فصبر جميل

أحمد بن عبد العزيز الشاوي
عناصر الخطبة
  1. كثرة المصائب والمحن .
  2. أهمية الصبر وفضله .
  3. حتمية الابتلاء .
  4. اقتران الصبر بالتقوى .
  5. الصبر المحمود .
  6. أشياء تهدم الصبر. .

اقتباس

إنه أمام ما يحل من مصائب وما ينزل من مِحَن، وما يقع من بلاء فلا بُد من التحلي بالصبر، فالصبر أمام الفتن تربية للنفوس وإعداد لها كي لا تطير شعاعًا مع كل نازلة، ولا تذهب حسرة مع كل فاجعة ولا تنهار جزعًا أمام الشدة.

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي عزَّ واقتدر، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق كل شيء بقدر، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبي الأغر، أُعطي فشكر، وابتُلِي فصبر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه النجوم والدرر وسلم تسليمًا.

أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون واصبروا فإنه (مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)[يوسف:90].

قَلِّب النظر، وتأمل في الواقع، وتحسّس الأخبار؛ فسترى أنك في عالم من المصائب والمحن.

تأمل في أحوال المسلمين وتأمل في حالي وحالك أخي المسلم، وما من يوم تشرق شمسه إلا وتحل بالمسلم نازلة ومصيبة؛ إما في نفسه أو في إخوانه، في ماله أو في عياله.

ابتلاءات بالأمراض والأسقام ومصائب بفقد الأحباب والأصحاب.. ابتلاءات بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات.

وأمام كل مصيبة تمر بنا في أنفسنا بأبداننا وأموالنا وأعراضنا وديننا ودنيانا لا نملك من حلّ ولا نعرف من سبيل سوى أن نقول (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ)[يوسف:18].

الصبر مثل اسمه مر مذاقته *** لكن عواقبه أحلى من العسل

الصبر نور يستنير به المسلم في حوالك الأزمات ومدلهم الكربات يعصمه من التخبُّط مهما ترادفت الضوائق، ويحفظه من القنوط واليأس مهما كثرت العوائق، والصبر ضياء يشع في النفس فلا تضجر عند وقوع المكاره ولا تيأس عند تأخر النتائج، ولا تركن عندما تستثقل الأعباء ولا تجزع عند وقوع البلاء.

الصبر إيمان يربط القلب بخالقه فلا يدعه يتقلب أو يتذبذب سواء أحاطت به سراء أو نزلت به ضراء؛ فلا السراء تُطغيه ولا الضراء تُجزعه، و"عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن".

الصبر ضرورة دنيوية كما هو ضرورة دينية؛ فلا نجاح في الدنيا ولا فلاح في الآخرة إلا بالصبر.

في الدنيا لا تتحقق الآمال ولا تنجح المقاصد ولا يُؤتي عمل أُكُله إلا بالصبر؛ فمن صبر ظفر، ومن عدم الصبر لم يظفر بشيء.

لقد عرف عُشَّاق المجد وخُطَّاب المعالي وطُلَّاب السيادة أن الرفعة في الدنيا كالفوز في الآخرة لا تُنال إلا بركوب متن المشقات وتجرُّع غصص الآلام والصبر عن كثير مما يُحَب وعلى كثير مما يُكْرَه، وبدون هذا لا يتم عمل ولا يتحقق أمل، ومن تخيل غير هذا الطريق كان كالذي قال لابن سيرين: إني أرى في المنام أني أسبح في غير ماء وأطير بغير جناح، فقال له: "أنت رجل كثير الأماني والأحلام تتمنى ما لا يقع وتحلم بما لا يتحقق".

لقد اقتضت حكمة الله أن يبتلي مَن شاء من عباده بأنواع من البلاء من شدة ورخاء، ومن سراء أو ضراء؛ وذلك ليتطهر الصف المؤمن من أدعياء الإيمان من المنافقين، ومن في قلوبهم مرض، وإنما يقع التمييز بين الأصيل والدخيل بالمحن والبلاء (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ)[آل عمران:179].

ولا بد أن يُبْتَلى المؤمنون؛ لزيادة رصيدهم ومقامهم عند الله، فهو يرفع درجاتهم، ويضاعف حسناتهم أو على الأقل يكفّر خطاياهم حتى يمشي أحدهم على الأرض وما عليه خطيئة، فـ"ما يصيب المسلم من همّ ولا غمّ ولا نَصَب ولا وَصَب ولا حزن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها من خطاياه".

ولا بد من الابتلاء ليتبين أحباب الله؛ فـ"إن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم"، و"إن عِظَم الجزاء مع عظم البلاء فمن رضي فله الرضا ومن سخط فعليه السخط".

وصدق الله: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)[آل عمران:186]؛ لتسمعن يا أهل الإيمان ما يحزنكم من أخبار أليمة، وفتاوى مستفزة ومقالات دنيئة وتغريدات ومقاطع سخيفة..

إنه أذى كثير مما يدل على أن حربًا كلامية ستُعْلَن على أهل الإيمان؛ لتشويه دعوتهم، وتلويث سُمعتهم، والتشكيك في سيرتهم وسريرتهم، وهي حرب أسلحتها الدّسّ والتحريف والافتراء فلا بد أن يُوطّن المؤمنون أنفسهم على احتمال مكارهها، ويصبروا على تجرُّع غُصَصها وليكن موقفهم (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)[إبراهيم:12].

إنه لا بد من الصبر المقرون بالتقوى، والذي يتطلب التعفف عن مقابلة الخصوم بمثل أسلحتهم الدنيئة؛ فلا يواجه الدسّ بالدسّ ولا الافتراء بالافتراء ولا تقابل الأفعال بردود الأفعال.

إنه الصبر الذي يدفع إليه الإخلاص لله وطلب رضوانه (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ)[المدثر:7]، (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ)[الرعد:22].

ستواجهكم أقدار الله المؤلمة فليكن جوابكم (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)[البقرة:156].

ستواجهكم تكاليف شرعية وأوامر ربانية فليكن حاديكم (أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)[لقمان:17]، (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)[الشورى:43].

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم..

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه.

أما بعد: فإن الصبر المحمود هو الصبر بمفهومه الواسع.. الصبر على شهوات النفس ورغباتها وأطماعها ومطامعها وضعفها ونقصها، والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصرفهم وانحراف طباعهم والتوائهم واستعجالهم للثمار.

والصبر على انتفاش الباطل ووقاحة الطغيان وغلبة الشهوة وتصعير الغرور والخيلاء.. والصبر على قلة الناصر وضعف المُعين وطول الطريق ووساوس الشيطان في ساعات الكرب والضيق.

والصبر على مرارة الاحتساب والصبر بعد ذلك كله على ضبط النفس في ساعة القدرة والغلبة والانتصار، واستقبال الرخاء في تواضع وشكر وبدون خيلاء وبدون اندفاع إلى الانتقام وتجاوز القصاص الحق إلى الاعتداء، والبقاء في السراء والضراء على صلة بالله واستسلام لقدره ورد الأمر إليه كله في طمأنينة وثقة وخشوع.

لا بد من الصبر المحمود عند البلاء، والصبر المحمود ما كان في أوانه فأما إن كان بعد فوات الأوان فلا قيمة له، فـ"إنما الصبر عند الصدمة الأولى".

والصبر المحمود لا يعني التكاسل والتواكل والتخاذل عن القعود عن العمل للدين والدعوة إليه، وإنما يكون الصبر مع العمل والبذل.

والصبر المحمود لا يعني الرضا بالذل والخنوع والخضوع للعدو والاستسلام للخصوم (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ)[الشورى:41].

والصبر المحمود تهدمه آفات نفسية وتخرم كماله علل قلبية.. يهدمه الاستعجال في قطف الثمار، فإذا أبطأ على العبد ما يريد نفد صبره وضاق صدره (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ)[الأحقاف:35].

ويهدمه الغضب حينما يرى الإنسان إعراض الناس ونفورهم من دعوته فيقنط وييأس (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ)[القلم:48].

والصبر المحمود يهدمه شدة الحزن والضيق من مكر الماكرين (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)[النحل:127].

والصبر المحمود يعارضه اليأس، فإذا انطفأ شعاع الأمل لم يبق صبر على استمرار العمل، فالأمل بالله أكبر عون للصابرين.

إنه أمام ما يحل من مصائب وما ينزل من مِحَن، وما يقع من بلاء فلا بُد من التحلي بالصبر، فالصبر أمام الفتن تربية للنفوس وإعداد لها كي لا تطير شعاعًا مع كل نازلة، ولا تذهب حسرة مع كل فاجعة ولا تنهار جزعًا أمام الشدة.

إنه التجمل والتماسك والثبات حتى تنقشع الغاشية، وترحل النازلة ويجعل الله بعد العسر يسرًا.

الصبر مفتاح ما يرجى *** وكل صعب يهون

فاصبر وإن طالت الليالي *** فربما أسلس الحرون

وربما نيل باصطبار *** ما قيل هيهات لا يكون

اللهم صلِّ وسلم ....


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي