هل فقدنا المساجد وروحانيتها

خالد بن عبدالله الشايع
عناصر الخطبة
  1. أهمية المسجد في حياة المسلم .
  2. المسجد ودوره في عهد النبوة .
  3. وجوب صيانة المساجد وتعظيمها .
  4. أثر إغلاق المساجد على المصلين .
  5. دروس تعلمناها من الجائحة. .

اقتباس

في فترة المنع ذاق الناس عظيم فقد المساجد, وما كانت تضفي عليهم من السكينة والإيمان؛ كيف اختلفت صلواتهم؟! كيف ذهب خشوعهم؟! كيف قلت أذكارهم ونوافلهم إلا من رحم الله؟! لقد تبين لبعض الناس فضل أئمة المساجد ومؤذنيها وما كانوا يعانون في ذلك, حتى قال لي بعض من الناس: "لقد كنا نلوم الأئمة والمؤذنين في بعض المسائل...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي عمَّنا بالنعم وعافانا من السقم، فله الحمد كله, وإليه يُرجع الأمر كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليما، أمَّا بعد:

فيا أيها الناس: لقد جعل الله للناس في الأرض بيوتا تطمئن نفوسهم فيها؛ يتفرغون فيها للطاعة, ولفضلها نسبها لنفسه -جل وعلا- تشريفا لها وتكريما, إنها المساجد بيوت الله, التي أخبر المصطفى -صلى الله عليه وسلم- عنها أنها أحب البلاد إلى الله, يرتبط بها المسلم كل يوم خمس مرات, على وجه الوجوب, وتحن لها قلوب أهل الإيمان, بل البعض قلبه معلق بها, لا يخرج منه إلا ويفكر متى يعود إليه, أصبح المسجد هو أنسه وراحته وطمأنينته, يتفرغ فيه لخدمة ربه -جل وعلا- بعيدا عن الضوضاء, وأشغال الدنيا وشهواتها .

معاشر المسلمين: أول عمل عمله النبي -صلى الله عليه وسلم- لما دخل المدينة هو بناء المسجد, ولما دخل قباء أول عمل عمله بنى مسجد قباء, وبنى مسجده بالمدينة ثم بنى حوله حجرات نسائه, ثم بنى الصحابة بيوتهم حول المسجد, فكان المسجد هو الجامع لهم ومكان اجتماعهم, بل كان كل شيء في حياتهم, فمنه يشع العلم والإيمان؛ فيتعلم الناس دينهم وأخلاقهم, ويغسلون قلوبهم من آثار الدنيا وشهواتها.

بل كان المسجد في زمن النبوة هو المحكمة التي يقضى بين الناس فيها, وهو الديوان الذي يُستقبل فيه الوفود, بل كان مأوى كل حيران ومبتلى, فمن تخاصم مع زوجته ذهب للمسجد, ومن كثرت ديونه وهمومه ذهب للمسجد, ولأهميتها في المجتمع أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ببنائها في الأحياء السكنية؛ ليجتمع فيها الناس, وتجتمع أفئدتهم, وتقوى روابطهم, أخرج أبو داود وغيره في سننه من حديث عائشة قالت: "أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببناء المساجد في الدور, وأن تنظف وتطيب", والحديث مرسل وتشهد له الأحاديث الأخرى .

عباد الله: لقد شرف الله المساجد, فأمر بتنظيفها وصيانتها, حتى قال أهل العلم: "إنها تصان مما تصان منه عين الإنسان", فنهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الروائح الكريهة فيها, وأمر بتطييبها, ونهى عن البصاق فيها, والبيع والشراء, وعن نشد الضالة, أو أن تتخذ طرقا, وكان يستقبل الوفود والوجهاء فيها, ولربما ربط الأسير فيها ليسمع ويرى, وغالبا ما يسلم بعد ذلك .

قال الله -جل ذكره-: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ)[النور: 36]؛ من تأمل هذه الآية خصوصا وقت هذه الجائحة, علم معنى أذن الله أن ترفع واقعيا, فقد مضى علينا قرابة شهرين ونصف ولم يؤذن لنا في المساجد؛ حتى بكت القلوب للفقد والحرمان, مع أن من حُرم هذا وقد كان من أهل الصلاة قبل فأجره تام بإذن الله, كما أن من حرم وكان هاجرا عن المسجد من قبل فوزره مستمر والعياذ بالله!.

في فترة المنع ذاق الناس عظيم فقد المساجد, وما كانت تضفي عليهم من السكينة والإيمان؛ كيف اختلفت صلواتهم؟! كيف ذهب خشوعهم؟! كيف قلت أذكارهم ونوافلهم إلا من رحم الله؟! لقد تبين لبعض الناس  فضل أئمة المساجد ومؤذنيها وما كانوا يعانون في ذلك, حتى قال لي بعض من الناس: "لقد كنا نلوم الأئمة والمؤذنين في بعض المسائل, وفي فترة المنع تبين لنا أننا مخطئون, وأن لهم دورا لم نكن نعلمه من قبل, وأنهم كانوا يعانون, ونحن ننتقد ولا نشعر"! .

عباد الله: إن المحروم حق الحرمان ذاك الذي حرم نفسه من بيوت الله بغير عذر وقد فتحت أبوابها للمصلين, فقد أجر الذهاب للمساجد, وأجر المكث فيها, واستغفار الملائكة له, وأجر الرباط في سبيله, ومن لُقِيا إخوانه في الله وجيرانه, والسلام عليهم, ودعائهم له, حتى عُدّ من المنافقين شرعا.

اللهم فلا تحرمنا من بيوتك ولا تحجزنا عن طاعتك, أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنَّه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ وَاِمْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ؛ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشَهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدَهُ وَرَسُولُهُ، وَخَلِيلَهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً.

أما بعد: فيا أيها الناس: أنبه على أمور مهمة على عجالة, منها: أننا  نخرج من هذه الجائحة -بإذن الله- وقد استفدنا منها دروسا تغير في حياتنا للأصلح؛ في عبادتنا, وفي مخالفتنا, وفي تعاملنا مع الناس, وفي مصروفاتنا, وفي خروجنا ودخولنا, وكثير من الأمور التي ليس لها داع ونحن نضعها في السابق من المهمات.

لقد تعلمنا أن كثيرا من الأمور في السابق مما كنا نفعلها على الدوام أن تركها والعيش بدونها أمر طبيعي, تعلمنا ترتيب الأولويات, تعلمنا النظافة التي كان ديننا يأمرنا بها من قبل الجائحة, وتعلمنا ترك التجمعات والاستراحات والأعراس التي كانت تنفق فيها الأموال, ولا طائل منها .

ومن أهم ما يجب علينا تعلمه, أن الخلق كله لله, وهو المتصرف فيه, (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)[الأنبياء: 23].

وتعلمنا أن البعد عن الله, ومعصيته, تورث العقوبة والسلب لكثير من النعم؛ كما هو حاصل لنا في هذه الجائحة, فكم سلبنا من نعم كنا نتقلب فيها صباحا ومساء ولا نشعر بها حتى فقدناها!, ولنعلم جميع أنه ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة, سأل أحد العلماء بعض تلاميذه: "لو أنك مررت في سفرك براعي غنم معه كلب, كلما أردت المرور نبح عليك كلبه, فما أنت فاعل؟", قال التلميذ: "أرميه بالحجارة", قال العالم: "سيذهب ثم يعود, وكلما رميته ذهب ثم عاد"!, قال التلميذ: "فماذا أفعل يا شيخ؟", قال تذهب لصاحب الكلب وتقول له: "كف عني كلبك؛ فيكفه وتمر ."

وهذه حالنا مع فايروس الكورونا, ندافعه بالأسباب المادية, ونغفل عن رب كورونا الذي أنزله لحكمة ولا يصرفه إلا هو, ابتلانا الله به لنعود إليه, ونتوب إليه, ونتضرع بين يديه, فلنعتصم بالله مع استخدام الأسباب المباحة شرعا, ولنتضرع بين يديه أن يرفع عنا الوباء, ولنقلع عن ذنوبنا وسيئاتنا, قال -جل ذكره-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)[الرعد: 11], لا بد من تغيير الواقع, من المعصية إلى الطاعة, من الغفلة إلى الاستعداد.

أيها الناس: طوبى لمن تدارك حياته, وعمل لما بعد الموت, فما نحن فيه مجرد غرور عما قليل ينقشع ويزول, ولا يبقى للعبد إلا عمله الصالح؛ يؤنسه في قبره, ويرفع درجته عند ربه .

اللهم ارزقنا التوبة والإنابة لك.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي