علمتنا الجائحة أن موازين الناس في المجتمع تحتاج لمراجعة, فينبغي أن يُصدَّر المؤثِّرُ الحقّ, ويُقدَر كلُ أحدٍ قدره, وأن العالم الذي يفتي في النوازل, والطبيبَ الذي يداوي, والممرضَ الذي يباشر المريض, ورجلَ...
إنَّ الحمدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، ونستعينُهُ، ونستغفِرُهُ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا، مَنْ يهدِ اللهُ فلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ, وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسُولُهُ وَخَلِيلُهُ, صَلَّى اللهُ عليهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا.
أَمَّا بَعدُ: فاتقوا الله, وتمسكوا بهدي نبيه؛ تفلحوا وترشدوا (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا)[الطلاق: 2], (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا)[الطلاق: 4], (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا)[الطلاق: 5].
اللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا, اللهم لك الحمد كله, ولك الشكر كله, وإليك يرجع الأمر كله؛ علانيته وسره, فأهل أنت أن تحمد, وأهل أنت أن تعبد, وأنت على كل شيء قدير, لك الحمد كالذي نقول وخيراً مما نقول, ولك الحمد كالذي تقول, ولك الحمد على كل حال.
عباد الله: وها قد عادت الحياة للحياة, وها قد عدنا لبيوت الله بعد انقطاعٍ طويل, تقطعت فيها القلوب شوقاً للمساجد, فاللهم اكشف البلاء عن المسلمين, واجعلنا ممن تعلقت قلوبهم بالمساجد.
عباد الله: انقضت الأيام العصيبة ونسأل الله أن لا تعود, واليقين أن الناجي فيها من البلاء ليس من سلم من الوباء, ولم يُصب بالداء, فمن لم يمت بالداء مات بغيره حين يحين أجله, ومن سَلِم من هذا الداء فلن يسلم من غيره, فالحياة طَبعها الله على الكدر, وربما كان البلاء رفعةً وأجراً, وإنما الناجي حقاً هو من استفاد من الأزمة, واستوعب الدرس.
لقد علمتنا الجائحة دروساً كثيرة, في سائر أمور حياتنا, دروساً لا تُقرأ في الكتب, وبرغم أننا نعرفها لفظاً, إلا أننا لم نستوعبها حقاً حتى عايناها.
علمتنا الجائحة أن الله على كل شي قدير, وأنه غالب على أمره, وأن القوى كلها لا شيء أمام قوته -سبحانه-.
علمتنا الجائحة ضعف الإِنسَانَ مع شِدَّةِ بَأسِهِ!, وقلّة حيلته مع ذكائه!, وأنه حين يظن أنه حاز أسباب العلم الدنيوي والتقدمِ المادي هو أضعفُ شي أمام قوة الجبار -سبحانه-.
علمتنا الجائحة أننا أحوج ما نكون إلى الله في سائر أمورنا, وأننا إن انحرفنا عن الصلاح؛ فالعقوبة قد تحل بنا, وأنه حين تشتد الكروب فلن يكشفها إلا هو, فالقوى وقفت, والإمكانياتُ عجزت, والدولُ حارت أمام أصغرِ سبب, ولن يكشفه إلا الله!.
علمتنا الجائحة أن الحياة متقلبة, والأحوال متغيرة, وأن الله قادرٌ على تغير الأمور في لحظة, وبأدنى سبب.
علمتنا الجائحة أن العافية من أعظم النعم؛ ولذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "سلوا الله العافية"؛ لأنها إن فقدت فليس للمال ولا للمتاع لذة, وقد بين -صلى الله عليه وسلم- أصول النعم التي نحن نتفيأها فما استشعرناها؛ فقال: "من أصبح آمناً في سربه, معافى في بدنه, عنده قوت يومه؛ فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها".
علمتنا الجائحة أننا حين نخرج متى ما أردنا, وأننا حين نذهب لأعمالنا ومدارسنا, وحين نلتقي بأقاربنا وأصحابنا أننا في نعمةٍ ما قدرناها حتى فقدناها, فاللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك.
علمتنا الجائحةُ أن المسجد ليس مجرد بناءٍ تؤدى فيه الصلوات, بل هو مهوى الأفئدة, وموطنُ اللقاء والاجتماع, وأن صلاةَ الجماعة فيه تَجمعُ القلوبَ والأبدان وتوطِّدُ العرى والعلائق, فهنيئاً لقومٍ تعلقت قلوبهم به ووجدوا أنسهم فيه.
علمتنا الجائحةُ أن البيت أعظمُ حصنٍ, وأن الأسرةَ هي المحضن الأقوى لغرس القيم, فحين توقفت المدارس والمراكز, والمؤسسات التربوية بقي دور الأسرة شامخاً مثمراً.
علمتنا الجائحة أن قضاء وقتٍ أطولَ مع أفراد الأسرة يُنتج التآلف والترابط, ويورث التعاهد والتنبه وإصلاحَ السلوك عند الأبناء؛ فيثمر تشجيع المصيب, وتهذيب المخطئ.
علمتنا الجائحة أن نساءنا على ثغر كبير, حين يعافسن الأولاد, ويربين الجيل, ويقمن على شؤون البيت, وهذا ينتج عنه شكر جهدهن, ومساعدتهن فيما تيسر من أمورهن.
علمتنا الجائحة أن كثيراً من أسباب الطلاق هي من خارج محيط الأسرة, أو من تتبع الكماليات التي يمكن الاستغناء عنها, فخلال مدة الجائحة شهدت نسب الطلاق انخفاضاً قوياً, حين جلس كل زوج مع أهله, وانقطع المؤثر الخارجي.
علمتنا الجائحة أن الانبهار بالغرب في حقوق الإنسان شعارٌ زائف, وأنك لن تجد الإنسان أعلى قدراً وأشرف حقاً كما هو في بلاد المسلمين, التي تقدّم حياته وصحته على اقتصادها.
علمتنا الجائحة أن الإنسان قد يفرّ من أقربيه, ويبعد ممن يحبه ويواليه, ولئن كان هذا اليوم بقصد صحة الأبدان, فإنه يوم القيامة سيفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه, ويلجأ لربه ومولاه؛ خوفاً من العذاب.
علمتنا الجائحة أن موازين الناس في المجتمع تحتاج لمراجعة, فينبغي أن يُصدَّر المؤثِّرُ الحقّ, ويُقدَر كلُ أحدٍ قدره, وأن العالم الذي يفتي في النوازل, والطبيبَ الذي يداوي, والممرضَ الذي يباشر المريض, ورجلَ الأمن الذي يسعى في إحلال الأمن, أن لهؤلاء الصدارةُ في المجتمع, وأننا نستطيع أن نعيش بدون المشهور الافتراضي, واللاعب الرياضي, والممثل الإعلامي.!
علمتنا الجائحة أن سد الذرائع مطلب ضروري, وهو في ذات الوقت قاعدة شرعية, وأننا حين نتواصى على تطبيقه في أمور صحتنا, فينبغي أن نستصحبه في تعاليم شرعنا, فمن رضي به في الأمور الحياتية ثم هو يعارضه في الشرعية؛ فقد خالف أمر الله وأمر رسوله.
علمتنا الجائحة أن السعادة ليست مُلازمةً لكثرة الخروج من المنزل, فربما تسعد وأنت في بيتك, وقد قال ربنا: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا)[النحل: 80], فمن الخلل أن يكون المنزل للجلوس القسري, واللجوء الضروري.
علمتنا الجائحة أن قلوبنا تحتاج للخلوة بربها, وأن العبادة مع الخلوة لها أثر عظيم على صلاح النفس وتزكيتها, فلا تنقطع عن ذلك, وليكن لك جلسات خلوة وعبادات فردية لوحدك.
علمتنا الجائحة أن عمار البيوت بالتعبد فيها, وأنها تطيب حين نجعلها قبلة ومسجداً, وتهرب الشياطين من بيتٍ تتلى فيه الآيات وتؤدى الصلوات, ولئن عدت للمسجد فاجعل صلاتك النافلة في بيتك.
وبعد: فالدروس أضعاف ما ذكرت, وكلٌ منا لمس شيئاً من هذه, والقضية ليست بتعدادها بل باستيعابها.
اللهم اجعلنا ممن وعى الدرس, اللهم اكشف عنا البلاء, أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ وَاِمْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ؛ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشَهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدَهُ وَرَسُولُهُ، وَخَلِيلَهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً.
أما بعد: إن العودة للمساجد بعد إغلاقها نعمةٌ تستوجب الشكر والحمد والثناء، وإن من شكر الله والاعتراف بفضله أن نستشعر مسؤوليتنا في استبقاء النعمة ودوامها؛ فليؤد الذي أؤتمن أمانته وليتق الله ربه.
إن من واجبنا أن نكون سنداً لمن يعملون لردّ هذا الوباء, واجبنا أن نستشعر المسؤولية بفعل الأسباب المعنوية والمادية لمواجهة هذا الوباء والابتلاء.
نواجهه بالتوكل على الله والتضرع إليه, والإنابة إليه؛ امتثالا لقوله -سبحانه-: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا)[الأنعام: 43].
نواجهه بالتوبة إلى الله واستغفاره, والمحافظة على حدوده, وتعظيم شعائره, وبالشكر الحقيقي لنعمه؛ (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ)[النساء: 147].
نواجهه بالوعي والتفاعل مع التوجيهات الصادرة وتطبيق الاجراءات الاحترازية, وفعل كل سببٍ يوصل إلى إضعافه, وتخليص البلاد والعباد من آثاره وغوائله.
وختاماً: فإن من شكر الله شكرُ من يستحق الشكر من عباده ممن أحسنوا وجاهدوا وصبروا؛
شكراً لولاة أمرنا ولحكومتنا بكل مؤسساتها على البذل والعطاء والتضحيات, وعلى كل خطوة تستهدف حماية الناس والحفاظ على أرواحهم.
شكراً للجهات الأمنية بكل قطاعاتها, ولرجالاتها الذين واجهوا حرارة الهواء وتقلبات الأجواء من أجل إرشاد الناس وضبط تنقلاتهم, بنفس منشرحة ورقي في الأسلوب يعكس أخلاقيات رجال أمننا.
شكراً للصامدين في خط الدفاع الأول من العاملين بالقطاع الصحي, والذين ضحوا بحياتهم وصحتهم وأهلهم وأوقاتهم لمعالجة مريض وإنقاذ عليل.
شكرا لكل مواطن ومقيم كان للجهات العاملة ردءا وسندا بوعيه وتفهمه وتطبيقه للتوجيهات والتعليمات.
شكرا لكل رجل أحيا بيته بالصلاة والذكر وتلاوة القرآن أثناء فترة إغلاق المساجد, شكرا لكل ابن عطر أجواء بيته وشنف أسماع أهله بآيات الله في التراويح والقيام.
شكرا ثم شكرا لكل من عمل واحتسب, وما كان الله ليضيع إيمانكم وقد حكم ربنا: (أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ)[آل عمران: 195].
أدام الله علينا نعمة الأمن والإيمان, وأسبغ علينا نعمه, وأعطانا من الخير فوق ما نرجو, وصرف عنا من الشر فوق ما نحذر.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْـمُرْسَلِينَ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي