نية الخير إخلاص يُستنزل به التوفيق من الله، قال بعض السلف: "ما نزل من السماء أعز من التوفيق، ولا صعد من الأرض أعز من الإخلاص"، ونية الخير خيرُ مصفٍّ للقلب من كدر الغل والحسد؛ إذ هو إخلاص ونصح للمسلمين صادق، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث لا يَغُلُّ عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله،...
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: فـ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].
أيها المؤمنون: لوصايا العلماء الربانيين -إن اسْتُوصوا- وزن ومعنى؛ لانبعاثها من فهمٍ عميق للشريعة، وجمعها خصالًا من الخير ضافية، ومعرفةِ ما يناسب حال المستوصى وما يصلح شأنه، خاصة إن كان من خاصة العالِم وذريته، ومن تلك الوصايا أن عبدالله بن الإمام أحمد بن حنبل قال لأبيه يومًا: أوصني يا أبت!، فقال: "يا بني! انوِ الخير؛ فإنك لا تزال بخير ما نويت الخير".
النية أصل العمل وروحه، فلا عبرة بالعمل وإن كثُر ما دامت النية مفارقة له؛ إذ القبول والثواب معقود عليها، ومقرون بها؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"(رواه البخاري ومسلم)، وذاك ما جعل بعض أهل العلم يقرر: "أن نية المؤمن خير من عمله"؛ لكونها سابقة عليه، وأن عمله لا يصح إلا بها.
عباد الله: نية الخير، وإرادة تحصيله، ودوام التفكير به، وتعاهد النفس بتذكره بوصلةٌ هادية لخزائن الخير، وصاحب تلك النية لا يزال محفوفًا بالخير ببركة نيته، "فإنك لا تزال بخير ما نويت الخير"، ومن أعظم الخير الذي تسوقه تلك النية لصاحبها صلاح القلب الذي عُمر بنية الخير وما زال ذاكرًا لها؛ إذ النية عمل القلب، وصلاح القلب صلاح للجوارح، فالقلب ملك البدن، والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ألا إن في الجسد مضغة إذا صلَحت؛ صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"(رواه البخاري ومسلم).
ولازم صلاح القلب والبدن ترْكُ ما يُذَمُّ من الأعمال القلبية والبدنية التي لا تجتمع ونية السوء؛ فنيَّةُ الخير -إن رسخت في القلب وتعوهدت- صِدْقٌ طارد لإرادة السوء التي هي أساس فعله, يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولهذا كان بعض المشايخ إذا أمر بعض متبعيه بالتوبة، وأحب أن لا ينفره، ولا يشعِّب قلبه، أمره بالصدق".
ونية الخير من أعظم سبل تيسُّر فعل الخير على صاحبه؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَن أخذ أموال الناس يريد أداءها؛ أدَّى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها؛ أتلفه الله"(رواه البخاري)، وما تزال أنهار الحسنات بتلك النية دافقةً على صاحبها بالأجور، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من همَّ بحسنة فلم يعملها؛ كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو همَّ بها فعمِلها؛ كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة"(رواه البخاري ومسلم).
بل يبلغ بتلك النية أجر الفاعل لها؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزَقه الله مالًا وعلمًا، فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقًّا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علمًا ولم يرزُقه مالًا فهو صادق النية, يقول: لو أن لي مالًا لعملت بعمل فلان، فهو بنيَّته، فأجرهما سواء..."(رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح)، قال زيدُ بن أسلم: "كان رجلٌ يطوفُ على العلماء، يقول: من يدلُّني على عملٍ لا أزال منه لله عاملًا؛ فإنِّي لا أُحبُّ أنْ تأتيَ عليَّ ساعةٌ مِنَ الليلِ والنَّهارِ إلاَّ وأنا عاملٌ لله -تعالى-، فقيل له: قد وجدتَّ حاجتَكَ، فاعمل الخيرَ ما استطعتَ، فإذا فترْتَ، أو تركته فهُمَّ بعمله؛ فإنَّ الهامَّ بعمل الخير كفاعله".
وبنية الخير تصير العادات والمباحات طاعات يثاب عليها العبد، وتعلو بها درجته, قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فالمؤمن إذا كانت له نية أتت على عامة أفعاله، وكانت المباحات من صالح أعماله لصلاح قلبه ونيَّته", يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله؛ إلا ازددت بها درجة ورفعة، حتى اللقمة تضعها في فيِّ امرأتك"(رواه البخاري ومسلم).
وبنية الخير يكون العزاء من كل فائت بأحسن العوض ومغفرة الذنوب وإن عظمت, قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[الأنفال: 70]، وبنية الخير تكون الطمأنينة وقت اشتداد الكروب والمخاوف, يقول الله -تعالى-: (فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ)[الفتح: 18]، وبسريرة نية الخير يجعل الله القبول لأهلها في الأرض، قال المسيب بن رافع: "ما من رجل يعمل حسنة في سبع أبيات إلا أظهرها الله"، قال: "وتصديق ذلك كتاب الله -تعالى-: (وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)[البقرة: 72]".
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله, وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فاعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله.
أيها المؤمنون: نية الخير إخلاص يُستنزل به التوفيق من الله، قال بعض السلف: "ما نزل من السماء أعز من التوفيق، ولا صعد من الأرض أعز من الإخلاص"، ونية الخير خيرُ مصفٍّ للقلب من كدر الغل والحسد؛ إذ هو إخلاص ونصح للمسلمين صادق، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث لا يَغُلُّ عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة للمسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم"(رواه الشافعي وصححه الألباني).
ونية الخير من إرادة الآخرة، ولإرادة الآخرة ثمار ثلاث طيبة، كل واحدة تفوق متع الدنيا قاطبة: اجتماعُ الهمِّ وعدم تفرُّقه، وغنى القلب، وتسهُّلُ أمور الدنيا وأرزاقِها، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من كان همُّه الآخرة؛ جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت نيته الدنيا؛ فرَّق الله عليه ضيعته، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له"(رواه أحمد وصححه ابن حبان).
تلكم -يا عباد الله- غيضٌ من فيض بركات نية الخير، وهي معقد تجارة العلماء؛ كما قال زيد بن ثابت -رضي الله عنه-: "يسرُّني أن يكون لي في كل شيء نية"، فانووا الخير فإنكم لا تزالون بخير ما نويتم الخير.
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ؛ فَقَالَ: (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[ الأحزاب: 56 ].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي