خصائص المجتمع الإسلامي قبل الهجرة

محمد الغزالي

عناصر الخطبة

  1. الإسلام وتقويض الفكر الجاهلي
  2. الخصائص العقلية والنفسية للمسلمين الأوائل
  3. الحروب الأولى التي جوبهوا بها
  4. مقارنة بين هجرة الصحابة وهجرة اليهود الحالية
  5. الفرق الواسع بيننا وبين المسلمين الأوائل

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد: فنحن على أعتاب السنة الرابعة والتسعين من القرن الرابع عشر الهجري، هجرة كبير المرسلين، وخاتم النبيين، سيد الخليقة كلها وهاديها، سيدنا محمد بن عبد الله –عليه صلوات الله وسلامه- وقد رأينا أن نخصص هذا الأسبوع والأسابيع القادمة في الكلام عن الهجرة، ما قبلها وما بعدها؛ لأن حق المناسبة علينا أن نذكر بها، وأن نحتفي بمقدمها، وأن نلتمس العبر من تضاعيف الأحداث التي تضمنتها.

إن رسالة نبينا -صلى الله عليه وسلم- بدأت في جزيرة العرب، وقد فاجأت هذه الرسالة سكان الجزيرة بحقائق ذات بال، كانوا لا يدرون عنها شيئاً، بل كانت بيئتهم تحيا وفق خرافات وترهات، تناقض هذه الحقائق وتخاصمها.

كان أول ما دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه هو توحيد الله جل شأنه، وتوحيد الله بديهية يحترمها أصحاب العقول، ولكن عرب الجزيرة -وغيرهم ممن على غرارهم من المنحرفين- يعتقدون أن لله شركاء، وقد استغربوا دعوة التوحيد: ﴿وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً؟ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ!(5)﴾ [ص:4-5].

والعجب ليس في التوحيد، فإن التوحيد حقيقة، ومن أطرف ما يروى لدعم هذه الحقيقة ما قاله علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- لابنه: يا بنيّ! لو كان لربك شريك لأرسل هذا الشريك رسولاً من قِبله يعرف به، ويبلغ عنه. ما له أبْكَم لا يتكلم؟. إن كان المرسلين الذين جاؤوا أخبروا بأن الله واحد، وبلغوا أنهم من عند الإله الواحد: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء:25].

ووحدانية الله -جل شأنه- حقيقة علمية تنطق بها فجاج الأرض وآفاق السماء، فقد ثبت علمياً أن الكون الذي نعيش فيه تحكمه قوانين واحدة، وسنن لا تختلف، وقد تستغرب إذا شعرت بأن سنبلة القمح أو الأرز في حقلها ما يمكن أن تنبت على هذا النحو إلا لأن الله وضع الأرض على هذا البعد المقدور من الشمس: 150 مليون كيلو! ولو أن هذا البعد قل أو كثر ما نبتت زراعة، ولا بقيت على ظهر الأرض حياة.

إن الآفاق البعيدة، والكواكب القصية، تشارك في صنع ما نأكل من طعام، قوانين واحدة تعم الكون كله من الذرة التي لا تُرى إلى المجرة التي لا ترى، الذرة لا ترى لدقتها، والمجرة لا ترى لأبعادها! ولكن الذي يبصر كل شيء وضع نظاماً واحداً يدل على وحدانيته.

ودَعَت هذه الرسالة إلى التصديق باليوم الآخر، وكان الجاهليون قديماً كالجاهليين حديثاً لا يؤمنون إلا بحياة واحدة على ظهر هذه الأرض! وفي ضوء هذا الفهم ترى الإنسان وحشاً يعيش ليومه ولا غد له، يعيش لدنيا لا آخرة بعدها! (وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ! بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ، فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ) [سورة النحل:38-39].

وليس تذكير الإسلام بالدار الآخرة تهويناً لشأن الدنيا، أو انتقاصاً من النشاط فيها، كلا؛ ولكن التذكير بالدار الآخرة جعل الغرائز البشرية تلزم حدودها، فلا تطغى ولا تغتر ولا تنطلق دون ضوابط، فإن الإنسان يعتدل كثيراً ويعرف كيف يسير وفق هدايات ربه يوم يعلم أن كل ما يقترف من صغير أو كبير محسوب عليه: (هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ. إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجاثية:29].

ومن الأغلاط الشائعة في تصوير الرسالة الإسلامية أنهم يقولون: جاء محمد في بيئة مشركة فدعاها إلى التوحيد. هذا تصوير ناقص للرسالة الإسلامية! فإن الرسالة الإسلامية ليست علاقة بين العبد وربه فقط، ولكنها تضمنت -مع هذه العلاقة بين الإنسان وربه- تنظيماً اجتماعياً للكيان الإنساني الكبير، يقوم هذا التنظيم على المسؤولية المشتركة، بمعنى أن المجتمع لا يجوز أن يكون فيه جوع وشبع، عز وذل، كبر ووضاعة، علم وجهل؛ ينبغي أن يمد القادر العالم الواجد المكثر يده إلى مَن دونه حتى يتساوى الجميع في نعمة الله وفضله، لا تساوياً يزيل الفوارق بين الأفراد، فهذا مستحيل؛ ولكنه تساو يحقق الرحمة والتعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والصبر.

ولذلك؛ في أول ما نزل من القرآن لتنظيم العلاقة بين الناس وربهم نجد أن هذا التنظيم تناول العلاقة بين الإنسان والإنسان. سورة المدثر من أول ما نزل، ومع ذلك فأنت تقرأ فيها قوله تعالى على لسان أهل الجنة وهم يتساءلون عن المجرمين، يقولون لهم: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ؟ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ(44)﴾ [المدثر:42-43].

وعندما انقسم المجتمع في الجاهلية إلى متكبرين مترفعين ينظرون شزراً إلى مَن دونهم جاهاً ومالاً، وعندما حاول هؤلاء المتكبرون المترفعون أن يفرضوا تقاليدهم على صاحب الرسالة -صلى الله عليه وسلم-، وعرضوا عليه أن يحضروا في مجلسه، وأن يستمعوا إليه؛ تمهيداً للإيمان به، والدخول في دينه؛ شريطة ألا يسوَّوا بمن دونهم مكانة ومنزلة في نظرهم، لم يتأن الوحي أو يستدرج هؤلاء إلى الإيمان، بل رفض؛ لأن هؤلاء الذين يريدون الدخول في الإسلام وفق فهمهم وكبرهم أرادوا طرد المؤمنين الضعاف، أو على الأقل رميهم وراء ظهورهم في المجلس، فنزل قوله تعالى: (وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ * وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَـؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) [الأنعام:52-53].

دخل الإسلام ناس، نريد أن نعرف الخصائص العقلية والنفسية لمن دخل الإسلام، وانشرح به صدره؛ حتى نعرف من هم المسلمون قبل الهجرة؟ ما خلائقهم؟ ما فضائلهم؟ ما الميزات الإنسانية التي توافرت فيهم مادياً وأدبياً حتى بدأ مجتمع ما قبل الهجرة يتكون؟.

أول ما نلحظه في المسلمين أنهم أصحاب تحرر عقلي، لم؟ لأن طبيعة الإيمان عندنا في كتاب الله وفي سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- طبيعة تقدمية، نحن في عالم يفخر بأنه تقدمي، الحقيقة أن العالم فعلاً ارتقى علمياً في جوانب، ووقف في جوانب أخرى، وتراجع في جوانب كثيرة؛ ولكن الإسلام عندما يُعرض الآن ربما نظر الناس إليه من خلال الأمم الهابطة المنتسبة إليه، فأزرَوا به، واستهانوا بقيمة.

نريد أن نعرف الإسلام من خلال الذين اعتنقوه أولاً، كان هؤلاء -كما قلت- أصحاب حرية عقلية، إنسان بدأ يحدث الناس ويقول لهم: أنا أعرض عليكم ما عندي. ما عندك؟ ومن أين جئت به؟ وما تريد؟ وما دليلك؟ فيكون الجواب: (حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ) [الجاثية:1-3].

خطابٌ للعقل البشري، تحريك للفكر الإنساني؛ لكن هناك ناساً جمدت أفكارهم، وتحجرت عقولهم، هؤلاء يصفهم الله فيقول: (وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ، وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً، وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا…) [الأنعام:25].

إذن، بدأ الإسلام حرية عقلية، فكان الجيل الذي اعتنق الإسلام يمثل في أرض الله الواسعة مجتمعاً تقدمياً أرقى فكراً، وأنضر نظراً، وأعمق استدلالاً، وأوسع آفاقاً، من المجتمعات المتخلفة الأخرى.

انضم إلى هذه الحرية العقلية في مجتمع ما قبل الهجرة شيء آخر هو القدرة النفسية على مخالفة الجماعة إذا كانت مخطئة. والقدرةُ النفسية على المشي مع الحق -وإن كان الناس مبطلين- لا يُرزَقها كل إنسان، فقد تبين لنا من استعراض النشاط الإنساني، والتأمل في مسالك الخلق، تبين لنا أن الناس نوعان: نوع ذَنَبٌ لا يحسن إلا أن يكون مع التيار، يقول: أنا مع الناس. هذا اللون أو النوع يسمى الإمعة، وفيه تحذير النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا؛ ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا" رواه الترمذي.

إن المقدرة على التخلص من البيئة المنحرفة، أو من التقاليد السخيفة، أو من التيارات المعوجة، لا يستطيعها كل إنسان؛ بل رأينا ناساً رأوا الصواب؛ ولكن، لعجزهم النفسي، ولعدم قدرتهم على ترك ما ألفوا، بقوا مع الضلال.

يقول الله في هؤلاء: ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ؟ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ. فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(25)﴾ [الزخرف:23-25].

البيئة تتجه ضلالاً إلى الشمال؛ اتَّجِهْ أنت إلى اليمين. هكذا ربَّى القرآن الجيل الذي تكون قبل الهجرة، رباه على قدرة مخالفة المواريث السائدة، التقاليد الموطدة، التيارات الغالبية؛ وفي هذا نقرأ قوله تعالى في سورة هود المكية: ﴿وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُون(122)﴾ [هود:121-122]، وتقرأ قوله تعالى في سورة الأنعام المكية: ﴿قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ [الأنعام:135].

قدرة نفسية على مخالفة البيئة إذا ضلت؛ لكن مخالفة البيئة إذا ضلت قد تكلف صاحبها تعباً، وقد تجشمه عنتاً، وهنا نجد أن صاحب الحق الذي اعتنقه واستراح إليه لا يبالي في سبيل الحق أن يتحمل العنت.

وهذه خاصة في الرسالة الإسلامية جعلتنا نرى أن الذين آمنوا ووجهوا بثلاثة أنواع من الحروب:

النوع الأول: حرب الاضطهاد، وقد وجهت للضعاف الذين لا عزوة لهم ولا عصبية، والرسول -صلى الله عليه وسلم- في أول أمره كان لا يملك شيئاً، وليس لديه ما يقدمه من حماية، إذا رأى أسرة كأسرة عمار بن ياسر هو ووالده وأمه -رضي الله عنهم-، إذا رأى الأسرة تعذب ماذا يقول لها؟ لا يستطيع أن يقول إلا: "اصبروا آل ياسر موعدكم الجنة ". ذكره الهيثمي في المجمع 9/293 وقال رواه الطبراني ورجاله ثقات. وعن جابر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر بعمار وأهله وهم يعذبون فقال: "أبشروا آل عمار وآل ياسر! فإن موعدكم الجنة" رواه الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم 3/388.

الأنبياء لا يملكون أموالاً يرشُون بها، ولا يملكون سلطة يفرضون بها حمايتهم على أتباعهم، بل في الهجرة الأولى إلى الحبشة هاجر عثمان بن عفان -رضي الله عنه- ومعه زوجه رقية -رضي الله عنها- بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

النوع الثاني: حرب السخرية، وحرب السخرية كانت حرباً فيها نوع من الإيذاء النفسي ومن الإحراج البالغ، كانت حرباً موجعة: ﴿وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ [الحجر:6] سبحان الله! أعقل إنسان في الأولين والآخرين يقال له هذا ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ(32)﴾ [المطففين:29-32]. إنهم يضحكون، ويسخرون، وينكِّتون، غمز ولمز، وتنكيت وسخرية، لكن أتباع محمد -صلى الله عليه وسلم- ثبتوا وصبروا على هذا كله.

النوع الثالث: حرب المقاطعة، وهي حرب مؤذية، عندما يكون الإنسان تاجراً ثم تتقرر مقاطعته، أو عندما يكون له بنات وبنون فيقرر ألا يتزوج أحد من بناته، هكذا صنع المشركون بأتباع محمد -عليه الصلاة والسلام-، لكنهم تحملوا هذا كله، فكان إلى جانب الحرية العقلية، وكان إلى جانب القدرة النفسية على مخالفة البيئة، كان إلى جانب هذين شيء ثالث وهو الثبات والتحمل في ذات الله، والصبر على ما يكون من شدائد! ثم كان الأمر الأخير، وهو الدعوة إلى الهجرة، والدعوة إلى الهجرة شيء أُحِب لمناسبته أن أعتقد مقارنة عاجلة سريعة بين الدعوة إلى الهجرة في مكة لإقامة دولة دينية أو مجتمع ديني في المدينة، وبين ما وقع في عصرنا هذا.

الدعوة إلى الهجرة كانت صريحة، ستنتقل إلى المدينة لنقيم فيها دولة الإسلام بعد عجزنا عن إقامتها في مكة.

ومهاجرة الناس من أوطانهم وأسرهم وماضيهم، وما ألفوا إلى مكان ليقيموا فيه دولة وفق ما يعتقدون شيء عرفه المسلمون قديماً عندما هاجروا إلى المدينة المنورة، وأريد أن ألفت النظر إلى فارق شاسع بين ما وقع من مسلمي الأمس منذ أربعة عشر قرناً وبين ما وقع من اليهود اليوم.

إن اليهود، منذ خمسين سنة تقريباً، قرروا في مؤتمراتهم أن يهاجروا إلى إسرائيل كي يقيموا في فلسطين دولة لهم باسم إسرائيل، وفعلاً بدأت الهجرة, واستطاع هؤلاء المهاجرون أن يقيموا دولة توصف بأنها دينية، وجعلوا عنوانها إسرائيل، هناك فروق واسعة بين هجرة المسلمين قديماً إلى المدينة وهجرة اليهود حديثاً إلى فلسطين، هذه الفروق أريد أن ألخصها على عجل:

أول هذه الفروق أن المسلمين الذين تركوا مكة إلى المدينة يمكن أن يوصفوا بتعبير العصر الحديث بأنهم مغامرون، لأنه لم يكن لهم على ظهر الأرض نصير، كانت الدنيا كلها ضدهم؛ أما المشركون فلأن القرآن عاب الأصنام، وحقر الأوثان، وهدم تقاليد الجاهلية، وطلع على الناس بوضع جديد يصب فيه الإنسانية صباً من طراز آخر.

وأما المسيحية فإن الإسلام كان في مكة ينكر بحرارة وحماسة أن يكون لله ولد، ففي سورة الكهف المكية نقرأ قوله تعالى: ﴿وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ! إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً(5)﴾ [الكهف:4-5]، وفي سورة مريم المكية نقرأ قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً (90) أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً (91) وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً(95)﴾ [مريم:88-95]. هذا الإعلان الصريح الذي ظهر في مكة غاظهم وأغضبهم وجعلهم يحقدون على الإسلام والمسلمين.

أما اليهود، وهم عدو ثالث، فإن القرآن تناولهم أكثر ما تناولهم في مكة قبل الهجرة، سورة الأعراف المكية قالت عنهم، إن الله لن يدعهم، ربما ضحكت الدنيا لهم قليلاً، ولكن لابد أن تختم بفاجعة، ولابد أن يصابوا بنكبة قاصمة: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ…﴾ [الأعراف:167].

ماذا بقى في الدنيا من صديق للمسلمين؟ اليهود ضدهم، والنصارى ضدهم، المشركون ضدهم، الملحدون الذين لا يؤمنون بآلهة ضدهم، فماذا بقى للمسلمين؟ فيوم يكلف تاجر في مكة بأن يصفي ماله ليذهب إلى المدينة فإنه مغامر، مغامر فعلاً؛ ولكن الذين آثروا ما عند الله، ورجحوا جانب الحق، قالوا: لو اتفقت الدنيا كلها ضدنا فسنبقى مع الله ومع نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-!.

هؤلاء الذين فعلوا ذلك كانوا شيئاً آخر مخالفاً من كل جانب هجرة اليهود إلى فلسطين، فإن اليهود قبل أن يهاجروا فلسطين تعهدت الدولة الأولى في العالم يومئذ -انجلترا- بأن تكيف الظروف في فلسطين لاستقبالهم، فكان الحاكم الإنجليزي في فلسطين يذل العرب، ويعطِّش أرضهم حتى لا ينبت فيها زرع، وحتى يُكرَهون على بيعها بأنجس ثمن أو بأعلاه، وكانت الرصاصة إذا وجدت في بيت عربي سبباً في أن يهدم البيت من أعلاه إلى أدناه!.

كان الاستعمار البريطاني من سنة 1917 إلى سنة 1948، كان عالمياً ومحلياً يهيئ الظروف لاستقبال اليهود المهاجرين، فكان رأس المال اليهودي إذا هاجر فمن مأمن إلى مأمن، ومن حامٍ إلى حامٍ، ومن حارس إلى حارس. شتان بين هذا وبين المهاجرين الأوائل! شتان! شتان!.

ثم إن المهاجرين الأولين ذهبوا إلى المدينة المنورة، أي هجرة هذه؟ يوم اضطرتنا الظروف الصعبة إلى أن نستقبل المهاجرين من السويس والإسماعيلية، تحركت الأجهزة الاقتصادية والثقافية والحكومية والأهلية لاستقبال المهاجرين، وصدرت قوانين، وبدأت أمور كثيرة تتخذ؛ لكن الهجرة إلى المدينة أشرف عليها شيء واحد هو الدين والخلق، كان المسلمون في المدينة يستقبلون الوافدين عليهم بصدر واسع، لا سلطات، لا قوانين، ومع ذلك فما نزل مهاجريٌّ على أنصاري إلا بقرعة!.

كان التنافس بين بيوت الأنصار تنافساً غالباً لاستقبال أولئك القادمين الذين جمعهم الإيمان، شتان… شتان.. إن الدولة التي أقامها الإسلام بعد الهجرة دولة لعبادة الله… لصقل النفس البشرية لسيادة القيم التي يساندها العقل والفطرة.

أما دولة إسرائيل فدولة وثنية لعبادة المال والخنا والشهوة والضلال، لعبادة الجبروت والمظالم والطغيان. إذا كان الشاعر العربي قال: والمالُ مُذْ كانَ تِمْثَالٌ يُطَافُ بِهِ *** والنَّاسُ مُذْ خُلِقُوا عُبَّادُ تِمْثَالِ

فإن عبادة المال وعبادة الدنيا، لا اعتراف بالآخرة، لا اعتراف بقيم، لا اعتراف بشريعة السماء، لا شيء عند اليهود أكثر من المادة، العجل الذهبي الذي عبد قديماً، أعيدت عبادته بشكل آخر. ولولا أن المسلمين باعدت بينهم وبين دينهم أزمات روحية ومادية طاحنة، لكان لليهود مصير آخر، وشأن آخر.

إنها مقارنة بين المسلمين الأولين وما امتازوا به، وكيف أن ما امتازوا به نقلوه وهم يهاجرون، وأسسوا به دولة على عين الدنيا، هي الوالد الحقيقي لكل ما على ظهر الأرض الآن من قِيم ومن تقدم ومن حضارة. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ(26)﴾ [الشورى:25-26].

وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله، إمام الأنبياء، وسيد المصلحين ، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، واستذكروا أمجاد آبائكم العقلية والنفسية كي تستطيعوا بهذه الأمجاد أن تقيموا دولة الإسلام وحضارة الإسلام.

إن الجهود الآن تبذل لإقامة حضارة مادية كَفُور في فلسطين، وقد نجح هؤلاء اليهود إلى الآن في أن يقيموا لهم دولة تفرض نفسها على ما حولها، ولكن الظروف من حولهم هي التي مكنت من إقامة هذه الدويلة.

والحرب لابد أن تبقى بين أهل الإيمان وبين يهود الأرض ووُرَّاث الكفر ومشيعي الربا والزنا في عالمنا الحاضر، لابد وأن تبقي هذه الحرب، وأخوف ما أخاف أن يظن بعض الناس أن ذهابهم بعيداً بعشرين أو بثلاثين كيلو شرق القناة يعتبر شيئاً خطيراً، أو يعتبر أمراً نهائياً، إن الحرب قائمة ودائمة إلى أن يحق الحق ويبطل الباطل إلى أن تغسل هذه الأرض للأبد من أدران الذين نزلوا بها؛ يريدون أن يمحوا تراث الإسلام، وأن يمحوا أصالتنا وعراقتنا ودعوتنا الصحيحة إلى الله، وإلي وحيه، وإلي ما أنزل على لسان أنبيائه؛ لكن الشدائد التي نزلت بنا تحتاج إلى أن نحدد موقفنا منها.

إن أمتنا إلى الآن لا تزال تعاني من عطب حقيقي يجعل الشبه بين المسلمين قبيل الهجرة وبين المسلمين في العصر الحاضر مقطوعاً، أو بتعبير دقيق يجعل الشبه ضعيفاً، لم؟ لا نزال للآن لا نحسن الحكم على الأمور، لو أن ممثلاً هزلياً مشى في أحد الشوارع أو أحد الميادين، ومشى إلى جانبه عالم من الذين يشتغلون في بحوث الذرة، أو ممن يشتغلون في ميادين الطب، أو ممن يشتغلون بجهد في خدمة التراث والثقافة الإسلامية، فإن الجماهير ربما حيت بإكبار الممثل الهزلي ونسيت العالم بالذرة! ولقد كان لنا علماء في الذرة ماتوا فما فكر فيهم أحد، وإنما فكرنا في أن نحيي ذكرى التافهين من رجال السخرية والهزل والتمثيل والغناء وما إلى ذلك!.

العيب عيب الجماهير، نحن لا نعقل، امرأة تنجب ثمانية أطفال في الريف أحدهم في الحقل، والثاني في المصنع، والثالث في الجيش، والرابع في الجامعة، والخامس هنا، والسادس هنا، أشرف عند الله وأفضل في ميدان الحقيقة من ممثله أو راقصة تعرض مفاتنها على الخلق.

إننا لا ندري كيف نحكم، وجماهيرنا موقفها سلبي، وهذا الموقف السلبي خطير، ويجب أن يشعر الهازلون بأنهم حقراء، وأن الجماهير تنظر إليهم بعين مشمئزة ساخرة؛ يجب أن يشعر العاملون بأنهم موضع إعزاز الأمة، واحترام الخلق.

قلت لبعض الناس: إن الإعلام في أثناء المعركة كان خيراً كثيراً مما قبلها، وارتفع كثيراً عن المستوى الأول، هذا بالنسبة إلى الإذاعة، أما الإعلام في التليفزيون فهو أقل؛ لأن هذه الشاشة تفلتت إليها وجوه ممسوخة تخرج منها أشياء نابية، ولا تزال هذه الشاشة إلى الآن -كما أعلم- محرمة على بعض المحتشمات.

إن بعض البرامج القرآنية ألغيت بسبب أن مقدمتها تستر رأسها، وستر الرأس رجعية، وكشف الرأس تقدمية، لو قلنا لهؤلاء: دعوا الناس أحراراً كما تقولون، اتركوا هذا الأمر للحرية الشخصية في كشف رأسها، من كشفته كشفته، ومن سترته سترته، لقالوا لك: لا.. لا للحرية الشخصية التي تجعل المذيعة تغطي رأسها. إذن فالأمر ليس أمر حرية شخصية، الأمر أمر تخطيط لمنع التدين من أن يأخذ مجاله في المجتمع.

وفي المسرح الكبير لا يزال السقوط كاملاً، والمسارح والروايات التي تعرض لا تزال بعيدة عن المعركة، وعن الخُلُق، وعن الدين، وفي مطابخ المسرح المصري الآن رواية، ألفت النظر قبل أن يقع ما يحرج، رواية تتحدث بسخرية عن الجنة والنار، وعن الآخرة، وعن ملائكة الله، وعن إشارة حمراء تؤدي إلى النار، وإشارة خضراء تؤدي إلى الجنة، والإشارة الخضراء انفتحت لمومس كي تدخل الجنة.

الرقابة منعت الرواية من أن تظهر، لكن جهوداً أخرى أفلحت في أن تأخذ الرواية طريقها، وهي لم تخرج إلى الآن، ويوشك أن تخرج، وأنا أحذر من أن الرواية إذا خرجت فإن المؤمنين سيذهبون إلى المسارح لينزلوا من على خشبة المسرح من ينكت على الدار الآخرة، ومن يهزأ بالملائكة، سينزلوه ليضربوه بالنعال على وجهه.

أنا أنبه إلى هذا، فإننا لا نقبل أن يموت الشهداء باسم الله، وأن يعبروا القناة بنشيد الإسلام، وهو تكبير الله جل شأنه، ثم تبقى هنا وهناك بقايا تريد أن نكفر بالله.

لن نكفر، سنكون مؤمنين، سنبقى على ديننا، وسنحيي تراثنا، وسنجمع الأمة على هذا الهدف في موكب للحق، لا يُكَبَّر إلا الله، ولا يحترم إلا دينه!.

إننا نحذر من اللعب بالجنة والنار والملائكة، إن هؤلاء يلعبون بالنار، وإن مستقبلهم سيكون شراً عليهم وعلى من وراءهم.

"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر". رواه مسلم.

﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيم﴾ [الحشر:10].

عباد الله: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون﴾ [النحل:90].


تم تحميل المحتوى من موقع