علاقة المؤمن بالأسباب ومسبّبها

ناصر بن عبد الرحمن الحمد
عناصر الخطبة
  1. توحيد مقلوب وتعلُّق معطوب .
  2. حكم التعلّق بالأسباب .
  3. اختلاف مواقف الناس من الأسباب .
  4. الأخذ بالأسباب مع التعلّق بمسبّب الأسباب. .

اقتباس

إن توحيداً تصاحبه عبادة لغير الله -جل وعلا- لهو توحيد مقلوب وتعلّق معطوب، وعلى المؤمن أن يرقب لَحْظَه ولَفْظَه وعمله؛ ليكون ما يعمله هو لله، وبالله، وعلى الله -جل وعلا-...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].

أَمَّا بَعْد: فقد قال العظيم الحليم: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)[يوسف:106]؛ وإن توحيداً تصاحبه عبادة لغير الله -جل وعلا- لهو توحيد مقلوب وتعلّق معطوب، وعلى المؤمن أن يرقب لَحْظَه ولَفْظَه وعمله؛ ليكون ما يعمله هو لله، وبالله، وعلى الله -جل وعلا-.

عباد الله: لقد رأى نبيّكم -صلى الله عليه وسلم- رجلاً في يده حلقة من صُفر –أي: من نحاس–؛ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "ما هذه"؟ قال: من الواهنة؛ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "انزعها؛ فإنّها لا تزيدك إلا وهنا، وإنّك لو متّ وهي عليك ما أفلحت أبداً"؛ وهذا الحديث فيه ضعف ولكنّ معناه صحيح.

وذلك أنه في الحقيقة أنّ هذه الحلقة ليس لها أيّ مصدر علاجي، وليس فيها مادة معينة للعلاج، وإنّما هو توّهم من المريض، وتعلّق منه بهذه الحلقة، وقد جاء في التعلّق بالأسباب وغيرها حديث صحيح؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "من تعلّق تميمة فقد أشركوهذا يدلّ أنّ كل تعلّق بالأسباب فهو شرك أو طريق للشرك.

أيها المسلمون: والناس في الأسباب ثلاثة:

1- مَن يُنكر الأسباب، وهم بعض الضالين المنحرفين. ومن اعتقد أنها مؤثرة بنفسها من دون الله -تعالى- فهذا شركٌ أكبر، ومن اعتقد أن شيئًا له سبب وليس بسبب؛ فقد وقع في الشرك الأصغر.

2- مَن لم ينكر الأسباب، ولم يجعلها مؤثرة بنفسها، بل بالله -تبارك وتعالى-، وهذا هو شأن المؤمن؛ فالذي علّق تميمة أو ربط على يده شيئاً، وقال: تحفظني من كذا، أو علق عظاماً أو وضع شعر الذئب فإن ظن أنها مؤثرة بنفسها؛ فقد أشرك شركاً أكبر.

3- ومن ظنّ أن الأسباب ليست مؤثرة بنفسها؛ فقد وقع في الشرك الأصغر؛ لأنه جعل ما ليس بسبب سببًا، وكأنه أصبح أعلم من الله -تبارك وتعالى- به.

ومعرفة الأسباب تكون إما عن طريق الشرع أو التجربة الصحيحة؛ أما أن تُبْنَى على خزعبلات وتوهّمات واعتقادات ليس لها أساس؛ فهذا ضلال مبين، ولذلك تجدون من يعلّق التمائم والتعليقات يتوهّم أنّها تنفع أو تضرّ، والتمائم محرمة؛ فأما إن كانت من القرآن فهي على خلاف، والأحوط الامتناع عنها.

فعليكم -عباد الله- بتذكير نفوسكم كلّ حين بذلك؛ حتى لا يحرمنا فعل الأسباب من ترك التعلّق بمسبب الأسباب -تبارك وتعالى-.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي لم يزل سميعًا بصيرًا، يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور. وصلى الله وسلّم على الرحمة المهداة والنّعمة المسداة من تركنا على محجّة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.

أما بعد: فعندما ابتلى الله -تبارك وتعالى- يعقوب بفَقْد ولده؛ كان كل ما حصل منه متابعة للأسباب مع تعلّقه بمسبب الأسباب؛ فقد بذل قصارى جهده في البحث عن ابنه، وكانت قصّته درساً في التوكّل وحسن الظن بالله -تبارك وتعالى-.

ولما أمر أولاده أن يدخلوا من أبواب متفرّقة؛ خشية العين أو خشية أن يتربّص بهم جنود الملك، قال: (يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)[يوسف:67].

وهذا من أعظم التربيّة للأولاد، فإن يعقوب -عليه الصلاة والسلام- لمّا أمر أولادهُ بفعل الأسباب؛ أراد أن يجعل علاقتهم الكبرى بالله -تبارك وتعالى-؛ فإذا لم يحصل لهم شيء من تحقّق السبب كان إيمانهم بالله أعظم وأقوى.

وهكذا ينبغي لنا في حال الأمراض والأوبئة أن نعمل قصارى جهدنا في متابعة الأسباب ونتعلّق بمسبب الأسباب؛ حتى إذا أصاب البلاء أحداً من العباد كانت النفوس إلى الله -تبارك وتعالى- مفضية، فلم يضعف إيمانها به -تبارك وتعالى- طرفة عين.

اللهم أعزّ الإسلام وأهله وأذلّ الباطل وأهله، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

اللهم أصلح ولي أمرنا وولي عهده لما تحبّ وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي