امتحان كورونا والعشر الأخير

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
عناصر الخطبة
  1. الدعاء يرفع البلاء، والعشر أفضل وقت للدعاء .
  2. اغتنام العشر خارج المساجد .
  3. أجود من الريح المرسَلة. .

اقتباس

وَمِنْ أَسْرَارِ كَوْنِ الدُّعَاءِ مُسْتَجَابًا أَثْنَاءَ الصِّيَامِ تَعْلِيقُ اسْتِجَابَةِ اللَّهِ -تَعَالَى- لِدُعَاءِ عَبْدِهِ وَتَضَرُّعِهِ إِلَيْهِ، عَلَى اسْتِجَابَةِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ بِصِيَامِهِ عَنْ مَلَذَّاتِهِ وَشَهَوَاتِهِ؛ فَكَمَا اسْتَجَابَ الْعَبْدُ لِرَبِّهِ وَتَرَكَ شَهَوَاتِهِ مِنْ أَجْلِهِ؛ فَكَذَلِكَ يَسْتَجِيبُ اللَّهُ لَهُ...

الخطبة الأولى:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

عِبَادَ اللَّهِ: قَبْلَ أَسَابِيعَ قُلْنَا: قَدْ أَهَلَّ رَمَضَانُ، وَالْيَوْمَ نَقُولُ: أَوْشَكَ أَنْ تُظِلَّنَا أَفْضَلُ أَيَّامِ رَمَضَانَ؛ إِنَّهَا الْعَشْرُ الْأَخِيرُ مِنْ رَمَضَانَ، أَظَلَّنَا وَفِي الْعُيُونِ دَمْعَةٌ، وَفِي الْقُلُوبِ أَسًى؛ أَنَّنَا لَنْ نُحْيِيَ لَيَالِيَهُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَأَنَّنَا قَدْ حُرِمْنَا الْخَطْوَ إِلَيْهَا، وَلَكِنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ هُوَ دَوَاءُ الْقُلُوبِ وَصَلَاحُ الْأَفْئِدَةِ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَهُ سَبَبًا فِي انْدِمَالِ جِرَاحِنَا.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنْ كَانَ وَبَاءُ (كُورُونَا) قَدْ حَلَّ وَنَزَلَ؛ فَإِنَّ الدُّعَاءَ يَرْفَعُهُ، وَرَمَضَانُ -وَالْعَشْرُ الْأَخِيرُ مِنْهُ تَحْدِيدًا- هُوَ وَقْتُ اسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ، وَقَدْ رَوَى سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ).

وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ أَكْثَرَ تَفْصِيلًا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا يُغْنِي حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، وَالدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ، وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ، وَإِنَّ الْبَلَاءَ لَيَنْزِلُ فَيَتَلَقَّاهُ الدُّعَاءُ فَيَعْتَلِجَانِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"(رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ)، أَيْ: يَتَصَارَعَانِ وَيَتَدَافَعَانِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

وَأَمَّا أَنَّ رَمَضَانَ هُوَ شَهْرُ اسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ؛ فَكَفَى أَنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي قُرْآنِهِ قَدْ أَنْزَلَ آيَةَ الدُّعَاءِ؛ (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبَ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)[الْبَقَرَةِ: 186]، بَيْنَ آيَاتِ الصِّيَامِ؛ فَقَبْلَهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ حَوْلَ فَرْضِيَّةِ صِيَامِ رَمَضَانَ، وَبَعْدَهَا آيَةٌ عَنِ الصِّيَامِ: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ)[الْبَقَرَةِ: 187]، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِخُصُوصِيَّةِ وَمَزِيَّةِ الدُّعَاءِ أَثْنَاءَ الصِّيَامِ، فَهَا هُوَ الْجَلِيلُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قَدْ جَعَلَ لِلصَّائِمِ دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً لَا تُرَدُّ، مِصْدَاقُ ذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ لَا تُرَدُّ، دَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ الصَّائِمِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ"(رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ).

وَمِنْ أَسْرَارِ كَوْنِ الدُّعَاءِ مُسْتَجَابًا أَثْنَاءَ الصِّيَامِ تَعْلِيقُ اسْتِجَابَةِ اللَّهِ -تَعَالَى- لِدُعَاءِ عَبْدِهِ وَتَضَرُّعِهِ إِلَيْهِ، عَلَى اسْتِجَابَةِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ بِصِيَامِهِ عَنْ مَلَذَّاتِهِ وَشَهَوَاتِهِ؛ فَكَمَا اسْتَجَابَ الْعَبْدُ لِرَبِّهِ وَتَرَكَ شَهَوَاتِهِ مِنْ أَجْلِهِ؛ فَكَذَلِكَ يَسْتَجِيبُ اللَّهُ لَهُ وَيُعْطِيهِ مَا يَتَمَنَّى فِي دُعَائِهِ، يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ- فِي نَفْسِ آيَةِ الدُّعَاءِ: (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي)[الْبَقَرَةِ: 186]، يَقُولُ الطَّاهِرُ ابْنُ عَاشُورٍ: "وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الصَّائِمَ مَرْجُوُّ الْإِجَابَةِ، وَإِلَى أَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ مَرْجُوَّةٌ دَعَوَاتُهُ".

إِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ فَإِنَّ أَفْضَلَ أَيَّامِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأَشْرَفَهَا، وَأَقْرَبَهَا لِلْإِجَابَةِ، وَأَوْلَاهَا بِالِاسْتِجَابَةِ هِيَ الْعَشْرُ الْأَخِيرُ مِنْ رَمَضَانَ؛ فَإِنَّ فِيهَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَفِيهَا تُجَابُ الدَّعَوَاتُ وَتُرْفَعُ الْبَلَاءَاتُ وَتُفَرَّجُ الْكُرُوبُ وَتُزَالُ الْهُمُومُ، وَقَدْ سَأَلَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ زَوْجَهَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا أَدْعُو؟ فَأَجَابَهَا: "تَقُولِينَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي"(رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ).

وَالْعَشَرُ وَقْتُ الِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ، وَ"الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ"(رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ)، كَمَا قَالَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فَحَرِيٌّ أَنْ يَرْفَعَ اللَّهُ -تَعَالَى- عَنَّا هَذَا الْبَلَاءَ فِي هَذِهِ الْعَشْرِ لَوِ اسْتَجَبْنَا لَهُ -سُبْحَانَهُ-، وَأَخْلَصْنَا الدُّعَاءَ وَالتَّضَرُّعَ وَالتَّذَلُّلَ، وَصَارَ لِسَانُ كُلٍّ مِنَّا:

أَصْبَحْتُ ضَيْفَ اللَّهِ فِي دَارِ الرِّضَا *** وَعَلَى الْكَرِيمِ كَرَامَةُ الضِّيفَانِ

تَعْفُو الْمُلُوكُ عَنِ النَّزِيلِ بِسَاحِهِمْ *** كَيْفَ النُّزُولُ بِسَاحَةِ الرَّحْمَنِ

أَيُّهَا الصَّائِمُونَ الْقَائِمُونَ: إِنَّ الْمُسْلِمَ -وَإِنْ كَرَّمَ الْأَمَاكِنَ الَّتِي كَرَّمَهَا اللَّهُ كَالْمَسَاجِدِ- فَإِنَّهُ يَتَوَجَّهُ إِلَى اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ بِكُلِّ بِقَاعِ الْأَرْضِ لَا يَخُصُّ بِذَلِكَ بُقْعَةً دُونَ أُخْرَى، أَمَامَ نَاظِرَيْهِ قَوْلُهُ -تَعَالَى-: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[الْبَقَرَةِ: 112]؛ فَلَا يُقْعِدَنَّ أَحَدَكُمْ غَلْقُ الْمَسَاجِدِ وَلَا الْمُكُوثُ الْإِجْبَارِيُّ فِي الْبُيُوتِ عَنِ الِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ عُذْرًا فِي تَضْيِيعِهَا، وَلَا يُلْهِيَنَّكُمُ الْوَبَاءُ عَنِ اغْتِنَامِ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- كُلَّمَا تَنَاقَصَتِ الْأَيَّامُ الْمُتَبَقِّيَةُ مِنْ رَمَضَانَ زَادَ اجْتِهَادُهُمْ فِي الْعِبَادَةِ.

وَإِنَّ الْمُتَأَمِّلَ فِي حَدِيثِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ الْمَشْهُورِ عَنْ حَالِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ يُدْرِكُ أَنَّ أَغْلَبَ أَعْمَالِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهَا لَا يَتَقَيَّدُ فِعْلُهَا بِالْمَسَاجِدِ؛ فَهِيَ تَقُولُ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ، أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)؛ فَإِحْيَاءُ اللَّيْلِ يَكُونُ فِي الْمَنْزِلِ، وَهُوَ الْأَفْضَلُ فِي نَوَافِلِ الصَّلَاةِ عَامَّةً، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ إِيقَاظُ الْأَهْلِ، وَالْجِدُّ لَا يَرْتَبِطُ بِالْمَسَاجِدِ وَحْدَهَا، وَأَمَّا شَدُّ الْمِئْزَرِ فَلَا عَلَاقَةَ لَهُ أَصْلًا بِالْمَسَاجِدِ.

فَيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنْ فَاتَتْنَا بَرَكَةُ الِاجْتِمَاعِ فِي الْمَسَاجِدِ لِلْقِيَامِ وَالتَّرَاوِيحِ؛ فَإِنَّنَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُقِيمَ اللَّيْلَ فِي بُيُوتِنَا كَمَا كَانَ يَفْعَلُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي رَمَضَانَ وَفِي غَيْرِ رَمَضَانَ، وَمَا صَلَّى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التَّرَاوِيحَ جَمَاعَةً فِي الْمَسْجِدِ إِلَّا بِضْعَ لَيَالٍ ثُمَّ تَرَكَهَا خَشْيَةَ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْنَا، فَلْنَقُمْ لِلَّهِ -تَعَالَى- فِي بُيُوتِنَا مُصَلِّينَ خَاشِعِينَ، فَقَدْ جُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا.

وَأَمَّا الِاعْتِكَافُ فَقَدِ "اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَشْرُوطِيَّةِ الْمَسْجِدِ لِلِاعْتِكَافِ، إِلَّا مُحَمَّدَ بْنَ عُمَرَ بْنِ لُبَابَةَ الْمَالِكِيَّ فَأَجَازَهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا، وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُعَدُّ لِلصَّلَاةِ فِيهِ، وَفِيهِ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ قَدِيمٌ، وَفِي وَجْهٍ لِأَصْحَابِهِ وَلِلْمَالِكِيَّةِ: يَجُوزُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ؛ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ فِي الْبُيُوتِ أَفْضَلُ".

فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ -لِبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ- يَجُوزُ لَكَ أَنْ تَعْتَكِفَ فِي بَيْتِكَ، خَاصَّةً فِي هَذِهِ الظُّرُوفِ الِاسْتِثْنَائِيَّةِ الَّتِي نَحْيَاهَا، وَعَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ -وَهُوَ الرَّاجِحُ-؛ فَلَا تَحْرِمْ نَفْسَكَ مِنَ الْخَلْوَةِ بِاللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي أَحَدِ غُرَفِ بَيْتِكَ مُتَضَرِّعًا مُتَعَبِّدًا، فَإِنَّ الْخَلْوَةَ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَعَلَى الْحَالَيْنِ؛ فَإِنَّ لَكَ الْأَجْرَ بِنِيَّتِكَ إِنْ كُنْتَ مِنَ الْحَرِيصِينَ عَلَى الِاعْتِكَافِ فِي كُلِّ عَامٍ.

وَلْتَعْلَمُوا -مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ- أَنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَنْظُرُ إِلَى الْقُلُوبِ لَا إِلَى الْأَبْدَانِ، وَأَنَّ نِيَّةَ الْمَرْءِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ، وَهُوَ الْقَائِلُ: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ)[الْحَجِّ: 37]؛ فَأَرُوا اللَّهَ مِنْ قُلُوبِكُمْ خَيْرًا، وَاجْتَهِدُوا فِي الْعِبَادَةِ مَا اسْتَطَعْتُمْ، ثُمَّ اللَّهُ يُكْمِلُ النَّقْصَ وَيَجْبُرُ الْكَسْرَ، وَيَجْزِي بِالْقَلِيلِ كَثِيرًا.

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخطبة الثانية:

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: آنَ أَوَانُ الْبَذْلِ وَالْجُودِ وَالْعَطَاءِ، وَلِلْعَطَاءِ فِي هَذِهِ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ مَزِيدُ فَضْلٍ وَأَجْرٍ، فَإِنَّ فِيهِ اقْتِدَاءً بِالْمُصْطَفَى مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي وَصَفَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ قَائِلًا: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ، حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

وَإِنْ كَانَ الْجُودُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مَمْدُوحًا مُسْتَحْسَنًا، فَإِنَّهُ فِي رَمَضَانَ أَشَدُّ مَدْحًا وَاسْتِحْسَانًا، وَإِنَّهُ فِي ظُرُوفِنَا هَذِهِ قَدْ أَصْبَحَ عَلَى الْقَادِرِينَ مِنْ قَبِيلِ الْوَاجِبَاتِ الْمُحَتَّمَاتِ؛ فَهَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "لَيْسَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَشْبَعُ وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ"(رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ).

وَصُوَرُ الْجُودِ وَالْإِنْفَاقِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ مُتَعَدِّدَةٌ؛ فَمِنْهَا كَثْرَةُ الصَّدَقَاتِ، وَإِخْرَاجُ الزَّكَوَاتِ، وَمِنْهَا: تَفْطِيرُ الصَّائِمِينَ، فَإِنْ حُرِمْنَا أَنْ نَجْمَعَ الصَّائِمِينَ عَلَى مَوَائِدِ الْإِفْطَارِ، فَلَنَا -وَقَدْ حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ذَلِكَ- أَنْ نُرْسِلَ إِلَيْهِمْ بِالطَّعَامِ يُفْطِرُونَ عَلَيْهِ فِي بُيُوتِهِمْ، أَوْ نُخْرِجَ قِيمَةَ ذَلِكَ مَالًا أَوْ سِلَعًا بِنِيَّةِ تَفْطِيرِ الصَّائِمِينَ... وَلَنْ تَعْدَمَ الْأَجْرَ بِنِيَّتِكَ.

وَلْتَعْلَمْ أَنَّ بُخْلَكَ بِمَا يَزِيدُ عَنْ حَوَائِجِكَ -مَعَ شِدَّةِ احْتِيَاجِ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِ- فِي مِثْلِ هَذِهِ الْجَائِحَةِ هُوَ شَرٌّ وَوَبَالٌ عَلَيْكَ، فَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ أَنْ تَبْذُلَ الْفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ، وَأَنْ تُمْسِكَهُ شَرٌّ لَكَ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

بَلْ -وَهَذَا أَمْرٌ نَبَوِيٌّ مُبَاشِرٌ- يَقُولُ: "مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ"، قَالَ الرَّاوِي: فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ أَفْضَلَ الْعَطَاءِ مَا كَانَ فِي زَمَنِ الْبَلَاءِ وَالْوَبَاءِ وَالْغَلَاءِ وَالْحَاجَةِ، فَأَنْفِقْ -عَبْدَ اللَّهِ- وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا، أَنْفِقْ يُنْفِقِ اللَّهُ عَلَيْكَ، لَا تَدَعْ مُحْتَاجًا إِلَّا أَعْطَيْتَهُ وَأَغْنَيْتَهُ، مَا اسْتَطَعْتَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا، وَلْيَكُنْ نُصْبَ عَيْنَيْكَ قَوْلُ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)[سَبَأٍ: 39].

فَاللَّهُمَّ ارْزُقْنَا الثِّقَةَ فِيمَا عِنْدَكَ، وَهَبْنَا حُسْنَ مَا تَبَقَّى مِنْ رَمَضَانَ، وَبَلِّغْنَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَارْفَعْ عَنَّا الْبَلَاءَ وَالْوَبَاءَ وَالْغَلَاءَ وَالنِّقَمَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ... اللَّهُمَّ فَرَجًا قَرِيبًا وَعَافِيَةً عَاجِلَةً غَيْرَ آجِلَةٍ..

وَصَلِّ اللَّهُمَّ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي