دروس ومكتَسبات من الوباء

صالح بن عبد الله بن حميد
عناصر الخطبة
  1. حكمة الله في الابتلاء .
  2. بعض الدروس من جائحة كورونا .
  3. مكتَسبات من الجائحة .
  4. نصائح وتوصيات للحفظ من الوباء .

اقتباس

الغُمَّة ستنكشف -بإذن الله-، ولكن ماذا بعدُ؟ الناجي من الوباء هو مَنْ فَهِمَ الرسالةَ، وسارَع إلى التوبة، وأعاد ترتيبَ حياته وأولوياته، الناجي مَنْ أدرَك أن الأمان ليس في مال يُكنَز، ولا منصب يُرتقى، الأمان هو رضا الله وحُسْن الخاتمة...

الخطبة الأولى:

الحمد لله المتعالي في عزِّه ومجده، والله أكبر، كل مخلوق مرزوق من خزائن نعمه ورزقه، (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ)[فَاطِرٍ: 2]، والحمد لله، أوجَد بقدرته الوجود، والله أكبر، أودَع فيه كل موجود، والحمد لله، من أُعطي خيرًا فالله أعطاه، والله أكبر، من وُقي شرًّا فالله وقاه، لا إله إلا الله، كتَب علينا برَّه، وتواصَل إلينا خيرُه، وكمُل لنا عطاؤه، وعمَّت فينا فواضلُه، أحمده -سبحانه- وأشكره، نُثني عليه بما أعطى، ونَرضى منه بما ابتلى، تقديره عدل وحكمة، وعفوه فضل ورحمة، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، عزَّ سلطانه، وجلَّ ثناؤه، وتقدَّست أسماؤه، ولا إله غيره، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، به الرسالات خُتمت، وبمعجزاته وبحُججه العقولُ بُهرت واستسلمت، وبدعوته قامت أعلام الملة وارتفعت، صلى الله وسلم وبارك عليه، أكرِمْ به هاديًا مرشِدًا، وناسخًا ومجدِّدًا، وعلى آله الطيبين المكرَمين السعداء، وعلى أصحابه بحور الندا، ونجوم الاقتدا، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، وسار على نهجهم واقتدى، صلاةً وسلامًا وبركات دائمات أبدًا وسرمدًا.

الله أكبر، الله أكبر ولا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلًا.

أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله -رحمكم الله-؛ فتقوى الله هي الذخيرة، والتجارة الرابحة الوفيرة، مَنْ أكثَر الرقادَ لم يبلغ المراد، ومَنْ غلَبَه النوم سبَقه القوم، والأيام دول، والمعاصي ديون، يا مقيمون: سترحلون، ويا غافلون: ستظعنون، الكلام مكتوب، والقول محسوب، وأنتَ يا عبد الله مطلوب، فمتى تتوب؟ (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ)[الشُّعَرَاءِ: 205-207].

الله أكبر، لا يسلك بطيء بحظه، والله أكبر لا يدرِك حريص ما لم يقدَّر له.

معاشر المسلمين: عيدكم مبارك، وتقبَّل الله منا ومنكم الصيام والقيام، وسائر الطاعات، هذا يوم من أيام الله المباركة، إنه عيدنا أهلَ الإسلام، سُمي عيدًا لكثرة عوائد الله -تعالى- على عباده بالبِر والإحسان والإنعام، توالَت نفحات ربنا في أيام دهرنا، فعم الوجودَ برُّه، ولطفُه، ورحمتُه، وغفرانُه، والعسر من فضل الله لا يدوم، والشدة لا تطول، والليل يعقبه الصباحُ، والصبر عبادة، والرضا إيمان، والدعاء يرفع الهموم.

الله أكبر، فهو يستر العيوب، والله أكبر وهو يدفع الكروب.

معاشر المسلمين: خُلق الإنسان هلوعًا، وهو أكثر شيء جدلًا، وقد أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورًا، وهو على نفسه بصيرة، يقول الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "الناس ما داموا في عافية فهم مستورون، فإذا نزَل البلاءُ صاروا إلى حقائقهم، فصار المؤمن إلى إيمانه، والمنافق إلى نفاقه"، (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)[الْحَجِّ: 11]، في حال الابتلاء يتبيَّن مَنْ يعبد ربَّه ومن يعبد هواه، فبالابتلاء تمايَز الصفوفُ بين أهل الإيمان وأهل النفاق.

الله أكبر، أولى مَنْ حُمِدَ، والله أكبر أحقُّ مَنْ شُكِرَ، والحمد لله أرحم من قصد، (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ)[الْإِخْلَاصِ: 3-4].

يقال ذلك عباد الله، والعالَم تجتاحه هذه الجائحة التي لا تَعرف الحدود، ولا تستأذن في الدخول، لا تحدها سلطة، ولا يمنعها مانع، جائحة أظهرت ضَعف الإنسان وقلة حيلته، وقِصَر نظره، فلا الثراء منها يمنع، ولا الفقر فيها يُوقع، جيش أبرهة، هلك بالأبابيل، والنمرود هلك ببعوضة، وهذا المخلوق الضعيف أمات مئات المئات، وحبَس الناس، وقطع الاتصالات، أُغلقت الحدود، وأُعلنت الطوارئ، وتوقَّفت الرحلات، كم يجثو على أرض المطارات من الطائرات، وكم يقف في المحطات من القطارات؟!

مخلوق صغير لم تُعجزه الدول الكبرى، ولم تُوقِفه الأمم العظمى، يرُهبهم العطاس، ويُبعثرهم السعال، كلٌّ يبحث عن النجاة، مخلوق صغير لا يُرى بالعين المجردة، جاء ليوقظ من غفلة، وليكشف العجز ويبرز الضَّعف، وليدل على الواحد القهار، القادر الجبَّار، ذي العزة والجلال، لا إله إلا هو، أوقَف العالَمَ ولم يُقعده، وشلَّ أركان الدول، وعاث في الأمم، ارتعد أمامه الأقوياء، واضطربت من جرائه الأوضاع، واهتزت له منصات العالَم، أسمع صرير أقلام الكتاب والفلاسفة والمحللين، لا عظيم إلا المهين الجبار، ولا قوي إلا الله العلي الغفار.

جائحة اضطربت فيها أحوال دول ومجتمعات وأُسَر وأفراد، وتغيرت فيها برامج، وأُغلقت المدارس والمساجد والبِيَع والصوامع، والجامعات، وأُقفلت الحوانيت والأسواق والملاعب، وهزَّ اقتصادَ العالَم فعزَّ ذليلٌ وذلَّ عزيزٌ، يرسم معالم الموت ويكتب مشاهد الوفاة، ويعلن مراسم الحداد، ويُلغي مواسم الأفراح، هذه هي الجائحة في حقيقتها وابتلاءاتها وآثارها.

الله أكبر، تفرَّد في مُلكه بالقوة القاهرة، ووعَد المحسنين بالفوز في الآخرة، فيا بشرى الموعود بما وعَد.

أيها الإخوة: أما دروس هذه الجائحة وعبرها فحدِّث عن الجائحة ولا حرج، من هذه الدروس عباد الله: درس الابتلاء، فالبلاء مع الصبر يقوِّي القلب، ويمحو الذنب ويقطع العُجْب، ويُذهب الكِبْر، ويُذيب الغفلة، ويُحيي الذكر، ويستجلب دعاء الصالحين، ويُوقظ من الركون إلى الدنيا، ويحصل رقة القلب، والاستسلام للواحد القهار.

معاشر الإخوة: في الابتلاء يراجع العبد علاقتَه مع ربه، وصدقه في الالتجاء إليه وحده، وحُسْن توكله عليه، وقطع كل أسباب التعلق بغيره، وفي الحديث: "لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى اللهَ وما عليه خطيئة"(رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح)، ويقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله-: "فلولا أنه -سبحانه- يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء لطَغَوْا وبَغَوْا وعَتَوْا".

الله أكبر كبيرا كما أمر، والله أكبر إرغامًا لمن جحَد به وكفر، والحمد لله ما اتصلت عين بنظر، وأُذُن بخبر.

معاشر المسلمين: ومن دروس هذه النازلة: التبتُّل في العبادة وإحسان الوقوف بين يدي الله، فقد كان الإمام مسروق بن الأجدع، التابعي الجليل -رحمه الله- يمكث في بيته أيام الطاعون ويقول: "أيام تشاغُل؛ فأُحب أن أخلو للعبادة"، وأصدَق من ذلك وأبلغ قول نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-: "العبادة في الهرج كهجرة إليَّ".

يا عبد الله: هاجِر إلى الله وإلى رسوله، بقلبك وعبادتك، سبِّح بحمد ربك، وصلِّ وتصدَّق، وصم واعمل صالحًا، والزم بيتك، وعليك بخاصة نفسك تَحفظ نفسك وتَحفظ غيرك، آيات التخويف إذا تعامل معها التعامل الشرعي عظُم أجره، واطمأن قلبه، وزاد إيمانه وعظم ثباته، يقول نعمان بن بشير -رضي الله عنه-: "إن الهلكة كل الهلكة لمن يعمل بالسيئات وقت البلاء".

الله أكبر ما خفي من ألطاف الله أعظم، والحمد لله، ما ستَر من الذنوب أكبر، وما غفر أكثر.

أيها المسلمون: ومن دروس هذه الجائحة: التباعد الاجتماعي؛ هذا التباعد هو تقارُب، محطة هادئة جميلة، الحمد لله، اجتماع مقتصر، مع الأحبة، مع الآباء والأمهات والأزواج والأولاد والإخوة والأخوات، لم تُشرَّدوا من الأوطان، ولم تَسكنوا الخيام، ولم ينقص الطعام، تملكون الصحة والعافية واجتماع شمل الأسرة، ترمَّمت العلاقة الأسرية الاجتماعية التي خلخلها الاشتغال برغبات النفس، في رحلات وحفلات، واستسلام للمشتهيات والرغبات والشهوات، بل أُغلقت المتاجر لتعود العائلة إلى بيتها، وتقضي كلَّ يومها في كنفه، وفي دفئه، فصارت تأكل في البيت، وتتعلم في البيت، وتصلي في البيت، فتوثَّقت العلاقة وبرزت الحميمية، تعلَّمُوا كيف يتسوقون عن بُعد، وتعلموا كيف يتعلمون عن بُعد، بل ويترافعون إلى المحاكم عن بُعد، ويُنجِزون معاملاتهم العامة والخاصة عن بُعد، ويتسلَّون عن بُعد، بل يُصدرون قراراتهم الكبرى عن بُعد، وما كان يحتاج أياما وأسابيع صار يُقضى في ساعات ودقائق، تعلَّمت الأسرة كيف توفِّر الكثير من مدخراتها ومدخولاتها، اعتمدت على البيت، وباشرت العمل بنفسها، أقامت مناسباتها من غير قصور ولا قاعات، ومن غير هَدْر للأموال والأوقات، في مراجَعات لسياسات الإنفاق الأسري وعادات الإسراف وطرائق التواصل الاجتماعي والتكافل الإيجابي، والموازَنة بين الضروريات والحاجيات والكماليات.

وقبل ذلك وبعده: التفطُّن العظيم لنعمة الأمن والصحة والفراغ وحرية الحركة والتنقل والاجتماع، وإدراك العقلاء أن الاقتصار على أساسيات الحياة والاكتفاء الذاتي من أعظم أسباب التغلب على كثير من نوازل الحياة وتقلباتها وهامشياتها.

الله أكبر، الله أكبر ولا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.

معاشر الإخوة: ومن دروس هذه الجائحة: صلُّوا في رحالكم، صلُّوا في بيوتكم، إن الذي أمَر بقوله: "حي على الصلاة حي على الفلاح"، في الأحوال المعتادة، هو الذي أمر بقوله: "صلوا في بيوتكم، وصلوا في رحاكم"، في أحوال النوازل، صلُّوا في رحالكم رمزٌ عظيمٌ لإبراز مكانة الإنسان، وتجسيد حقوق الإنسان في هذا الدين، إنه إيقاف مؤقَّت لصلاة الجمعة والجماعة والعيد، والتي هي من أعظم المطلوبات والقربات، كل ذلك من أجل الحفاظ على صحة الإنسان، إنه من أبرز تجلِّيات الرحمة الربانية بهذا الإنسان، أيُّ رحمة أعظم من أن يَشرع هذا الدين ترك الجمعة والجماعة والعيد ليصلى في البيت حفاظًا على صحته.

الله أكبر، إن الركن الأعظم والبناء الأهم في الإسلام هو الإنسان وحياته وصحته، الله أكبر، عنَت الوجوه لعظمته، والله أكبر أجرى المقاديرَ بحكمته.

أيها المسلمون: ومن دروس هذا المخلوق الصغير: أنه فضَح فلسفة المادية القاسية، التي لا ترى الإنسان إلا عبدًا، يُدير عجلات الاقتصاد، ويحرِّك آلات المصانع، تحافظ هذه الماديةُ على صحته ليبقى قويًّا متمكِّنًا من إدارة هذه العجلات، وتحريك هذه الآيات، ولَمَّا احتاج هذا الإنسان إليها في صحته تخلَّت عنه وتنكَّرت له، المشكلة ليست في الأوبئة ولا في الحروب ولا في الأوقات، بل هي في الأخلاق والمبادئ وحفظ حق الإنسان حفظًا حقيقيًّا، في عدل وصدق ورحمة، هذه المادية الجارفة تركت المسنين والضعفاء والمرضى لمصيرهم، أمَّا دينُنا فيقول نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-: "إنما تُرزَقون وتُنصَرون بضعفائكم"(متفق عليه).

هذه الجائحة وهذا الداء كشفت عن الدول الصارمة الحازمة التي أخذت بالأسباب وحفظت -بإذن الله- أنفسَها وشعوبها وتعاملت مع سنن الله، بينما تقاعست دول وتثاقلت حتى أخذ منها هذا الداء ما أخذ.

الله أكبر، ما تعاقبت الأهِلَّة، هلال بعد هلال، والله أكبر رب رمضان ورب شوال.

معاشر الأحبة: وتأتي هذه الدولة المباركة، المملكة العربية السعودية، لتصنع قرارات تاريخية، وتضع رؤية ثاقبة، تضع صحة من يعيش على هذه الأرض الطاهرة، من مواطن ومقيم، في ميزان ديني وبُعد إنساني، فجنَّدت كل القطاعات، واستنفرت كل الطاقات على مدار الساعة، مستعينةً بالله، ثم برجالها وإمكانياتها، لمواجَهة كل الاحتمالات، فلقد منَح الله بمنِّه وفضله هذه الدولة الحكمة، وحُسْن التصرف، فجنَّدت كل طرائق الوقاية، ووفَّرت كلَّ سبل العلاج، وهيَّأت أسباب الراحة والطمأنينة والعيش الكريم، في كل الاتجاهات، وللجميع وبدون استثناء، لو قلت في هذا المقام من كلمة تقدير وشكر وعرفان لهؤلاء الأبطال المرابطين، من رجال الأمن ورجال الصحة، والخدمات الاجتماعية والعلماء والدعاة ومن يعمل معهم، وأعانهم وأيدهم ودعا لهم، هؤلاء جميعًا الذين يعيشون للمجتمع ومن أجل المجتمع، في ظل هذه الدولة المباركة وتحت توجيهاتها وتعليماتها، وقفة تقدير لهذه الخدمات الكبرى التي تقدمها كل الجهات المتخصصة في الدولة، عناية طبية فائقة، وتسهيلات لمتطلبات المعيشة عالية.

الله أكبر ما هلَّل مهلِّل وكبَّر، والله أكبر ما صام صائم وأفطر.

أيها الإخوة في الله: ولقد برز في هذه الدروس حُسْن مبدأ السمع والطاعة لولاة الأمور وعظم أثره في الرضا والطمأنينة والاستقرار وبروز جهود الدولة المباركة، وحُسْن رعايتها لمن يقيم على أرضها، ومشاركة ذوي اليسار؛ كل بما هو من طبيعة عمله، واختصاصه واهتمامه، من مال ومرافق؛ من فنادق ومستشفيات ومساكن وغيرها، جُعلت كلها تحت تصرُّف الدولة، نماذج مشرِّفة من البذل والعطاء والدعم الظاهر لقرارات الدولة، والتزامها وخدمة الناس، فاهنؤوا بعيدكم واستبشِروا بفضل الله عليكم، (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)[يُونُسَ: 58].

الله أكبر: استوى على العرش بقدرته، والحمد لله زاد المؤمنين تواضعًا بعزته.

وبعدُ عباد الله: فإن النجاح والنجاة من هذا الابتلاء هو في حفظ مكتَسبات المحن، وهي مكتسبات منها ما هو في جنب الله وجنابه -عز شأنه-؛ من الرضا والصبر وحُسْن التوكل والرجوع إليه والتعلق به ولزوم طاعته؛ إنا لله وإنا إليه راجعون، فتكون الرحمة والصبر والهدى (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)[الْبَقَرَةِ: 157].

ومن المكتَسبات: التجاوب مع التعليمات، والتعاون مع الجهات؛ ليكون المسلم على مستوى المسئولية، في الثقافة والسلوك والالتزام بالأنظمة والابتعاد عن الشائعات، وتقدير إجراءات الدولة وقراراتها.

الغمة ستنكشف -بإذن الله-، ولكن ماذا بعدُ؟ الناجي من الوباء هو مَنْ فَهِمَ الرسالةَ، وسارَع إلى التوبة، وأعاد ترتيب حياته وأولوياته، الناجي مَنْ أدرَك أن الأمان ليس في مال يُكنَز، ولا منصب يُرتقى، الأمان هو رضا الله وحسن الخاتمة، والاستعداد للرحيل، هذا البلاء جاء ليربي ويصلح من السلوكيات الخاطئة، الابتلاءات إذا توالت تولَّت، وإذا حلَّت اضمحلت، فهي في غالبًا للتهذيب لا للتعذيب، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ)[الشُّعَرَاءِ: 3-4].

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين، من كل ذنب وخطيئة، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الله أكبر الله أكبر ولا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلًا، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، الحمد لله حقٌّ وجودُه، والله أكبر عظيمٌ جُودُه، وكثيرٌ موجودُه، والحمد لله، له وحده صلاة العبد وركوعه وسجوده، والله أكبر له صومه وفطره وعيده.

أحمده -سبحانه- وأشكره، لا شيء قبله ولا شيء بعده، نصَر عبدَه، وأعزَّ جندَه، وهزَم الأحزابَ وحده، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسولُه، نبَع الماءُ من أصابع يده، صلى الله وسلم وبارك عليه، الأمين المأمون، وعلى آله وأصحابه الذين قَضَوْا بالحق وبه كانوا يعدلون، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليمًا كثيرًا، دائمًا إلى يوم يبعثون.

أما بعد: الله أكبر ما انقضى شهر رمضان المبارك، وأشرق فجر العيد، والحمد لله ما تجلى ربنا برضوانه في هذا اليوم السعيد، والله أكبر ما أكرَم المقبولين من قربه ورضاه بالمزيد.

عباد الله: عجيب أمر البشر؛ من دروس هذا البلاء أن أصبح أقصى أماني الناس أن يعودوا إلى حياتهم السابقة، التي كانوا غافلين عن جمالها ورفائها، أدرَكوا معنى الحديث: "من بات آمنًا في سربه، معافًى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها"، يقول الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: "من لطائف اقتران الفرج بالكرب واليسر بالعسر أن الكرب إذا اشتدت وعظم وتناهى، وحصل للعبد اليأس من كشفه من جهة مخلوقهم، تعلَّق قلبُه بالله وحده، وهذا هو حقيقة التوكل على الله، وهو من أكثر الأسباب التي تُطلب بها الحوائج؛ فإن الله يكفي مَنْ توكَّل عليه"، (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)[الطَّلَاقِ: 3].

يا عبد الله: احفظ نفسك ووقتك، واستغفر لذنبك، وسبح بحمد ربك، بالعشي والإبكار، والغدو والآصال، لا تُكثر من تناقُل الأخبار، ولا تشتغل بتقليب التغريدات، فالعمر بين ذلك يضيع، والنفع من ذلك قليل، انكشفت معادن الناس، فمنهم المتوكل، ومنهم المتواكل، وفيهم المتشائم، وفيهم المتفائل، عرفتُم قيمة الصحة والعافية، كما عرفتُم مكانة الدولة ورجالها، رجال الأمن والصحة والخدمات.

الله أكبر، العارف مَنْ شكَر سوابغ النعم، والحمد لله، التائب مَنْ صدَق في ندم.

معاشر الإخوة: اقرعوا -رحمكم الله- باب الْمَلِك الرحيم، وارغبوا إليه في دفع هذا البلاء، فليرتفع بالدعاء ضجيجكم، وليصعد إليه بالابتهال عجيجكم، فربكم لدعائكم مستمع، وعلى نياتكم مطَّلِع، فالعسر -بلطف الله- لا يدوم، والشدة -برحمته- لا تطول.

اللهم فرِّج عنا ما ضاقت به صدورنا، اللهم فرِّج عنا ما ضاقت به صدورنا، وقلَّت معه حيلتنا، وضعفت عنه قوتُنا، واجعلنا في حفظك وحرزك وأمانك ومحبتك وفضلك، اللهم إنا نعوذ بك من جَهد البلاء، ودرَك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، اللهم قِنَا شرَّ الداء، واصرف عنا هذا الوباء، ونجِّنا من البلاء، برحمتك ولطفك فإنك بنا رحيم.

اللهم فرِّج عنا وعن أوطاننا وأوطان المسلمين، والعالَمين أجمعين، اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ونفس كروبنا، وعاف مبتلانا، واشف مرضانا، وارحم موتانا.

اللهم ارزقنا طيب المقام، وحسن الختام، اللهم إنا نسألك اللطف فيما قضيتَ، والعون على ما أمضيت، فأنت الثقة لمن توكل عليك، والعصمة لمن فوض أمره إليك، ارفع عنا كل شكوى، واكشف عنا كل بلوى، وتقبل منا كل نجوى، وألبسنا لباس التقوى، واجعل الجنة لنا هي المأوى.

اللهم إن لنا إخوانا وأخوات لم يحضروا معنا هذا العيد، ولم يحضروا هذا المشهد، وإخوانا لنا آخرين لم يتمكنوا من إقامة هذه الشعيرة العظيمة، حبستهم كلَّهم هذه النازلةُ، اللهم فاكتب لهم الأجر، اللهم فاكتب لهم أجر مَنْ حضرها وأقامها، اللهم أجب سُؤلهم، وأكرمهم بالقبول والغفران، وأدخل السرور إلى قلوبهم، والبهجة في نفوسهم، واحفظنا وإياهم بحفظك، واكلأنا بعنايتك، واجعل هذا العيد مباركًا سعيدًا علينا وعليهم، وأَعِدْهُ علينا وعليهم سنين عديدة، وأزمنة مديدة، في صحة وسلامة وأمن وإيمان، وصلاح وقبول.

معاشر المسلمين: ابتهِجوا بعيدكم، فعيدكم مبارك، وتقبل الله طاعتكم، ابتسِموا وانشروا السرور والبهجة في أنفسكم وفي أهليكم وفي إخوانكم، العيد والتهنئة لمن يزرع البسمة على شفاه المحتاجين، ويُدخِل السرورَ على المرضى والمكلومين.

أيها المسلمون: العيد مناسبة كريمة لتصافي القلوب، ومصالحة النفوس، مناسبة لغسل أدران الحقد والحسد، وإزالة أسباب العدوان والبغضاء.

وإن في مواقع التواصل الاجتماعي والمجموعات التي يُنشئها الأقارب والأصدقاء وذوو الاهتمام، في هذه المواقع طرائق حسنة، وأبواب متسعة، للكلام الطيب، وإدخال السرور، وحسن الحديث، ولطيف المتابَعة، ورقيق السؤال وتبادُل عبارات المرح المباح.

العيد عيد فرح وسرور، لمن طابت سريرته، وخلصت نيته، وحَسُن للناس خُلُقه، ولان في الخطاب كلامه.

بهجة العيد تجدونها في رضا الأب، ورضا الأم، وحب الأخ، وحب الأخت، وصلة الرحم، وإطعام المساكين، وكسوة العاري وتأمين الخائف، ورفع المظلمة، وكفالة اليتيم، ومساعدة المريض، فصنائع المعروف تقي مصارع السوء.

التمِسوا بهجة العيد في رضا ربكم، ومن مظاهر الإحسان بعد رمضان استدامة العبد على نهج الطاعة والاستقامة، وإتباع الحسنة الحسنة، وقد ندبكم نبيكم محمد -صلى الله عليه وسلم- لأن تُتبعوا رمضان بست من شوال، فمن فعل ذلك فكأنما صام الدهر كله.

تقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام وسائر الطاعات والأعمال الصالحات، الله أكبر ما أنعم ربنا من الفضل والخيرات، والله أكبر ما أفاض من الآلاء والبركات.

هذا وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة، نبيكم محمد رسول الله؛ فقد أمركم بذلكم ربكم في محكم تنزيله فقال وهو الصادق في قيله قولًا كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد الحبيب المصطفى والنبي المجتبى وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك وإكرامك وكرمك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، وانصر عبادك المؤمنين، واخذل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملة والدين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعبادك الصالحين.

اللهم آمنا في أوطاننا، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، يا رب العالمين، اللهم أيد بالحق والتوفيق والتسديد إمامنا وولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين ووفقه لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، وارزقه البطانة الصالحة، وأعز به دينك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نصرة للإسلام والمسلمين، واجمع به كلمة المسلمين على الحق والهدى، ووفقه وولي عهده وإخوانه وأعوانه، للحق وكل ما فيه صلاح العباد والبلاد.

اللهم وفِّق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، واجعلهم رحمة لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين.

اللهم عليك باليهود الصهاينة المحتلين، اللهم عليك باليهود الصهاينة المحتلين، فإنهم لا يعجزونك، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم يا ذا الجود والمن، احفظ علينا هذا الأمن، وسدد قيادته، وقو رجاله، ورجال الصحة والخدمة الاجتماعية، وخذ بأيديهم وشد من أزرهم، وقو عزائمهم، وزدهم إحسانا وتوفيقا، وتأييدا وتسديدا.

اللهم ارفع عنا وعنهم الغلا والوبا والربا، اللهم ارفع عنا هذا الوباء، اللهم ارفع عنا هذا الوباء، اللهم اكشف الغمة عن الأمة، اللهم ارفع عنا وعنهم الغلا والوبا والربا والزنا، والزلازل والمحن، والجوع والعري وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا وعن سائر بلاد المسلمين.

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-182].

الله أكبر، الله أكبر ولا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلًا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليمًا كثيرًا.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي