لَا تَعْجَبْ -أَيُّهَا الْأَبُ أَوْ يَا صَاحِبَ الرَّأْيِ الْأَوَّلِ فِي الْأُسْرَةِ- مِنْ هَذَا؛ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَدْ أَمَرَ بِالشُّورَى أَوْفَى النَّاسِ عَقْلًا، وَأَعْظَمَهُمْ رُشْدًا.. والِاسْتِشَارَةَ قُوَّةٌ لَا ضَعْفٌ، وَحِكْمَةٌ لَا طَيْشٌ، وَيَكْفِي لِلدِّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ أَكْثَرَ النَّاسِ اسْتِشَارَةً لِأَصْحَابِهِ...
الْخُطْبَةُ الْأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: هُنَالِكَ عَلَى قِمَّةِ الْأَخْلَاقِ الْعَالِيَةِ، وَآفَاقِ الشِّيَمِ السَّامِيَةِ؛ يَتَرَبَّعُ خُلُقٌ كَرِيمٌ وَسُلُوكٌ قَوِيمٌ يَدْعُو الْأُسْرَةَ إِلَى جَعْلِهِ قِيمَةً أُسَرِيَّةً لَا تُفَارِقُ الْبُيُوتَ فِي قَرَارَاتِهَا وَمَشَارِيعِهَا الْأُسَرِيَّةِ.
وَلِأَهَمِّيَّةِ هَذَا الْخُلُقِ فِي صَلَاحِ شُؤُونِ الْحَيَاةِ ذَكَرَهُ اللهُ -تَعَالَى- فِي الْقُرْآنِ، وَطَبَّقَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاقِعًا فِي حَيَاتِهِ الْأُسَرِيَّةِ، وَحَيَاتِهِ الْعَامَّةِ. وَهَذَا الْخُلُقُ هُوَ: الشُّورَى.
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الشُّورَى الْأُسَرِيَّةَ مَعْنَاهَا: اسْتِنْبَاطُ الْأُسْرَةِ الرَّأْيَ مِنْ غَيْرِهِ فِيمَا يَعْرِضُ لَهَا مِنْ مُشْكِلَاتٍ وَقَرَارَاتٍ وَمَشَارِيعَ تَتَعَلَّقُ بِالْأُسْرَةِ دَاخِلَ الْبَيْتِ وَخَارِجَهُ؛ وَذَلِكَ بِتَبَادُلِ الْآرَاءِ بَيْنَ أَفْرَادِهَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَبِدَّ أَحَدٌ بِالرَّأْيِ وَالْقَرَارِ دُونَ الْآخَرِينَ؛ سَوَاءً كَانَ أَبًا أَمْ أُمًّا أَمِ الِابْنَ أَمِ الْبِنْتَ.
إِنَّ الشُّورَى تَقُولُ لِوَلِيِّ أَمْرِ الْأُسْرَةِ: لَا بُدَّ عَلَيْكَ أَحْيَانًا أَنْ تَتَنَازَلَ عَنْ صَلَاحِيَّاتِكَ التَّسَلُّطِيَّةِ لِصَالِحِ التَّشَاوُرِ، وَأَخْذ رَأْيِ الْآخَرِينَ دَاخِلَ الْأُسْرَةِ، وَأَنْ تُؤْمِنَ أَنَّ رَأْيَكَ لَيْسَ هُوَ الْقَرَارَ الْأَوَّلَ وَالْأَخِيرَ فِي الْبَيْتِ، مَا دَامَ فِيهِ تَرَدُّدٌ أَوْ رَائِحَةُ خَطَأٍ، وَأَنَّ الْأُسْرَةَ يَجِبُ أَنْ تُقَامَ عَلَى أَسَاسِ الْمُشَارَكَةِ وَالْمُعَاوَنَةِ، وَأَنْ تُرَبَّى أَعْضَاؤُهَا عَلَى إِبْدَاءِ الرَّأْيِ وَعَدَمِ السُّكُوتِ عَلَى الْخَطَأِ.
وَلَا تَعْجَبْ -أَيُّهَا الْأَبُ أَوْ يَا صَاحِبَ الرَّأْيِ الْأَوَّلِ فِي الْأُسْرَةِ- مِنْ هَذَا؛ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَدْ أَمَرَ بِالشُّورَى أَوْفَى النَّاسِ عَقْلًا، وَأَعْظَمَهُمْ رُشْدًا، فَقَالَ لَهُ: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)[آل عمران: 159].
"وَالْحَقِيقَةُ الَّتِي تَخْفَى عَلَى الْكَثِيرِينَ: أَنَّ الِاسْتِشَارَةَ قُوَّةٌ لَا ضَعْفٌ، وَحِكْمَةٌ لَا طَيْشٌ.
وَيَكْفِي لِلدِّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ أَكْثَرَ النَّاسِ اسْتِشَارَةً لِأَصْحَابِهِ، وَهَلْ يَدَّعِي مُسْلِمٌ أَنَّهُ أَقْوَى مِنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِسًّا أَوْ مَعْنًى؟ بَلْ هَلْ يُتَصَوَّرُ أَنَّ مُسْلِمًا يَسِمُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالضَّعْفِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الْمُشَاوَرَةِ لِأَصْحَابِهِ؟ حَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ!!".
وَانْظُرُوا -يَا رَعَاكُمُ اللهُ- إِلَى سِيرَةِ رَسُولِ اللهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَكَيْفَ كَانَ يَبُثُّ رُوحَ الشُّورَى فِي أُسْرَتِهِ وَأُمَّتِهِ، وَيُرْشِدُهُمْ إِلَى هَذَا الطَّرِيقِ السَّدِيدِ بِفِعْلِهِ قَبْلَ قَوْلِهِ.
وَفِي يَوْمِ الْحُدَيْبِيَةِ -وَمَا أَدْرَاكُمْ مَا يَوْمُ الْحُدَيْبِيَةُ!- ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي تَجَلَّى فِيهِ رَأْيُ امْرَأَةٍ تَحْتَ مَظَلَّةِ الشُّورَى؛ فَكَانَ رَأْيُهَا هُوَ الرَّأْيُ الصَّائِبُ؛ فَإِنَّ رَسُول اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا أَتَمَّ إِبْرَامَ الصُّلْحِ مَعَ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَكَانَ مِنْ ضِمْنِ بُنُودِهِ: أَنْ يَرْجِعَ الْمُسْلِمُونَ هَذَا الْعَامَ، فَلَمَّا "فَرَغَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ: "قُومُوا فَانْحَرُوا"، فَوَاللهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ أَحَدٌ حَتَّى قَالَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ قَامَ فَدَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ؛ فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاس، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ اخْرُجْ، ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ؛ فَقَامَ فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ؛ نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا".
وَقَدْ شُرِعَتْ بَعْضُ الْأَحْكَامِ بِنَاءً عَلَى الشُّورَى، وَاتِّفَاقِ الْآرَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ؛ حَتَّى لَا تَحْصُلَ مَضَرَّةٌ؛ فَفِي الْإِرْضَاعِ قَالَ –تَعَالَى-: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى)[الطلاق: 6]. يَعْنِي: "تَشَاوَرُوا بَيْنَكُمْ عَلَى التَّرَاضِي فِي الْأُجْرَةِ".
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ الشُّورَى النَّاجِحَةَ دَاخِلَ الْأُسْرَةِ هِيَ الشُّورَى الَّتِي تُبْنَى عَلَى ضَوَابِطَ تَضْمَنُ نَجَاحَهَا، وَالْوُصُولَ إِلَى غَايَاتِهَا الْحَمِيدَةِ؛ فَمِنْ تِلْكَ الضَّوَابِطِ:
أَنْ يَكُونَ لَدَى رَبِّ الْأُسْرَةِ قَنَاعَةٌ بِفَائِدَةِ الشُّورَى، وَمَيْلٌ إِلَى الْإِصْغَاءِ إِلَى آرَاءِ الْآخَرِينَ، وَتَصَوَّرُوا –أَيُّهَا الْفُضَلَاءُ- رَجُلاً يَسْتَبِدُّ بِالرَّأْيِ دَاخِلَ الْبَيْتِ فِي كُلِّ قَرَارَاتِهِ، وَلَا يُصْغِي لِرَأْيِ زَوْجَتِهِ وَلَا أَبِيهِ وَلَا أُمِّهِ وَلَا أَوْلَادِهِ، كَيْفَ سَيَجْنِي عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى الْأُسْرَةِ!
وَمِنْ ضَوَابِطِ الشُّورَى النَّاجِحَةِ: أَنْ يَخْتَارَ الْوَقْتَ الْمُنَاسِبَ لِعَرْضِ الْقَضِيَّةِ وَاسْتِمَاعِ الْآرَاءِ عَنْهَا؛ فَلَيْسَ كُلُّ وَقْتٍ يَصْلُحُ لِسَمَاعِ الرَّأْيِ النَّاضِجِ الصَّافِي؛ فَالْوَقْتُ الضَّيِّقُ، وَالْوَقْتُ الَّذِي تَتَكَدَّرُ فِيهِ الْأَذْهَانُ أَوْ يَنْشَغِلُ فِيهِ الْبَالُ لَيْسَ وَقْتًا مُلَائِمًا لِعَرْضِ مَوْضُوعِ الشُّورَى.
وَمِنْ ضَوَابِطِ الشُّورَى النَّاجِحَةِ: أَنْ يَكُونَ لَدَى جَمِيعِ أَفْرَادِ الْأُسْرَةِ الْمُسَتْشَارِينِ اسْتِعْدَادٌ لِتَقَبُّلِ الرَّأْيِ الْمُتَّفِقِ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْحُضُورِ، أَوْ لِلرَّأْيِ الَّذِي يَبْدُو أَكْثَرَ صَوَابًا مِنْ غَيْرِهِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: هُنَاكَ مَوْضُوعَاتٌ كَثِيرَةٌ تَحْتَاجُونَ أَنْ تُدِيرُوا الشُّورَى دَاخِلَ أُسَرِكُمْ حَوْلَهَا؛ وَمِنْ تِلْكَ الْمَوْضُوعَاتِ: بِنَاءُ بَيْتٍ أَوْ شِرَاؤُهُ، وَالدُّخُولُ فِي وَظِيفَةٍ أَوْ تِجَارَةٍ أَوْ دِرَاسَةٍ أَوْ سَفَرٍ، وَمِنَ الْمَوْضُوعَاتِ الْمُهِمَّةِ: الزَّوَاجُ؛ زَوَاجُ الْأَبْنَاءِ وَالْبَنَاتِ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ أَخْذِ رَأْيِ الِابْنِ وَالْبِنْتِ وَالْأَبِ وَالْأُمِّ؛ فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ خَطَبَ إِلَى نَسِيبٍ لَهُ ابْنَتَهُ قَالَ: فَكَانَ هَوَى أُمِّ الْمَرْأَةِ فِي ابْنِ عُمَرَ، وَكَانَ هَوَى أَبِيهَا فِي يَتِيمٍ لَهُ، قَالَ: فَزَوَّجَهَا الْأَبُ يَتِيمَهُ ذَلِكَ؛ فَجَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَمِّرُوا النِّسَاءَ فِي بَنَاتِهِنَّ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ).
وعَنْ عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ الْكِنْدِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أَشِيرُوا عَلَى النِّسَاءِ فِي أَنْفُسِهِنَّ"، فَقَالُوا: إِنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِي يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الثَّيِّبُ تُعْرِبُ بِلِسَانِهَا عَنْ نَفْسِهَا، وَالْبِكْرُ رِضَاهَا صَمْتُهَا"(رَوَاهُ أَحْمَدُ).
فَاللهَ اللهَ -عِبَادَ اللهِ- فِي سُلُوكِ سَبِيلِ الشُّورَى فِي بُيُوتِكُمْ، مَعَ آبَائِكُمْ وَأُمَّهَاتِكُمْ، وَمَعَ إِخْوَانِكُمْ وَأَخَوَاتِكُمْ، وَمَعَ زَوْجَاتِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ؛ فَمَا خَابَ مَنِ اسْتَخَارَ، وَلَا نَدِمَ مَنِ اسْتَشَارَ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ حُضُورَ الشُّورَى الْعَائِلِيَّةِ دَاخِلَ الْأُسْرَةِ لَهُ آثَارٌ طَيِّبَةٌ، وَثَمَرَاتٌ حَسَنَةٌ؛ فَمِنْ تِلْكَ الْآثَارِ الطَّيِّبَةِ لِلشُّورَى الْعَائِلِيَّةِ:
أَنَّ الشُّورَى تَعْمَلُ عَلَى تَمَاسُكِ الْأُسْرَةِ، وَتَنْمِيَةِ هَذِهِ الْوَاشِجَةِ، بِحَيْثُ يَشْعُرُ الْجَمِيعُ أَنَّهُمْ كُتْلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَأَنَّ نَوَازِلَ الْأُمُورِ تَهُمُّ جَمِيعَهُمْ وَلَا تَخُصُّ بَعْضَهُمْ.
وَمِنْ آثَارِ الشُّورَى الْعَائِلِيَّةِ: بِنَاءُ شَخْصِيَّةِ أَفْرَادِهَا، وَتَنْمِيَةُ نُضُوجِهِمُ الْعَقْلِيِّ، وَتَفْتِيقُ مَوَاهِبِهِمُ التَّفْكِيرِيَّةِ، وَإِدْرَاكُ كُلِّ شَخْصٍ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ مَسْؤُولٌ فِي هَذِهِ الْأُسْرَةِ، وَبِأَنَّهُ عُضْوٌ مُؤَثِّرٌ فِيهَا، وَلَهُ رَأْيٌ يَنْبَغِي أَنْ يُبْدِيَهُ وَيُصْغَى إِلَيْهِ فِيهِ، وَتَرْبِيَةُ كُلِّ عُضْوٍ فِي الْأُسْرَةِ عَلَى الرُّوحِ الْجَمَاعِيَّةِ، وَعَدَمُ الِاسْتِبْدَادِ بِالْآرَاءِ، وَتَأْهِيلُهُمْ لِلْمُسْتَقْبَلِ لِيُوَاجِهُوا الْحَيَاةَ بِثِقَةٍ أَكْبَرَ، وَيَتَعَلَّمُوا كَيْفَ يُخَطِّطُونَ، وَكَيْفَ يُوَاجِهُونَ مَشَاكِلَهُمْ، بَلْ وَيَمْتَدُّ أَثَرُهَا إِلَى مُسْتَقْبَلِ تَرْبِيَتِهِمْ لِأَبْنَائِهِمْ.
وَمِنْ آثَارِ الشُّورَى الْعَائِلِيَّةِ: الْقُرْبُ مِنَ الْحَقِّ، وَالْبُعْدُ مِنَ الْخَطَأِ، أَوْ تَقْلِيلُ نِسْبَتِهِ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ: "مَا تَشَاوَرَ قَوْمٌ قَطُّ إِلَّا هُدُوا إِلَى أَرْشَدِ أُمُورِهِمْ".
كَمَا أَنَّ الْخَطَأَ إِنْ حَصَلَ فِي الرَّأْيِ الْمُخْتَارِ يَكُونُ الْجَمِيعُ مَعْذُورِينَ، وَلَا يَتَوَجَّهُ اللَّوْمُ إِلَى أَحَدٍ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-: "مِنْ فَوَائِدِ الْمُشَاوَرَةِ: أَنَّ الْمُشَاوِرَ إِذَا لَمْ يَنْجَحْ أَمْرُهُ عُلِمَ أَنَّ امْتِنَاعَ النَّجَاحِ مَحْضُ قَدَرٍ فَلَمْ يَلُمْ نَفْسَهُ".
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
إِنَّ الْمُشَاوِرَ إِمَّا صَائِبٌ غَرَضًا *** أَوْ مُخْطِئٌ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إِلَى الْخَطَلِ
وَقَالَ الْآخَرُ:
وَأَكْثِرْ مِنَ الشُّورَى فَإِنَّكَ إِنْ تُصِبْ *** تَجِدْ مَادِحًا أَوْ تُخْطِئِ الرَّأْيَ تُعْذَرِ
فَالشُّورَى الشُّورَى -أَيُّهَا الْآبَاءُ- يَا أَرْبَابَ الْأُسَرِ؛ أَشِيعُوهَا فِي أُسَرِكُمْ، وَنَمُّوا ثَقَافَتَهَا فِي بُيُوتِكُمْ، وَسَتُخْبِرُكُمُ الْأَيَّامُ وَالْآثَارُ الْحَسَنَةُ بِحُسْنِ صَنِيعِكُمْ، وَاسْتِقَامَةِ طَرِيقِكُمْ.
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُلْهِمَنَا السَّدَادَ فِي آرَائِنَا، وَالْخِيَارَ فِي أُمُورِنَا، إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى خَيْرِ الْبَرِيَّةِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي