العملُ بالقرآن، وذلك بتحليل حلالِه، وتحريم حرامِه، والوقوفِ عند نهيه، والامتثال بأمره، والعملِ بمحكمه، والإيمانِ بمتشابهه، وإقامةِ حدوده وحروفه، ولقد ورد نهيٌ شديدٌ فيمَنْ آتاه اللهُ القرآنَ؛ ثمَّ لم يعمل به. وإجلالُ القرآنِ وتعظيمُه، فيستشعر أنَّه يُناجي الله -تعالى-، وأنَّ الله يُناجيه...
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد: لكي تكون تلاوةُ القرآن نافعةً تُعطي ثمارها من التدبر والتأثر والاستقامة، وتُؤدَّى كما كان يُؤدِّيها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابتُه -رضي الله عنهم-؛ فلا بدَّ من مُلاحظة آدابِها وأحكامِها، والالتزامِ بذلك قُبيل التلاوةِ وأثنائها.
عباد الله: ومن أهم آدابِ التلاوةِ وأحكامِها: 1- إِخلاصُ النيةِ لله -تعالى-؛ فينبغي أنْ يكون قارِئُ القرآن الكريم مُخْلِصاً في نيَّته، مُتجرِّداً من كلِّ غرضٍ دُنيوي، يبتغي الأجرَ والثَّوابَ من المولى -تبارك وتعالى-، وأنْ يحذر الرِّياءَ والإعجابَ بالنَّفْس؛ لأنَّ التِّلاوة أحدُ أفعالِ المكلَّفِ التي يُشترط لِصحَّتها وقبولِها عند الله -تعالى- النِّيَّةُ الخالصة لوجهه الكريم.
2- العملُ بالقرآن، وذلك بتحليل حلالِه، وتحريم حرامِه، والوقوفِ عند نهيه، والامتثال بأمره، والعملِ بمحكمه، والإيمانِ بمتشابهه، وإقامةِ حدوده وحروفه، ولقد ورد نهيٌ شديدٌ فيمَنْ آتاه اللهُ القرآنَ؛ ثمَّ لم يعمل به.
3- إجلالُ القرآنِ وتعظيمُه؛ يجدر بقارئ القرآن أنْ يُراعيَ أثناء تلاوته لكتاب الله ما يتناسب وعظمةَ القرآن وجلاله، فيستشعر أنَّه يُناجي الله -تعالى-، وأنَّ الله يُناجيه، ويجتنب كلَّ ما من شأنه أن يُخِلَّ بأدب المناجاة؛ كالضَّحك، والحديث، والعبثِ باليد، والنَّظرِ إلى ما يُلهي، أو لا يجوز النَّظرُ إليه، ونحو ذلك.
4- تِلاوةُ القرآنِ على طهارة؛ يُستحب للقارئ أنْ يقرأ القرآنَ وهو على وضوء وطهارة؛ إجلالاً للقرآن، قال النَّووي -رحمه الله-: "فإنْ قرأ مُحْدِثاً جاز ذلك بإجماع المسلمين، والأحاديثُ فيه كثيرةٌ معروفة".
5- اخْتِيارُ الوقتِ المُناسب؛ تلاوة القرآن جائزة في كلِّ الأوقات، ولا تُكره في شيء منها بسبب ذلك الوقت نفسه، وهناك أوقاتٌ لها أولويَّة يتجلَّى الله تعالى فيها على عباده، وتنزل فيها فُيوضات رحمته، وأفضلُها ما كان في الصَّلاة، ثمَّ ما كان في الثُّلث الأخير من اللَّيل وقت السَّحر، ثمَّ قراءة اللَّيل، ثمَّ قراءة الفجر، ثمَّ قراءة الصُّبح، ثمَّ باقي أوقات النَّهار.
6- اخْتِيارُ المكانِ المُناسب؛ يُستحب أنْ تكون التِّلاوة في مكانٍ نظيفٍ مُختار، ويُستحب أنْ تكون التلاوة في المسجد؛ لكونه جامعاً للنَّظافة وشرف البقعة، وحبَّذا لو خَصَّص المسلمُ رُكْناً في بيته يفرِّغه من الموانع والشَّواغل والتَّشويش، وأمَّا التِّلاوةُ في الطَّريق، وعلى الرَّاحلة، ونحو ذلك، فالصَّحيح أنَّها جائزة، غير مكروهة إذا لم ينشغل القارئ عن قراءته.
7- حُسْنُ الجِلْسَة واستقبالُ القِبلة؛ لا بدَّ للقارئ من جِلسةٍ مُناسِبةٍ وهَيئةٍ صالحة تَظْهر فيها عبوديَّتُه لله، ويبرز فيها تذلُّله وخضوعه؛ ليكون ذلك أعونَ على الانتفاع بالتِّلاوة، مُستقبلاً القبلة، قال النَّووي -رحمه الله-: "وهذا هو الأكمل، ولو قرأ قائماً، أو مضطجعاً، أو في فراشه، أو غير ذلك من الأحوال جاز، وله أجرٌ، ولكن دون الأوَّل".
8- استحبابُ تنظيفِ الفَمِ بالسِّواك؛ يُستحب للقارئ أن ينظِّف فاه بالسِّواك؛ تأدُّباً مع كلام الله وإجلالاً له، وتطهيراً لفمه، وإرضاءً لربِّه، ولأنَّ التِّلاوةَ عِبادةٌ لسانيَّة؛ فتنظيف الفم وتطييبه عند ذلك أدب حسن.
9- الاستعاذةُ عند افتتاحِ التِّلاوة؛ يُسَنُّ للقارئ الاستعاذة قبل التِّلاوة؛ امتثالاً لقوله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)[النحل: 98]، وهو أمرُ ندبٍ وليس بواجب. والاستعاذة ليست آيةً من القرآن بالإجماع. والحكمةُ منها ظاهرة؛ وهي ألاَّ يُلَبِّسَ الشَّيطان على القارئ قراءَتَه ويخلط عليه، ويمنعه من التَّدبُّر والتَّفكر.
10- البَسْملة، ومعناها؛ بدأتُ بعونِ اللهِ وتوفيقِه وبركتِه، وهذا تعليم من الله تعالى لعباده ليذكروا اسم الله -تعالى- عند افتتاح القراءة وغيرها؛ حتَّى يكون الافتتاحُ ببركة اسمِ الله، فالإتيان بالبسملة من باب التبرُّك والتَّيمُّن بِذِكْرِ اسم الله.
11- حَصْرُ الفِكرِ أثناءَ التِّلاوة، وتفريغُ النَّفْسِ من شواغلها؛ لأنَّ المُلهيات تُلِحُّ على النَّفْس وتَعْرِض لها. وينبغي أنْ يُحْصَرَ الفِكْرُ على القرآن وحده، ويُمْنَعَ من الشُّرود والتَّجوال في مُغْرِيات الحياة الدُّنيا، وسيخرج بزادٍ عظيم من التِّلاوة.
12- استحبابُ التَّرتيلِ وكراهيةُ السُّرعةِ المُفرِطة؛ يُستحب ترتيل القرآن، قال تعالى: (وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً)[المزمل: 4] أي: بَيِّنِ القرآنَ إذا قرأته تبييناً، وتَرَسَّلْ فيه ترسُّلاً. والتَّبيين يحصل بعدم الاستعجال في القراءة، وذلك بتوفيتِها حقَّها. والتَّرتيلُ أقربُ إلى الإجلال والتَّقدير، وأشدُّ تأثيراً في القلوب، فكيف وقد أُمِرَ به وأُكِّدَ عليه في الشَّرع، فَفِعله التزامٌ بِهَدْي النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-.
13- استحبابُ تحسينِ الصَّوتِ بالقرآن؛ لقول النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "لَمْ يَأذَنِ اللهُ لِشَيْءٍ ما أَذِنَ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالقُرآنِ"(رواه البخاري) أي: ما اسْتَمَعَ لشيء، كاستماعه لقراءة نبيٍّ يجهر بقراءته ويُحَسِّنها. وقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالقُرآنِ"(رواه البخاري)، وقال: "زَيِّنُوا القُرآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ"(صحيح، رواه أبو داود)، فيستحب تحسينُ الصَّوتِ بالقراءة، ما لم يخرج عن حدِّ القراءة بالتَّمطيط، فإنْ أفرطَ حتَّى زادَ حرفاً، أو أخفاه فهو حرام.
14- النَّهي عن القراءةِ بالألحان المُطَرِّبة؛ فالقرآن يُنزَّه ويُجَلُّ عن تلاوته بالأصوات والنَّغَمَات المُحْدَثة، المركَّبة على الأوزان، والأوضاعِ المُلْهِية وأصواتِ المزامير. وقد حذَّر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- من زمانٍ يأتي يتَّخذ النَّاسُ فيه القرآنَ للغِناءِ والمَزامير، فقال: "وَنَشْواً يَتَّخِذُونَ القُرآنَ مَزَامِيرَ، يُقَدِّمُونَ الرَّجُلَ لَيْسَ بِأَفْقَهِهِمْ وَلاَ أَعْلَمِهِمْ، مَا يُقَدِّمُونَهُ إِلاَّ لِيُغَنِّيَهُمْ"(صحيح، رواه أحمد).
وأسباب تحريم الألحان المُطرِّبة: تشبيهُ القرآنِ بمزمارِ الشيطان، وتنزيه القرآن عن مُحاولة تحريفه، والقرآنُ معجزٌ بِلَفظِه ونَظْمِه، والألحانُ تُغيِّرُه، وتُلهي عن تدبُّرِه.
15- وجوبُ تدبُّرِ القرآن؛ تدبُّر القرآن هو المقصود الأعظم والمطلوب الأهمُّ من التِّلاوة، وبه تنشرح الصُّدور، وتستنير القلوب. والإسراعُ في التِّلاوة يدلُّ على عدم الوقوف على المعنى بصورة كاملة، وبالشَّكل المطلوب؛ ومن أجل ذلك كانت القراءةُ بتمهُّل خطوةً نحو التَّدبُّر، ثمَّ العمل.
16- استحبابُ البكاءِ أثناءَ التِّلاوة؛ يُستحب للقارئ أن يبكي أثناء تلاوته للقرآن، فإنْ لم يكن بكاءٌ فَلْيتباكَ. والبكاءُ من خشية الله -تعالى- عند تلاوة آياته من صفات العارفين، وشعارِ عبادِ الله الصَّالحين، قال تعالى: (وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا)[الإسراء: 109] عَنْ عبدِ اللهِ بنِ الشِّخِّير -رضي الله عنه- قال: "أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يُصَلِّي وَلِجَوْفِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ (يَعْنِي) يَبْكِي"(صحيح رواه النسائي).
الحمد لله...
أيها المسلمون: ومن آدابِ تلاوةِ القرآن وأحكامِها: 17- استحبابُ اتِّصالِ القراءةِ وعدمِ قَطْعِها إلاَّ لعذرٍ عارضٍ مُعتبرٍ شرعاً؛ كالرَّد على السَّلام، أو تشميتِ العاطس، أو إجابةِ المؤذِّن إذا سمع النِّداء، أو حَمْدِ اللهِ عند العطاس، أو إمساكٍ عن القراءة إنْ حصل منه تثاؤب أثنائها. ولا يَقطع التِّلاوةَ لأجل أمور الدُّنيا تأدُّباً مع كلام الله. واجتنابُ الضَّحكِ واللَّغط والحديثِ خلال القراءة، إلاَّ كلام يُضطر إليه.
18- أنْ يُحْسِنَ الابتداءَ والوَقْفَ أثناءَ التِّلاوة؛ فإذا ابتدأ من وسط السُّورة يبتدأ من أوَّل الكلام المرتبط بعضه ببعض، وكذلك إذا وقف يقف على المرتبط، وعند انتهاء الكلام، ولا يتقيَّد -في الابتداء ولا في الوقف- بالأجزاء والأحزاب والأعشار؛ فإنَّ كثيراً منها في وسط الكلام المرتبط.
19- من السُّنَّة: الوقوفُ عندَ رؤوسِ الآيات؛ اقتداءً برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعن أمِّ سَلَمَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: "كان رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُقَطِّعُ قِرَاءَتَهُ آيَةً؛ آيَةً"(صحيح، رواه أبو داود)، فالوقوف على رؤوس الآي من كمال القراءة، ولو تلا بِضْعَ آياتٍ بنَفَسٍ واحد؛ صحَّ وجاز.
20- من السُّنَّة: أن يُسبِّحَ عند آيةِ التَّسبيح، ويتعوَّذ عند آيةِ العذاب، ويَسألَ عند آيةِ الرَّحمة، فهذا التسبيح والاستعاذة والسؤال مُسْتحبٌّ لكلِّ قارئ، سواء كان في الصَّلاة أم في خارجها، وهو مذهب جمهور أهل العلم.
21- من السُّنَّة: الإمساكُ عن القراءةِ عند غَلَبةِ النُّعاس؛ لحديث: "إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ، فَاسْتَعْجَمَ الْقُرْآنُ عَلَى لِسَانِهِ؛ فَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ فَلْيَضْطَجِعْ"(رواه مسلم)، وهو إرشادٌ لطيف تظهر فيه سماحة الإسلام، ويُسْرُ تكاليفِه.
22- من السُّنَّة: السُّجودُ عند المرورِ بآيةِ سجدة؛ اقتداءً بالنَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، سواءً كان الوقتُ وقتَ نهيٍ أم غيره؛ لأنَّ سجود التِّلاوة من ذوات الأسباب. ومَنِ استمع إلى قارئٍ، فقرأ آيةً فيها سجدة، فالمستحبُّ ألاَّ يسجدَ هذا المُستَمِعُ حتَّى يسجدَ القارئُ؛ لأنَّه بمثابة الإمام في هذا السُّجود.
23- القَدْر المُسْتحبُّ في خَتْمِ القرآن، وردتْ عدَّةُ أحاديثٍ في مدَّة ختم القرآن؛ فأقلُّ ذلك: ثلاثة أيَّام، وأوسطه: سبعة أيَّام، أو عشرة، وأكثره: أربعون يوماً. وقيل: في السَّنَة مرَّتين؛ لأنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- عَرَضَ على جبريلَ -عليه السلام- في السَّنَة التي قُبِضَ فيها مرَّتين. ولم يَثْبت أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قرأ القرآنَ كلَّه في ليلة، ولم يقرأه كذلك في أَقَلَّ من ثلاثٍ؛ لعدم الفِقه.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي