٍ وَنِعْمَةٍ، يَعِيشُ حَيَاةً طَيِّبَةً بَيْنَ شُكْرٍ وَصَبْرٍ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ: شَكَرَ الْمُنْعِمَ الْمُتَفَضِّلَ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ: صَبَرَ وَرَضِيَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَسَلَّمَ أَمَرَهُ لِخَالِقِهٍ وَوِثِقَ بِهِ، وَفَرَّ إلَيْهِ، وَاعْتَصَمَ بِحَبْلِهِ الْمَتِينِ؛ فَكَانَ لَهُ الْخَيْر ُكُلُّهُ، وَالسَّعَادَةُ كُلُّهَا، وَعَاشَ حَيَاةً طَّيِّبَةً فِي سَرَّائِهِ وَضَرَّائِهِ.
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56]، وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا"(رَوَاهُ مُسْلِم).
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي