مقتل حاكم العراق

إبراهيم بن محمد الحقيل
عناصر الخطبة
  1. توافق الباطنية مع النصارى في مؤامرتهم وأعيادهم .
  2. اختلاف الناس في حاكم العراق والقول الحق في ذلك .
  3. تحول حاكم العراق إلى الاستقامة وخاتمته الطيبة .
  4. فرح المؤمن بتوبة العاصي والكافر أمرٌ لا بد منه .
  5. دروس وعبر من مقتل صدام .

اقتباس

والذي ينبغي أن يعلمه كل مسلم أن الله تعالى لا يطالب عامة الناس بالحكم على عباده ومآلاتهم؛ لأن الحكم فيهم إلى الله تعالى، وليسوا مكلفين بالخوض فيما لا يعلمونه من أحوال الرجال؛ فمن تكلم فيهم وجب ألا يتكلم إلا بعلم وعدل، وأن يتحرى الحق فيما يقول ولو كان ثقيل الوطأة على نفسه، وأن يخلص في حكمه وقوله لله تعالى، لا يبتغي بذلك عرضاً من الدنيا، ولا يريد نصر طائفة أو حزب، ..

 

 

 

 

الحمد لله العلي الأعلى؛ خلق فسوى، وقدر فهدى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، نحمده على نعمه التي لا تحصى، ونشكره على فضله الذي لا ينسى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ قسم الدين بين عباده فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله، وقسم بينهم الدنيا فيؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله؛ اصطفاه الله تعالى على العالمين نذيراً وبشيراً، وجعله سراجا منيرا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل؛ فإن الدنيا مهما طالت زالت، ومهما أزهرت أغبرت، وكم من عزيز تجرع ذلها! وكم من غني ذاق فقرها! ولا يبقى للعبد منها إلا ما عمل فيها (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [فاطر:5].

أيها الناس: مضى عيد المسلمين الكبير بعد أن وقفت جموع منهم على صعيد عرفة يقيمون ذكر الله تعالى، ويعظمون شعائره، يباهي بهم ربهم عز وجل ملائكته، فهو سبحانه من شرع لهم دينهم، ورضي منهم عملهم، فأدوا لله تعالى نسكهم، في لباس واحد، ومكان واحد، وشعار واحد.

وفي يوم العيد الأكبر ذبح المسلمون ذبائحهم، وتقربوا لله تعالى بهداياهم وضحاياهم، قائلين: "بسم الله والله أكبر، اللهم إن هذا منك ولك"، فما أعظمها من عبادات، وما أجلها من شعائر، تأخذ بالقلوب، وتسيل الدموع؛ فرحاً بالله تعالى وبالاجتماع على ذكره وشكره وحسن عبادته.

فهنيئا لكم -أيها المسلمون- ما هديتم إليه من الشرائع، وما قام في قلوبكم من تعظيم الشعائر، واشكروا الله تعالى إذ هداكم، وسلوه الثبات على دينكم.

وخلال هذه الأيام المباركة التي باركها الله تعالى بأن جعلها أفضل أيام السنة، وقضى بأن العمل الصالح فيها أفضل منه في غيرها، واختصها بشعيرتي الحج والأضحية، في تلك الأيام المباركة كانت أمة النصارى الضالة تحتفل بعيد ميلاد المسيح عليه السلام وعيد رأس السنة الميلادية في جملة من الشعائر الشركية، والمراسم الشهوانية، التي تشبع غرائزهم ولا تصلح قلوبهم، وترضي شيطانهم، وتسخط ربهم عليهم، ولا تزيدهم إلا ضلالاً على ضلالهم، وبعداً عن مناهج الأنبياء وشرائعهم.

وقد تابعهم في ضلالهم هذا جملة من المسلمين، يفرحون بأعياد الضالين، ويشدون رحالهم إليها، ويبحثون عنها في مظانها..يعبون من شهواتها، ويتمتعون بزخارفها، ويهنئ بعضهم بعضا بها، في حين أنهم يضجرون من أعياد المسلمين، فيعطلون شرائعها، ولا يعظمون شعائرها، فنعوذ بالله تعالى من الضلال بعد الهدى، ومن الغفلة والهوى.

ولئن شهدت الأيام الماضية المباركة فرح المسلمين بأعيادهم الشرعية، واحتفل فيها النصارى بأعيادهم الكفرية؛ فإن الأمة الصفوية الباطنية قد خالفت عموم المسلمين في العيد الكبير فأخروه عن العيد الشرعي؛ إمعاناً في المخالفة، وقصداً لترسيخ البدعة، وخرقاً لإجماع الأمة، ثم عمدوا إلى عيد المسلمين الأكبر فقتلوا فيه حاكم العراق؛ ليؤكدوا لأهل السنة حكمهم لمدينة السلام وما حولها، التي كانوا يحلمون بحكمها منذ القرن السابع لما أسقط أجدادهم بخيانة ابن العلقمي الرافضي خلافة بني العباس تحت أقدام المغول.

فعلوا ذلك بحاكم العراق يوم عيد المسلمين وهم يرددون الشعارات الطائفية البغيضة التي تنم عن تعصبهم لمذهبهم الضال، وتشي بمدى حقدهم على أهل الإسلام، وتدل على أنهم قوم بهت غدر، يظهرون الضعف والوداعة حتى إذا تمكنوا لم يرقبوا في مؤمن إلا ولا ذمة، وما يفعلونه بأبناء العراق من التعذيب والحرق وتشويه الأجساد وتمزيقها لم يفعله إخوانهم من الصهاينة والصليبيين كأنهم بقتلهم لحاكم العراق الأسير في العيد الكبير يوصلون رسالة مهمة لعموم المسلمين يقولون لهم فيها: "أنتم تفرحون بعيدكم، ونحن نأمر وننهى في عراقكم، وقد خرجنا عن تقيتنا، وأعلنا شعارنا الطائفي حال قتلنا لزعيم من زعمائكم، وحوّلنا الإعلام من الاهتمام بحجكم إلى مواقع إهانتكم، ومواضع ذلكم، فما أنتم قائلون؟ وماذا ستفعلون؟ وما أنتم إلا عاجزون".

حتى إن كاتباً غربياً أثر فيه المشهد وتوقيته فقال: "إنه عندما يظهر دكتاتور عرف بوحشيته الاستثنائية وهو يموت بطريقة مشرفة وبشجاعة نادرة على أيدي مجموعة من السفاحين قطاع الطرق المقنعين, فإن ذلك يمنحه بكل تأكيد تاج الشهداء".إلى أن قال: "من الواضح أن ما أراده المالكي هو بعث رسالة متعمدة إلى سنة العراق مفادها أن الشيعة هم الأسياد الآن, مما يحول الحكومة العراقية الحالية, التي كان هدفها توحيد العراقيين, إلى مجرد عصابة طائفية مصممة على جعل السنة الأقلية التي تدفع ثمن كل القمع الذي مارسه نظام صدام بحق الشيعة".

لقد التقت الرغبة اليمينية الإنجيلية مع الحقد الصفوي الباطني، على هدف واحد وهو هزيمة روح المقاومة عند السنة ومن ثم البدء بتشكيل المنطقة وكتابة تاريخ يخطه المنتصرون.

إن مشروع تركيع الشرق الإسلامي لا يمكن أن يطبق دون إجهاز على النفوس المقاومة للظلم والاستعمار والتغريب والتشييع، والذي يحدث في العراق هو تجهيز للمنطقة بكاملها إن على مستوى العنف والقتل والدمار الذي وصل إلى مستوى القاع وليس بعد القاع إلا رمي ركائز الشرق الأوسط الجديد، أو على مستوى السياسات العامة، أو على مستوى التهيئة النفسية.

واختيار هذا الموعد لإعدام صدام هو آخر بالونات الاختبار للتأكد من أن التخدير قد جرى في شرايين أبناء المنطقة، وأنهم لم يعودوا يشعرون بالألم فما لجرح بميت إيلام.رد الله تعالى كيدهم عليهم، وحفظ المسلمين من شرهم ومكرهم.

أيها الإخوة: وما أن وقع هذا الحدث الكبير في عالم السياسة، ونقلت وسائل الإعلام وقائع إعدام حاكم العراق إلا وتحول اهتمام الناس إليه، وكثرت أقاويلهم فيه، وخصصت برامج إعلامية تحكي سيرة الزعيم المقتول، وعقدت مناظرات لأجله، وسودت صفحات في حياته وأعماله، واختلف الناس فيه اختلافاً كثيراً، وضاع العامة في خضم هذا الاختلاف.

فطائفة رأوا في الزعيم المقتول رمزاً من رموز الأمة، وعلماً من أعلامها، مدافعاً عن قضاياها، حريصاً على مصالحها، حامياً لبيضتها، وما قصده صهاينة اليهود والنصارى إلا لأنه أعظم خطر عليهم، وما تشفى فيه الفرس الصفويون وأذنابهم إلا لأنه كان السد المنيع دون مشاريعهم التوسعية، ويرى هذا الفريق من الناس أن إعدامه هو إعدام للنظام العربي برمته، وهو رسالة لكل من يقف حائلاً دون المشاريع الصهيونية أو المشاريع الباطنية الصفوية بأنه سيلقى نفس المصير، وبالغ كثير منهم فجعلوه شهيد الأمة الذي لن يتوحد العراق بعده، ولا خير في الأمة عقبه، وعدوه في مصاف قادة الإسلام العظماء، وتألى بعضهم على الله تعالى فحكم له بالشهادة والجنة.

وفي كلام هؤلاء حق وباطل، والأمة العاجزة المظلومة تتعلق بأي رمز تراه قد تحدى أعداء الأمة في العلن، ولو كان فيه حيدة عن منهجها ورسالتها، وفي زمن الذل تتعلق القلوب بمن فيهم عزة، وحال انتشار الخوف والجبن يحب الناس الشجاع فيهم، وتعميهم شجاعته وعزته عما فيه من خلل وقصور.

في مقابل هذا الفريق فريق آخر لم يروا في حاكم العراق إلا خائناً لأمته، ممالئاً لأعدائها، سفاكاً لدمائها، غشوماً في حكمها، قوته على شعبه لا على أعدائه، وسياساته الخرقاء، وتصرفاته الرعناء جرت المنطقة إلى ويلات لا عافية منها، ووطنت للصليبيين والصهاينة مواضع أقدام من العسير زحزحتها، ويعزو هذا الفريق من الناس كل بلاء الأمة إليه، ويجزمون بأنه الصفحة السوداء الوحيدة في بلاد الرافدين، ولا يرون له حسنة واحدة.

ويعدون تغيره في آخر فترة حكمه، واتجاهه لبناء المساجد، وتوسيع الدعوة إلى الله تعالى، والعناية بالقرآن وحفظه، يعدون ذلك انتهازية لجمع الناس عليه بعد ضجرهم من الحصار، ومساومة منه للغرب، واستخداماً منه للدين سلاحاً يهددهم به، ويرون أن ثباته في محاكمته، واصطحابه لمصحفه، ومحافظته على الصلاة في سجنه، ما هو إلا عمل البائس اليائس الذي فقد كل شيء فركن إلى الدين ليخدع الناس، ويكسب تعاطفهم، وتألى بعضهم على الله تعالى فزعموا أن الله تعالى لا يغفر له، وأن جهنم مأواه، وأن نطقه لشهادة الحق قبل موته لا ينفعه، وأن إيمانه كإيمان فرعون حال غرغرته.

وكما أن في حكم الفريق الأول حق وباطل ففي ما حكاه هؤلاء حق وباطل، وبين هذين الرأيين المتباينين أراء أخرى كثيرة مشرقة ومغربة، يضيع كثير من الحق في ثناياها، ويضرب الباطل أوتاده فيها.

والذي ينبغي أن يعلمه كل مسلم أن الله تعالى لا يطالب عامة الناس بالحكم على عباده ومآلاتهم؛ لأن الحكم فيهم إلى الله تعالى، وليسوا مكلفين بالخوض فيما لا يعلمونه من أحوال الرجال؛ فمن تكلم فيهم وجب ألا يتكلم إلا بعلم وعدل، وأن يتحرى الحق فيما يقول ولو كان ثقيل الوطأة على نفسه، وأن يخلص في حكمه وقوله لله تعالى، لا يبتغي بذلك عرضاً من الدنيا، ولا يريد نصر طائفة أو حزب، أو النكاية والشماتة بآخرين، واضعاً نصب عينيه قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة:8] وقوله سبحانه: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) [الأنعام: 152].

لقد مرت بحاكم العراق أطوار وأحوال جعلت الناس يختلفون فيه، ويحتارون في أمره، فهو ربان حزب البعث الكافر بالله تعالى، المؤمن بالعروبة، وهو فارضه على أفراد شعبه، وما بلغ الحكم إلا على سيل من الدماء، وأكوام من الجثث، ثم لما حكم الناس أمعن في ظلمهم، وأسكت أصواتهم، وسار سيرة فرعون (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) [غافر: 29]، وكانت جريمته الشنعاء بخيانته لجيرانه، واجتياح بلادهم، واستحلال دمائهم ونسائهم، مما أوجد المعاذير للدول المحتلة أن تضع أقدامها، وتنصب قواعدها في منطقة حرمت منها.

فجرى عليه ما جرى من الحرب والحصار، فتغير عقب ذلك وقوَّى الدين وأهله، والله تعالى وحده أعلم بنيته، وليس للناس إلا الحكم على ظاهره، ثم ازداد تمسكه بدينه عقب أسره، فما فارقه مصحفه بشهادة أعدائه قبل أصحابه، وظهر اعتزازه بدينه أثناء محاكمته حتى أحرج قضاة الزور بثباته وعزته، ثم كانت الخاتمه الحسنة برباطة جأشه والحبل على رقبته، ونطقه بالشهادتين قبل شنقه "ومن كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة".

ولما قتل أسامة رضي الله عنه رجلاً من المشركين بعد نطقه للشهادتين أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فزعم أسامة أنه إنما قالها خوفاً من السيف، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لأسامة رضي الله عنه: "أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا" رواه مسلم.

فنرجو لحاكم العراق بنطقه للشهادتين المغفرة والجنة، ولا نجزم له بذلك، فلا يعلم ما في قلبه إلا الله تعالى، ولا نجعل ماضيه الأسود حائلاً بينه وبين قبول التوبة؛ فقد قبل الله تعالى توبة من هم أكثر كفراً وإجراماً منه، فنقلهم الله تعالى بتوبتهم من كفار فجرة إلى مؤمنين بررة، كبعض مسلمة الفتح من قريش الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاولوا قتله، وحاربوه وعذبوا أصحابه.

وقبل -سبحانه- توبة من قتل مئة نفس وهاجر تائباً إلى قرية مسلمة، فقبضت روحه قبل بلوغها، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فوسعته رحمة الله تعالى، فتولته ملائكة الرحمة.

وغفر الله تعالى لرجل أسرف على نفسه، فأمر أن يحرق جسده بعد موته، وأن ينثر رماده فتذروه الرياح، فلا يجمعه الله تعالى، فشك في قدرته سبحانه على جمعه، ولكن ما حمله على ما فعل إلا خوفه منه عز وجل، فغلب خوفه من الله تعالى شكه في قدرته سبحانه فغفر الله تعالى له: "فقال الله تعالى له لما جمعه: ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك يا رب، فغفر له بذلك" رواه الشيخان.

ولعل ما أصاب حاكم العراق من عظيم العقوبة الابتلاء بخسارة عرشه، وقتل بنيه وبنيهم ، وتشريد أسرته، وسجنه ومحاكمته وقتله، مع توبته ونطقه للشهادتين.. لعل ذلك مكفراً لما مضى من ذنوبه.

وأما حقوق العباد ودماؤهم، وظلمه لهم فالحكم فيها للعلي الكبير، وسيقف هو وخصومه يوم القيامة أمام حكم عدل للقصاص، واستيفاء الحقوق، ولا يظلم ربك أحدا.

والواجب على المسلم الذي شاهد هذا المشهد أن يفرح بتوبة جبار العراق حين تاب، وبنطقه للشهادتين، ولا يكون كرهه لطغيانه وأفعاله السيئة مانعاً له من الفرح بتوبته، أو يتمنى أنه مات على الكفر أو ختم له بخاتمة السوء؛ فإن من لوازم ذلك محبة الكفر في بعض المواضع، وإرادته من بعض الأشخاص، نعوذ بالله تعالى من الجهل والهوى.

وقد فرح النبي صلى الله عليه وسلم بتوبة مسلمة الفتح رغم أذاهم له ولأصحابه رضي الله عنهم، وفرح -عليه الصلاة والسلام- بتوبة الغلام اليهودي الذي زاره وهو في سياقة الموت فدعاه للإسلام فأسلم فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "الحمد لله الذي أنقذه من النار" رواه البخاري.

وهكذا يجب على المؤمن أن يفرح بإيمان الكافر، وتوبة العاصي، ويتمنى أن يختم بالحسنى لكل الناس. كما يجب عليه أن يتوخى العدل في أحكامه وأقواله، ويتجرد من الهوى في حكمه، ولا يحكم إلا بعلم، ولا يقول في الرجال بالظن؛ فإن الله تعالى سائله يوم القيامة عن أقواله وأفعاله (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [قّ:18] (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) [الانفطار:10-12].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ....

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وخذوا مما ترون من أحداث عبرا؛ فإن السعيد من اعتبر بغيره.

أيها المسلمون: في ضجة هذا الحدث الكبير بمقتل زعيم من زعماء العرب كانت له صولات وجولات يهتم كثير من الناس بذات الحدث، وينشغلون بمجرياته وتفاصيله عن دروسه وعبره، فيكون الحدث -مع أهميته- عديم الفائدة بالنسبة لهم، وكم مرت بالناس من أحداث قلّ في الناس من استفاد منها، بسبب الجهل والغفلة، وكثرة الشهوات والملهيات.

ودروس هذا الحدث الجديد كثيرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد؛ فمما يستفاد منه: أن عاقبة الظلم وخيمة، ونهاية الظالمين أليمة، ولعل ما أصاب حاكم العراق عقوبة له على ظلمه أيام سطوته وجبروته، ولربما رفع مظلوم يديه إلى ربه في حبيب قتله أزلامه فاستجاب الله تعالى دعوته، فجرى عليه ما جرى.

ولما نكب البرامكة في دولة الرشيد العباسي قال جعفر بن يحيى لأبيه -وهم في القيود والحبس-: يا أبت، بعد الأمر والنهي والأموال العظيمة أصارنا الدهر إلى القيود ولبس الصوف والحبس؟ فقال له أبوه: يا بني، دعوة مظلوم سرت بليل غفلنا عنها ولم يغفل الله تعالى عنها.

وفي التاريخ القديم والمعاصر عبر في مصارع الظالمين.. تأملوا مصرع فرعون وأبي جهل وأُبَيِّ بن خلف وأبي طاهر القرمطي، وفي التاريخ المعاصر ماذا كانت نهاية هتلر النازي، وموسوليني الفاشي، وشاه إيران، وطاغية رومانيا تشاوشسكوا، وطاغية الصرب ميليسوفتش، وغيرهم كثير، لقد طغوا وتجبروا وظلموا ثم أذاقهم الله تعالى الذل في الدنيا.

لقد زالوا كأن لم يكونوا، ويا ويلهم من مظالم تنتظرهم؛ فحري بكل من ولاه الله تعالى ولاية كبيرة أو صغيرة ألا يغتر بسلطته وقوته، وأن يتوخى العدل في رعيته، وأن يأخذ من سير الظالمين ومصارعهم أعظم العظة والعبرة.

وعلى كل عاقل ألا يغتر بالدنيا وزهرتها؛ فإن تقلباتها كثيرة، وكم من عزيز ذاق ذلها! وكم من غني أوجعه فقرها! ولقد مرت أيام على حاكم العراق ظهر فيها مزهوا أمام الشاشات والجموع تحف بموكبه، وتطأ عقبه، وتهتف له، تمنى أثناءها كثير من الناس مكانته، وحلموا بأمواله وقصوره ورفاهيته، ولو علموا نهايته لما تمنى واحد منهم سلطانه، ولا غبطه على ما هو فيه من النعيم؛ لعلمه بالبؤس الذي بعده، ولا حسده على عز يعقبه ذل؛ وأي ذل.

وقد روى أنس رضي الله عنه فقال: "كانت ناقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسمى العضباء وكانت لا تُسْبَق، فجاء أعرابي على قعود له فسبقها فاشتد ذلك على المسلمين وقالوا: سبقت العضباء! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن حقاً على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه" رواه البخاري.

ثم تأملوا إلى حكمة الله تعالى فيما يقدره على العباد مما يظنونه شراً لهم، وفيه من الخير ما لا يعلمونه، فإنه يغلب على ظننا أن حاكم العراق لما اكتملت له الدنيا كان بعيداً عن الله تعالى، محارباً لأوليائه، ممالئاً لأعدائه، قد أسكرته السلطة عن تذكر ربه سبحانه وتعالى، وأغفله الملك عن معرفة دينه، ولو خُيِّر وقتها أن يموت على حاله أو يفقد ملكه لاختار الموت.

ولكن الله تعالى قضى عليه ما لم يختر فكان خيراً له؛ إذ كان فيما حاق به من عقوبات وابتلاءات مع الإمداد له في عمره، وعدم تمكن أعدائه من قتله في أول أمره فرصة لمراجعة نفسه، وتفقد قلبه؛ فتغير حاله في الهزيمة والحصار، ثم في الأسر والذل عن حاله في الملك والعز.

وهكذا فإن العبد قد يصاب في نفسه أو ولده أو ماله فيكون مصابه سبباً ليقظته من رقدته، وتنبيهه حال غفلته، فيعود إلى الله تعالى فيختم له بخير عمله، وقد كره من قبل قدر الله تعالى عليه، وقضاءه فيه، فكان ما اختاره الله تعالى له خيرا مما يختار هو لنفسه، فاعرفوا حكمة الله تعالى في عقوباته وابتلاءاته، وتأملوا رحمته سبحانه ولطفه بعباده؛ إذ يجري لهم الخير العظيم من أبواب يظنها العباد شراً محضاً، وربنا جل جلاله لا يخلق شراً محضاً، والخير بيديه، والشر ليس إليه، سبحانه وبحمده، وتبارك اسمه، وتعالى جده، ولا إله غيره.

وصلوا وسلموا على نبيكم...
 

 

 

  


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي