الْمُؤْمِنُ لَا يُلْقِي الْقِيَادَ لِحُزْنِهِ، وَلَا يَسْتَسْلِمُ لِمُرِّ وَاقِعِهِ، بَلْ لَدَيْهِ بَدَائِلُ -عِنْدَ هُجُومِ الْحَوَائِلِ- يَسْتَطِيعُ بِهَا اسْتِغْلَالَ زَمَانِهِ وَحَالِهِ فِي الْخَيْرِ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ:70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مَا أَعْظَمَ حَنِينَ الْمُحِبِّينَ، وَأَشَدَّ لَوْعَةَ الْمُشْتَاقِينَ، إِلَى رِحَابِ الْبِقَاعِ الطَّاهِرَةِ، وَالْمَسَاجِدِ الْعَامِرَةِ، وَقَدْ هَلَّ هِلَالُ رَمَضَانَ، وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْوُصُولِ إِلَى بُغْيَتِهِمُ السَّامِيَةِ!
حَنِينُ الْقَلْبِ يَتَّقِدُ اتِّقَادًا***وَيَغْشَى بِالْأَسَى الْعَاتِي الْفُؤَادَا
وَيَرْجُو وَصْلَ مَا يَهْوَى وَلَكِنْ***أَمَامَ هَوَاهُ قَدْ وَجَدَ الْقَتَادَا
غَيْرَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُلْقِي الْقِيَادَ لِحُزْنِهِ، وَلَا يَسْتَسْلِمُ لِمُرِّ وَاقِعِهِ، بَلْ لَدَيْهِ بَدَائِلُ -عِنْدَ هُجُومِ الْحَوَائِلِ- يَسْتَطِيعُ بِهَا اسْتِغْلَالَ زَمَانِهِ وَحَالِهِ فِي الْخَيْرِ؛ وَكَمَا قَالَ الْمَثَلُ الْعَرَبِيُّ: "إِنْ ذَهَبَ عَيْرٌ فَعَيْرٌ فِي الرِّبَاطِ".
وَإِنَّ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِعَبْدِهِ الْمُسْلِمِ: أَنْ يَجْعَلَ لَهُ فِي الْمِحَنِ مِنَحًا، وَفِي الْمَكَارِهِ أَنْوَاعًا مِنَ الْمَحَابِّ، قَالَ تَعَالَى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ:216]؛ فَمَا أَعْظَمَ وَقْعَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى النُّفُوسِ، فِي مِثْلِ هَذِهِ الظُّرُوفِ؛ فَمَنْ تَدَبَّرَهَا اسْتَرَاحَتْ نَفْسُهُ، وَخَفَّ مُصَابُهُ، وَفَتَحَتْ لَهُ فِي ظَلَامِ الْأَزْمَةِ أَبْوَابًا لِعَمَلِ الْخَيْرِ.
وَتَأَمَّلُوا -مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ- فِي قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْمِحْنَةَ تَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهَا مِنْحَةً مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ يَقُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ؛ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَهَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ- لَمْ يَلْمَعْ نَجْمُهُ فِي الْأَرْجَاءِ، وَتَعُمُّ شُهْرَتُهُ الْأَنْحَاءَ، وَيَعْرِفُ عِظَمَ قَدْرِهِ الْمُوَافِقُونَ وَالْخُصَمَاءُ إِلَّا بَعْدَ مِحْنَتِهِ الَّتِي صَبَرَ فِيهَا صَبْرَ الْأَطْوَادِ، وَتَجَلَّدَ فِيهَا بَيْنَ يَدَيِ السَّجَّانِ وَالْجَلَّادِ؛ فَكُونُوا عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّ فِي كُلِّ مِحْنَةٍ مِنْحَةً، وَفِي كُلِّ بَلِيَّةٍ خَيْرًا.
عِبَادَ اللَّهِ: لَقَدْ أَظَلَّنَا شَهْرُ رَمَضَانَ الْمُبَارَكُ، وَهُوَ مَوْسِمٌ عَظِيمٌ لِاسْتِغْلَالِ زَمَنِهِ الشَّرِيفِ فِي الطَّاعَاتِ، وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى الْقُرُبَاتِ، وَفِي ظِلِّ هَذِهِ الْأَزْمَةِ الَّتِي نَمُرُّ بِهَا لَا يَمْنَعُنَا ذَلِكَ مِنَ الظَّفَرِ بِخَيْرَاتِ رَمَضَانَ، وَالْفَوْزِ بِجَوَائِزِهِ الثَّمِينَةِ، بَلْ لَعَلَّ مَا بِنَا مِنْ شِدَّةٍ يَجْعَلُنَا نَسْتَغِلُّ فَضْلَ هَذَا الزَّمَنِ الصَّالِحِ أَحْسَنَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ حَالُنَا سَائِرَ الْعَامِ.
فَرَمَضَانُ فُرْصَةٌ لِلتَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ، وَاعْتِكَافِ الْقَلْبِ فِي مِحْرَابِ الْأُنْسِ بِاللَّهِ فِي الْبُيُوتِ؛ وَاسْمَعُوا مَا يَقُولُ الْإِمَامُ ابْنُ تَيْمِيَةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "مَا يَصْنَعُ أَعْدَائِي بِي؟! أَنَا جَنَّتِي وَبُسْتَانِي فِي صَدْرِي، إِنْ رُحْتُ فَهِيَ مَعِي لَا تُفَارِقُنِي! إِنَّ حَبْسِي خَلْوَةٌ، وَقَتْلِي شَهَادَةٌ، وَإِخْرَاجِي مِنْ بَلَدِي سِيَاحَةٌ".
وَكَانَ يَقُولُ فِي مَحْبَسِهِ فِي الْقَلْعَةِ: "لَوْ بَذَلْتُ مِلْءَ هَذِهِ الْقَلْعَةِ ذَهَبًا مَا عَدَلَ عِنْدِي شُكْرَ هَذِهِ النِّعْمَةِ، أَوْ قَالَ: مَا جَزَيْتُهُمْ عَلَى مَا تَسَبَّبُوا لِي فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ".
لِهَذَا -أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ الْكِرَامُ-: يُمْكِنُنَا فِي ظِلِّ أَزْمَةِ (كُورُونَا) أَنْ نَتَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ -تَعَالَى- فِي بُيُوتِنَا بِعِبَادَاتٍ كَثِيرَةٍ يَكُونُ لَهَا أَثَرٌ -بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى- فِي تَفْرِيجِ هَذَا الْكَرْبِ، وَزَوَالِ دُخَانِ هَذِهِ الشِّدَّةِ عَنْ آفَاقِنَا؛ فَمِنْ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ:
الصَّلَاةُ؛ فَهِيَ أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ، وَهِيَ خَيْرُ مَوْضُوعٍ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "الصَّلَاةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَسْتَكْثِرَ فَلْيَسْتَكْثِرْ"(الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ).
فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى فُرُوضِهَا فِي أَوْقَاتِهَا، مُعْتَنِيًا بِشُرُوطِهَا وَأَرْكَانِهَا وَوَاجِبَاتِهَا وَمُسْتَحَبَّاتِهَا، وَلْيُصَلِّهَا عَلَى مَهَلٍ، بَعِيدًا عَنِ النَّقْرِ وَالْعَجَلِ؛ فَلَيْسَ هُنَاكَ عَمَلٌ يُطَارِدُهُ، وَلَا مَوَاعِيدُ مَعَ النَّاسِ تُلَاحِقُهُ، بَلْ هُوَ فِي فَرَاغٍ طَوِيلٍ، فَلْيَسْتَغِلَّ ذَلِكَ فِي تَطْوِيلِ الصَّلَاةِ وَالِاطْمِئْنَانِ فِيهَا. يَقُولُ اللَّهُ -تَعَالَى-: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)[يُونُسَ:87]؛ فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ -تَعَالَى- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مُوسَى وَهَارُونَ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- أَنْ يَتَّخِذُوا مِنْ بُيُوتِهِمْ مَسَاجِدَ لِقَوْمِهِمْ لِيَأْمَنُوا فِيهَا مِنْ بَطْشِ فِرْعَوْنَ.
أَلَا فَلْنَتَّخِذِ الْيَوْمَ مِنْ بُيُوتِنَا مَسَاجِدَ؛ فِرَارًا مِنْ (كُورُونَا).
ثُمَّ بَعْدَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى فُرُوضِ الصَّلَاةِ لِنُحَافِظْ عَلَى نَوَافِلِهَا، وَمِنْهَا: السُّنَنُ الْقَبْلِيَّةُ وَالسُّنَنُ الْبَعْدِيَّةُ لِلْفَرَائِضِ، وَصَلَاةُ الضُّحَى، وَصَلَاةُ اللَّيْلِ، وَالنَّوَافِلُ الْمُطْلَقَةُ، وَهَذَا مَجَالٌ فَسِيحٌ لِلتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ -تَعَالَى- بِمُسْتَحَبَّاتِ الصَّلَوَاتِ، وَقَدْ كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ يُصَلِّي فِي الْيَوْمِ ثَلَاثَمِائَةِ رَكْعَةٍ، وَأَبُو قِلَابَةَ كَانَ يُصَلِّي فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ أَرْبَعَمِائَةِ رَكْعَةٍ، وَأَمَّا الْعَابِدُ مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فَكَانَ يُصَلِّي فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ أَلْفَ رَكْعَةٍ، وَهَكَذَا وَرَدَ عَنِ الْإِمَامِ كَهْمَسِ بْنِ الْحَسَنِ، فَأَيْنَ نَحْنُ الْيَوْمَ مِنْ بَعْضِ هَذَا؟!
وَمِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يَنْبَغِي اسْتِغْلَالُ رَمَضَانَ بِهَا: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ؛ فَرَمَضَانُ هُوَ شَهْرُ الْقُرْآنِ، قَالَ تَعَالَى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)[الْبَقَرَةِ:185].
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَلِلْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ لَذَّةٌ وَحُبٌّ لَيْسَا فِي غَيْرِهِ، وَأَثَرٌ عَظِيمٌ عَلَى النَّفْسِ لَيْسَ فِي سِوَاهُ، فَمَا أَحْسَنَ أَنْ نُقْبِلَ عَلَى الْإِكْثَارِ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ هَذِهِ الْأَيَّامَ فِي زَوَايَا الْبُيُوتِ، وَنَحُثُّ أَهْلَ الْبَيْتِ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ نَصْنَعُ مِنَ الْبَيْتِ رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الْقُرْآنِ نَجْتَمِعُ فِيهَا مَعَ أَهْلِنَا وَأَوْلَادِنَا، وَنَتَحَلَّقُ حَوْلَ مَائِدَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْعَظِيمِ نَتَأَمَّلُهُ وَنَتَدَبَّرُهُ، وَنَعِي مَا يُرِيدُهُ مِنَّا فِعْلًا وَتَرْكًا.
هَذَا كِتَابُ اللَّهِ يَا قَوْمُ ارْجِعُوا***لِرِيَاضِهِ الْفَيْحَاءِ كُلَّ أَوَانِ
وَتَدَبَّرُوهُ فَفِي تَدَبُّرِهِ الْهُدَى***وَمَنَابِعُ الْخَيْرَاتِ وَالْإِيمَانِ
وَخُذُوا هُدَاهُ إِلَى الْحَيَاةِ وَسَيْرِهَا***فَهْوَ الدَّلِيلُ لِرَاحَةِ الْإِنْسَانِ
وَمِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يَنْبَغِي اسْتِغْلَالُ رَمَضَانَ بِهَا: الدُّعَاءُ، وَكَثْرَةُ التَّضَرُّعِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، وَأَنْتُمْ تَقْرَؤُونَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، حَتَّى تَصِلُوا إِلَى آيَاتِ الصِّيَامِ لِتَجِدُوا هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ تَتَخَلَّلُ آيَاتِ الصِّيَامِ يَقُولُ تَعَالَى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)[الْبَقَرَةِ:186]؛ وَهَذَا يُبَيِّنُ أَهَمِّيَّةَ الدُّعَاءِ أَثْنَاءَ الصِّيَامِ وَفِي رَمَضَانَ، وَعِظَمَ الْحَثِّ عَلَيْهِ فِيهِ؛ لِكَوْنِ هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ تَوَسَّطَتْ آيَاتِ الصِّيَامِ.
بَلْ قَدْ أَفْصَحَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولُنَا-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ لَا تُرَدُّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ الصَّائِمِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ"(الْبَيْهَقِيُّ).
فَالرُّوحُ فِي رَمَضَانَ تَسْمُو وَتُقْبِلُ، وَالْقَلْبُ يَرِقُّ وَيَخْشَعُ، وَالْعَيْنُ تَبْكِي وَتَدْمَعُ، وَالنَّفْسُ وَالْهَوَى وَوَسَاوِسُ الشَّيْطَانِ تُقِيمُ فِي هُوَّةِ الِانْكِسَارِ وَالْفُتُورِ، وَحِينَمَا يَصِلُ الصَّائِمُ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ مِنَ الِاسْتِقَامَةِ وَالْإِخْبَاتِ بِحَيْثُ اكْتَسَتْ جَوَارِحُهُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالِاسْتِجَابَةِ وَالِانْقِيَادِ لِرَبِّهِ؛ يَكُونُ إِقْبَالُهُ عَلَى الدُّعَاءِ بِقُوَّةِ يَقِينٍ، وَذُلٍّ وَإِلْحَاحٍ شَدِيدَيْنِ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ؛ فَيَغْدُو عِنْدَ ذَلِكَ مَسْمُوعَ الدَّعْوَةِ، قَرِيبَ الْإِجَابَةِ.
فَاغْنَمُوا -يَا عِبَادَ اللَّهِ- رَمَضَانَ بِكَثْرَةِ الدُّعَاءِ بِالْفَرَجِ مِنْ هَذَا الْبَلَاءِ؛ فَلَعَلَّ دَعْوَةً تَخْرُجُ مِنْ لِسَانِ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ فِي زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَا بَيْتِهِ تَكُونُ سَبَبَ النَّجَاةِ مِمَّا حَلَّ بِالْعِبَادِ.
نَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يَرْفَعَ عَنَّا مَا نَزَلَ بِنَا مِنَ الْبَلَاءِ، وَأَنْ يُغِيثَنَا بِالنَّجَاةِ مِنْ هَذَا الْوَبَاءِ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: هُنَاكَ وَسَائِلُ عِدَّةٌ يُمْكِنُ بِهَا اغْتِنَامُ رَمَضَانَ دَاخِلَ بُيُوتِنَا فِي ظِلِّ هَذِهِ الْأَزْمَةِ الْحَرِجَةِ، وَالشِّدَّةِ الْمُتَّسِعَةِ؛ فَمِنْ تِلْكَ الْوَسَائِلِ: الْوَقْتُ الطَّوِيلُ؛ فَفِي هَذِهِ الْأَزْمَةِ صَارَ لِلْإِنْسَانِ فِي بَيْتِهِ مُتَّسَعٌ مِنَ الْوَقْتِ؛ فَلَيْسَ لَدَيْهِ دَوَامٌ أَوْ عَمَلٌ أَوْ لِقَاءَاتٌ تَأْخُذُ مِنْ وَقْتِهِ، فَأَمَامَهُ وَقْتٌ رَحْبٌ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَسِيلَةً إِلَى قَضَاءِ كَثِيرٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.
وَالْفَرَاغُ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ إِذَا اسْتُغِلَّتْ، وَهَا أَنْتُمُ الْيَوْمَ فِي النِّعْمَةِ فَاغْتَنِمُوهَا بِمَا يَنْفَعُكُمْ قَبْلَ أَنْ تَذْهَبَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ"(الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ).
وَصَدَقَ الْقَائِلُ يَوْمَ قَالَ:
اغْتَنِمْ فِي الْفَرَاغِ فَضْلَ رُكُوعٍ***فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مَوْتُكَ بَغْتَةْ
كَمْ صَحِيحٍ رَأَيْتَهُ مِنْ غَيْرِ سُقْمٍ***ذَهَبَتْ نَفْسُهُ الصَّحِيحَةُ فَلْتَةْ
وَالْحَرِيصُ عَلَى وَقْتِهِ هُوَ الْحَرِيصُ عَلَى عُمْرِهِ؛ وَقَدْ مَرَّ أَحَدُ الصَّالِحِينَ بِقَوْمٍ يَلْعَبُونَ فَقَالَ: "لَوْ كَانَ الْوَقْتُ يُشْتَرَى لَاشْتَرَيْنَا مِنْ هَؤُلَاءِ أَوْقَاتَهُمْ".
فَاغْتَنِمْ -يَا عَبْدَ اللَّهِ- فَرَاغَكَ فِي رَمَضَانَ فِي ظِلِّ هَذِهِ الْأَزْمَةِ بِكَثْرَةِ الصَّلَاةِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَالتَّضَرُّعِ، وَالتَّوْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَمِنْ وَسَائِلِ اغْتِنَامِ رَمَضَانَ فِي هَذِهِ الْأَزْمَةِ: حُسْنُ التَّعَامُلِ مَعَ الشَّبَكَةِ الْعَنْكَبُوتِيَّةِ، وَوَسَائِلِ التَّوَاصُلِ الِاجْتِمَاعِيِّ؛ فَهِيَ تُقَرِّبُ الْمَعْلُومَاتِ، وَتُعِينُ الْعُقَلَاءَ وَالصَّالِحِينَ عَلَى اسْتِغْلَالِ الْوَقْتِ بِالْمُفِيدِ؛ فَمِنْ خِلَالِهَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَتَعَلَّمَ، وَتَسْتَطِيعُ حَلَّ مَا يَمُرُّ بِكَ مِنْ إِشْكَالَاتٍ دِينِيَّةٍ، وَمِنْ خِلَالِهَا تَسْتَطِيعُ التَّوَاصُلَ مَعَ النَّاسِ وَمُشَارَكَتَهُمْ فِي أَفْرَاحِهِمْ وَأَتْرَاحِهِمْ، وَمِنْ خِلَالِهَا تَسْتَطِيعُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالنَّصِيحَةَ وَنَشْرَ الْخَيْرِ.
فَاغْتَنِمُوا -عِبَادَ اللَّهِ- هَذِهِ الْوَسِيلَةَ فِي هَذِهِ الْمَنَافِعِ وَنَحْوِهَا، وَاحْذَرُوا أَنْ تَسْرِقَ أَوْقَاتَكُمْ فِي هَذِهِ الْإِجَازَةِ الطَّوِيلَةِ، أَوْ تَنْهَبَ صَلَاحَكُمْ فِي هَذِهِ الْخَلْوَةِ الْعَتِيدَةِ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّهَا دَعْوَةٌ حَرِيصَةٌ، وَكَلِمَةٌ نَاصِحَةٌ، فِي ظِلِّ هَذَا الظَّرْفِ الضَّيِّقِ، تَحُثُّكُمْ عَلَى الْخَيْرِ، وَتَنْأَى بِكُمْ عَنِ الشَّرِّ، فَإِيَّانَا وَإِيَّاكُمْ أَنْ نُقَصِّرَ فِي الِاسْتِجَابَةِ لَهَا؛ فَمَنْ قَصَّرَ فِي هَذِهِ الْأَزْمَةِ فِي صَلَاتِهِ، وَقِرَاءَةِ كِتَابِ رَبِّهِ، وَالتَّضَرُّعِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَمَتَى سَيَجِدُ وَقْتًا مِثْلَ هَذَا الْوَقْتِ لِإِصْلَاحِ حَالِهِ مَعَ اللَّهِ؟
وَمَنْ فَوَّتَ عَلَى نَفْسِهِ فِعْلَ الْخَيْرِ فِي ظِلِّ هَذَا الْحَجْرِ، وَأَسْرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِارْتِكَابِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ فَقَدْ لَا يَسْتَطِيعُ إِدْرَاكَ مَا فَاتَهُ فِي زَمَنٍ قَابِلٍ، بَلْ لَعَلَّ النَّدَمَ سَيَحْضُرُهُ وَيَقُولُ: (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي)[الْفَجْرِ:24].
فَيَا عِبَادَ اللَّهِ: اسْتَغِلُّوا الْفَرَاغَ فِي طَاعَةِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَتَفَاءَلُوا بِزَوَالِ الْمِحْنَةِ وَالْبَلَاءِ؛ فَإِنَّ اللَّيْلَ يَعْقُبُهُ الْفَجْرُ، وَالشَّدَّةَ يَتْلُوهَا الْفَرَجُ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ رَبَّكَ لَيْسَ تُحْصَى***أَيَادِيهِ الْحَدِيثَةُ وَالْقَدِيمَةْ
تَسَلَّ عَنِ الْهُمُومِ فَلَيْسَ شَيْءٌ***يَقُومُ وَلَا هُمُومُكَ بِالْمُقِيمَةْ
لَعَلَّ اللَّهَ يَنْظُرُ بَعْدَ هَذَا***إِلَيْكَ بِنَظْرَةٍ -مِنْهُ- رَحِيمَةْ
أَسْأَلُ اللَّهَ -بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَصِفَاتِهِ الْعُلَى- أَنْ يَجْعَلَ شِدَّتَنَا إِلَى انْفِرَاجٍ، وَلَيْلَ بَلَائِنَا إِلَى انْبِلَاجٍ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْمَبْعُوثِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ: (إِنَّ اللَّه وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ:٥٦].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي