إن إدراك عشر ذي الحجة نعمة عظيمة من نعم الله تعالى على العبد، فيجب علينا استشعار هذه النعمة واغتنام الفرصة، فنخصها بمزيد عناية ونجاهد أنفسنا على الطاعة، وقد كان هذا هو حال السلف، فقد روى الدارمي أن سعيد بن جبير كان إذا دخلت العشر اجتهد اجتهادًا حتى ما يقدر عليه وكان يقول: "لا تطفئوا سرجكم فيها".
عباد الله: إن من نعمة الله على عباده أن فاضل بين الأزمان والأماكن والأوقات، فاصطفى منها ما شاء بحكمته، ورتب عليها عظيم الثواب؛ ليغتنمها العبد في زيادة الحسنات واستدراك ما فات من الطاعات، ولتكون عونًا للعبد على تجديد النشاط والقرب من الله تعالى، والفائز –عباد الله- من اغتنم هذه الأيام واستغل مرورها قبل أن يفاجئه الموت ولات حين مندم.
مضى أمسك الماضـي عليك معدلاً *** وأعقبه يـوم عليـك جديـد
فإن كنت بالأمس اقترفت إسـاءة *** فبـادر بإحسـان وأنت حميـد
ولا تبق فعـل الصالحـات إلى غد *** لعـل غدًا يأتِي وأنـت فقيـد
عباد الله: إن إدراك عشر ذي الحجة نعمة عظيمة من نعم الله تعالى على العبد، فيجب علينا استشعار هذه النعمة واغتنام الفرصة، فنخصها بمزيد عناية ونجاهد أنفسنا على الطاعة، وقد كان هذا هو حال السلف، فقد روى الدارمي أن سعيد بن جبير كان إذا دخلت العشر اجتهد اجتهادًا حتى ما يقدر عليه وكان يقول: "لا تطفئوا سرجكم فيها".
عباد الله: من العبادات التي اختصها المولى سبحانه بهذه الأيام صيام يوم عرفة، هذا اليوم الذي أقسم الله به، ولا يقسم المولى إلا بعظيم، فقال سبحانه: (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) [الفجر: 3]، قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "اليوم الموعود يوم القيامة، واليوم المشهود يوم عرفة، والشاهد يوم الجمعة".
ولهذا اليوم فضائل ومزايا، منها: أنه يوم إكمال الدين وإتمام النعمة؛ ففي الصحيحين عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن رجلاً من اليهود قال: يا أمير المؤمنين: آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا -معشر اليهود- نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، قال: أي آية؟! قال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا...) الآية، قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي وهو قائم بعرفة يوم الجمعة.
قال ابن رجب -رحمه الله تعالى-: "وإكمال الدين في ذلك اليوم حصل لأن المسلمين لم يكونوا حجوا حجة الإسلام من قبل، فكمل بذلك دينهم لاستكمالهم عمل أركان الإسلام كلها، ولأن الله أعاد الحج على قواعد إبراهيم -عليه السلام- كلها ونفى الشرك وأهله، فلم يختلط بالمسلمين في ذلك الموقف منهم أحد.
وأما إتمام النعمة فإنما حصل بالمغفرة، فلا تتم النعمة بدونها، كما قال الله لنبيه: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ...) [الفتح: 2] الآية.
ثانيًا: أنه يوم مغفرة الذنوب والعتق من النار، عن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ماذا أراد هؤلاء؟!".
ثالثًا: أن صيامه يكفر سنتين، عن أبي قتادة -رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- سئل عن صوم يوم عرفة فقال: "يكفر السنة الماضية والباقية". وهذا إنما يستحب لغير الحاج، أما الحاج فلا يسن له الصيام يوم عرفة؛ لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة.
عباد الله: بعد هذه الفضائل والمزايا التي اختصها الله بهذا اليوم أليس مغبونًا من فرَّط في صيام هذا اليوم واغتنام لحظاته بالعبادة والتقرب للمولى سبحانه؟! حري بنا الابتعاد عن كل ما يغضب الرحمن سبحانه وحفظ الجوارح في هذا اليوم، قال ابن عباس -رضي الله عنه-: قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "إن هذا اليوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له". أخرجه الإمام أحمد.
عباد الله: من أعظم ما يغتنم فيه يوم عرفة بعد الصيام الإكثار من الدعاء، وسؤال الله المغفرة والعتق من النار، فإن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيّون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير". أخرجه الترمذي.
قال ابن عبد البر -رحمه الله تعالى-: "وفي الحديث دليل على أن دعاء يوم عرفة مجاب في الأغلب، وأن أفضل الذكر لا إله إلا الله".
فادعوا -عباد الله- وأنتم موقنون بالإجابة، واحذروا الاستعجال في الدعاء، فإن الله قريب من عباده لا تخفى عليه خافية، عفوه واسع، ومغفرته عظيمة، ورحمته وسعت كل شيء.
نحن ندعو الإله فِي كل كرب *** ثم ننساه عند كشف الكروب
كيف نرجو إجـابة لدعـاءٍ *** قد سددنا طريقهـا بالذنوب
عباد الله: ومن أنواع العبادة التي شرعها الله في هذه الأيام التقرب إليه بالأضاحي، تلك الشعيرة التي تجمع بين التعبد المالي وبين إنهار الدم تقربًا إلى الله تعالى وتعظيمًا له وامتثالاً لأمره: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام: 162]، إنها الشعيرة العظيمة التي امتثلها النبي –صلى الله عليه وسلم- ورغَّب فيها وأكد عليها بقوله وفعله، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "من كان له سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا". أخرجه ابن ماجه والحاكم. وعن أنس -رضي الله عنه- قال: ضحى النبي –صلى الله عليه وسلم- بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده، وسمى وكبر، ووضع رجله على صفاحهما. أخرجه السبعة.
عباد الله: لقد بيَّن أهل العلم من خلال النصوص الشرعية ما يحتاجه المسلم من شروط الأضحية والمضحي وغير ذلك، فأما أحكام الحيوان المضحّى به ففيه ستة شروط:
الأول: أن يكون من بهيمة الأنعام: الإبل أو البقر أو الغنم.
الثاني: أن يكون بلغ السن الشرعي؛ فالإبل ما تم له خمس سنين، والبقر ما تم له سنتان، والماعز ما تم له سنة، والضأن ما تم له ستة أشهر، ولا تجزئ الأضحية بسن أقل مما ذكر.
الشرط الثالث: أن تكون الأضحية ملكًا للمضحي.
الشرط الرابع: أن لا يتعلق بها حق للغير كالمرهون.
الشرط الخامس: أن يكون ذبحها أو نحرها في الوقت المحدد شرعًا، يبدأ الوقت من بعد صلاة العيد إلى غروب شمس اليوم الثالث عشر، والأفضل أن يبدأ بعد الفراغ من خطبة الإمام.
الشرط السادس: أن يكون الحيوان المضحَّى به سليمًا من العيوب، والعيوب على قسمين:
عيوب لا تجزئ الأضحية معها، مثل العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين عرجها، والعجفاء التي لا تنقي، ويلحق بهذه العيوب الأربعة ما كان مثلها أو أشد منها.
وأما العيوب التي تجزئ الأضحية بها مع نقص كمال الأجر فمثل: مقطوعة الأذن، ومشقوقة الأذن، والتي خرقت أذنها إلى غير ذلك.
عباد الله: على من أراد مباشرة تذكية أضحيته أن يخلص النية لله تعالى، وأن يبتغي بها وجه الله وموافقة سنة نبيه –صلى الله عليه وسلم-، وعليه أيضًا أن يوجه البهيمة للقبلة ويضجعها على جنبها الأيسر، وأن يكبر الله تعالى بعد تسميته، وأن يسمي عند الذبح من هي له فيقول: بسم الله والله أكبر، اللهم منك ولك، عني أو عن فلان، إن كانت لغيره.
عباد الله: هناك عادات درج عليها كثير من الناس تحتاج إلى دليل شرعي يعتمد عليه، ومن ذلك: المسح على ظهر الأضحية قبل ذبحها، واعتقاد أن ذلك من كمال ذبح الأضحية وقبولها.
ومن ذلك ما اشتهر عند بعض الناس أنه إذا أخذ الإنسان من شعره أو ظفره أو بشرته في أيام العشر فإنه لا أضحية له، فهذا ليس بصحيح؛ لأنه لا علاقة بين صحة التضحية والأخذ من هذه الثلاثة، ولو قدر أن أحدًا أراد الأضحية وأخذ شيئًا من شعره أو ظفره أو بشرته، فإن كان ناسيًا فلا إثم عليه ولا حرج، وإن كان متعمدًا فهو آثم ولا كفارة عليه، ولا علاقة للأخذ من الشعر أو غيره بذبح الأضحية.
ومن الأخطاء أيضًا ما اعتاده بعض الناس من صبغ رأس أضحيته بالحناء، واعتقاد أن ذلك أفضل، وكل هذا يحتاج إلى دليل.
من الأخطاء أيضًا: ما يفعله من عجز عن الأضحية من الامتناع عن الأخذ من شعره أو ظفره أو بشرته بدعوة مشابهة المضحين ومشاركتهم في الأجر.
ومن الأخطاء أيضًا أن بعض المضحين إذا ضحى بالواحدة من الغنم عن نفسه منع أهل بيته من الأخذ من أشعارهم وأظفارهم وأبشارهم شيئًا بدعوى أنه أشركهم معه في الأجر، والصواب أنه هو الذي يمسك دون أهل بيته، فالواحدة من الغنم تجزئ حكمًا عن واحد، وأما في الأجر فلا حد لمن أراد إشراكهم معه، ضحى النبي –صلى الله عليه وسلم- بكبشين وقال: "اللهم هذا عن محمد وعن آل محمد"، ومع هذا لم يمنع النبي –صلى الله عليه وسلم- أحدًا من آل بيته مِنْ أخذ شيء من الشعر والظفر والبشرة.
عباد الله: وأما يتعلق بتجزئه الأضحية فقد ذكر بعض أهل العلم أنه ليس هناك تحديد معين لمصارف الأضحية، لكن قد ورد الخبر بالأكل منها، والتزود منها والإطعام، كما قال تعالى: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) [الحج: 36]، ومن السنة قوله –صلى الله عليه وسلم-: "وتزودوا"، وفي رواية: "كلوا وأطعموا، واحبسوا وادخروا". رواه مسلم.
من هذه النصوص وغيرها ذهب بعض العلماء إلى تجزئة الأضحية جزأين، وذهب آخرون إلى تجزئتها إلى ثلاث، وكان ابن مسعود -رضي الله عنه- يثلث أضحيته، ويجوز أن يعطي الكافر شيئًا من لحم الأضحية؛ تألفًا لقلبه وإظهارًا لشعائر الدين.
أخيرًا -عباد الله- تذكروا أن هناك أناسًا لا يذوقون اللحم طوال العام لشدة فقرهم وحاجتهم، فأطعموهم من الأضاحي، واعطفوا عليهم، واشكروا نعمة الله عليكم يزدكم من فضله.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه، إن ربي غفور رحيم.
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يجب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فيا عباد الله: لقد شرع الله للمسلمين في كل عام عيدين عظيمين يظهرون فيهما شعائر دينهم الحنيف، وأمرهم يوم الفطر أن يخرجوا زكاة أبدانهم صاعًا من غالب قوت البلد، يواسى به الفقير والمسكين والبائس الضعيف، ويوم النحر أمرهم بالأضاحي وحثهم عليها وذبحهم لها، وجعل ذلك من أفضل ما يتقرب به العبد إلى ربه الخبير اللطيف.
عيدان عند أولي النهى لا ثالثٌ *** لَهما لمن يبغي سبيل محمد
الفطر والأضحى وكل زيـادة *** فيها خروج عن سبيل محمد
عباد الله: لقد بيَّن العلماء أن للعيد آدابًا وسننًا ينبغي أن تراعى اقتداءً بما شرعه النبي –صلى الله عليه وسلم- لأمته، وبما فعله أصحابه -رضوان الله عليهم-، ومن ذلك: استحباب الاغتسال والتطيب ولبس أحسن الثياب للعيد، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كان رسول الله يغتسل يوم الفطر ويوم الأضحى. رواه ابن ماجه.
وروى البخاري في صحيحه عن ابن عمر أن عمر -رضي الله عنهما- أخذ جبة إستبرق تباع في السوق، فأتى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال: "ابتع هذه تجمّل بها للعيد والوفود". وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يلبس في العيدين أحسن ثيابه. أخرجه البيهقي وصححه ابن حجر -رحمهما الله-.
ومن سنن هذا اليوم العظيم استحباب التبكير إلى صلاة العيد، قال البخاري -رحمه الله-: "باب: التبكير إلى العيد"، ثم ذكر حديث البراء -رضي الله عنه- قال: خطبنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يوم النحر فقال: "إن أول ما نبدأ به يومنا هذا أن نصلي". قال ابن حجر -رحمه الله-: "هو دليل على أنه لا ينبغي الانشغال في يوم العيد بشيء غير التأهب للصلاة والخروج إليها، ومن لازمه أن لا يفعل شيئًا غيرها، فاقتضى ذلك التبكير إليها".
ومن السنة التكبير والتهليل وذكر الله تعالى، فقد ثبت في الصحيح أنه ذكر فضل عشر ذي الحجة ثم قال: "فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد".
ويبدأ التكبير لغير الحاج من يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق، وصفته: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
ويستحب أن يخرج المصلي إلى الصلاة يوم الأضحى قبل أن يتناول شيئًا، فإذا عاد ذبح أضحيته وأكل منها، ورد عند الترمذي والحاكم من حديث بريدة -رضي الله عنه- قال: "كان النبي –صلى الله عليه وسلم- لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم، ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي.
والسنة -عباد الله- لمن حضر الصلاة أن يستمع الخطبة، فلا ينبغي ترك سماعها في هذا اليوم الفضيل، إلا أنها ليست واجبة كسماع خطبة الجمعة؛ لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- لما فرغ من الصلاة قال: "إنا نخطب، فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب". رواه أبو داود والنسائي. فلو كان سماع الخطبة واجبًا لما أجاز لهم الانصراف بعد الصلاة.
فإذا قضيت الصلاة والخطبة هنَّأ المسلمون بعضهم بعضًا بالعيد بما تعارفوا عليه من ألفاظ حسنة؛ كقولهم: تقبل الله منا ومنكم، ونحو ذلك.
عباد الله: تذكروا -رحمكم الله- وأنتم تستقبلون عيد الأضحى المبارك في أمن وأمان إخوانًا لكم في العقيدة في بلاد كثيرة من العالم مشردين عن أوطانهم ومنازلهم، مضطهدين في عقر دارهم، مستضعفين لا حول لهم ولا قوة، قد بدَّل الأعداء أمنهم خوفًا، وفرحهم حزنًا، وصفوهم كدرًا، لا يعرفون للعيد طعمًا ولا للفرحة سبيلاً.
فاشكروا الله على أن أهلَّ عليكم عيد الأضحى المبارك بالأمن والأمان، والسلامة والإسلام، واعلموا -رعاكم الله- أن النعم إنما تدوم بالطاعة والشكر والابتعاد عن المعاصي والذنوب.
ثم صلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين كما أمركم الله بذلك في كتابه الكريم...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي