هل سمعتَ بأجورِ الصَّائمينَ؟، هل عجبتَ من درجةِ القائمينَ؟، هل أصابَكَ حِينَها شُعورٌ بالعَجزِ في منافسةِ المُتنافسينَ، اسمعْ إلى عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- وَهِيَ تَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- يَقُولُ: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ"، فسبحانَ اللهِ!, هل رأيتُم كيفَ بلغتْ بهِ مكارمُ الأخلاقِ...
الْخُطبَةُ الْأُولَى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وخليله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عنهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ"؛ يَعْنِى: أَيَّامَ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ, قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ!: وَلاَ الْجِهَادُ في سَبِيلِ اللَّهِ؟! قَالَ: "وَلاَ الْجِهَادُ في سَبِيلِ اللَّهِ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ؛ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيءٍ".
لعلَّ الجميعَ يعرفُ فضلَ هذه الأيامِ وما يُستحبُّ فِعلُه فيها من العباداتِ المتنوعةِ؛ كالصَّلاةِ, والصِّيامِ, والصَّدقةِ, وذِكرِ اللهِ -تعالى-، ولكنِّي سأحدِّثُكم عن عملٍ صالحٍ عظيمِ الشَّأنِ، بل هو يومُ القيامةِ أثقلُ شيءٍ في الميزانِ؛ كما جاءَ في الحديثِ: "ما شيءٌ أثقلُ في ميزانِ المؤمِنِ يومَ القيامةِ مِن خُلُقٍ حسَنٍ".
إنَّها الأخلاقُ وما أدراكَ ما الأخلاقُ؟! فيها دوامُ المحبةِ والأُلفةِ والأشواقِ، بالأخلاقِ تُسترُ العيوبُ، ويملكُ الإنسانُ بها القلوبَ، بل حتى رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- وهو خيرُ البَشَرِ، ما تغلغلتْ محبتُه في شِغافِ قلوبِ البَشرِ، بل أحبَّه حتى الجبلَ من الحَجَرِ، إلا بأخلاقِهِ العاليةِ، وخِصالِهِ الغاليةِ؛ كما قالَ له ربُّه -تعالى-: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)[آل عمران: 159].
وهكذا الأُممُ لا تدومُ ولا تَبقى إلا بالأخلاقِ؛ فالأممُ التي لا أخلاقَ لها، لا بقاءَ لها، واسألوا التَّاريخَ والبلادَ، أينَ ذهبتْ ثمودُ وعادٌ؟! وليتنا فَهمنا البيتَ الذي كرَّرناه كثيراً لأحمدَ شوقيِ -رحمَه اللهُ- حينَ قالَ:
وإنِّما الأُمَمُ الأخلاقُ ما بَقِيَتْ *** فَإنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخلاقُهُمْ؛ ذَهَبُوا
أيُّها الحبيبُ: هل سمعتَ بأجورِ الصَّائمينَ؟، هل عجبتَ من درجةِ القائمينَ؟، هل أصابَكَ حِينَها شُعورٌ بالعَجزِ في منافسةِ المُتنافسينَ، اسمعْ إلى عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- وَهِيَ تَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- يَقُولُ: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ"، فسبحانَ اللهِ!, هل رأيتُم كيفَ بلغتْ بهِ مكارمُ الأخلاقِ، درجاتِ العابدينَ الذينَ بلغوا الآفاقَ؟.!
ولذلكَ كانتْ منازلُهم في أعالي الجِنانِ، فوقَ كثيرٍ من أهلِ الفضلِ والإيمانِ؛ كما قالَ -صلى اللهُ عليه وسلم-: "أنا زعيمٌ (أي: ضامنٌ) ببيتٍ في رَبَضِ الجنةِ؛ لمَن تَرَكَ المِراءَ وإن كان مُحِقّاً، وببيتٍ في وسطِ الجنةِ؛ لمَن تركَ الكذبَ وإن كان مازحاً، وببيتٍ في أعلى الجنةِ؛ لمَن حَسُنَ خُلُقُه"، أعلى الجنَّةِ هُناك حيثُ الأنبياءُ والصِّديقونَ والشُّهداءُ، هناك بالقُربِ من إمامِ الأتقياءِ، فهل اشتقتُم إليه؟، هل تشتاقونَ إلى مجلسِه وكلامِه؟، اسمعوه وهو يقولُ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَحَبِّكُمْ إِلَيَّ، وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟"، فَسَكَتَ الْقَوْمُ، فَأَعَادَهَا ثَلَاثًا، قَالَ الْقَوْمُ: نَعَمْ؛ يَا رَسُولَ الله!، قَالَ: "أَحْسَنُكُمْ خُلُقًا".
وإذا كُنتَ تسعى لتحصيلِ محبةِ ربِّ العالمينَ، التي بها الفلاحُ والنَّجاحُ في الدَّارينِ، فعليكَ بحُسنِ الخُلقِ؛ كما جاءَ في الحديثِ: "أحبُّ عبادِ اللَّه إلى اللَّهِ أحسنُهُم خُلُقًا".
وإذا كُنتَ تريدُ كمالَ الإيمانِ، فأحسِن إلى بني الإنسانِ؛ كما قالَ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: "أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا؛ الموَطَّؤون أكنافًا، الذين يألَفون ويُؤلَفون، ولا خيرَ فيمن لا يألَفُ ولا يُؤلَفُ".
أحسِنْ إلـى النّـاسِ تَستَعبِدْ قُلوبَهُمُ *** فطالَمـا استعبدَ الإنسـانَ إحسانُ
يا خادمَ الجسمِ كم تَشقـى بِخدمتِه *** أَتطلبُ الرِّبحَ فيمـا فيـه خُسرانُ
أَقبلْ على النَّفسِ واستكمل فَضائلَها *** فأنـتَ بالنَّفسِ لا بالجِسمِ إنسـانُ
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العَظيمِ، ونفَعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ، أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ، فاستغفِروه إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
أحمدُ ربي وأَشكرُه, وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأَشهدُ أن نبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه، اللهمَّ صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آلِه وأصحابِه.
أما بعد: فهناكَ من يهتمُّ بجانبِ التَّعبُّدِ للهِ بالطَّاعاتِ، وينسى الأخلاقَ وهي رُكنٌ من أركانِ العباداتِ، بل هي جُزءٌ عظيمٌ من بعثتِه -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- حينَ قالَ: "إِنَّمَا بُعِثتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخلَاقِ".
فما فائدةُ العبادةِ إن لم تكن طريقاً مُوصلاً لأحسنِ الأخلاقِ؟، وكيفَ لإنسانٍ أن يؤذيَ الخلقَ ثُمَّ يدَّعي أنَّه وليٌّ للخلَّاقِ، يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ!، إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: "هِيَ فِي النَّارِ"، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ!، فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنْ الْأَقِطِ (وهي القِطعُ من الأقط), وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: "هِيَ فِي الْجَنَّةِ"، فإذا كانَ في أخلاقِكَ زلَلٌ، فابحثْ في عبادتِكَ عن الخَللِ.
لَيْسَ الجَمالُ بأثوابٍ تُزيِّنُنا *** إنَّ الجَمالَ جَمالُ العِلْمِ والأدَبِ
وإذا أردتَ أن تَعرفَ أنَّكَ من أهلِّ الجنَّةِ وأنتَ في حياتِك؛ فانظر إلى معاملتِكَ للنَّاسِ وماذا يقولونَ عن أخلاقِكَ، فعَنْ أَنسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: مَرُّوا بِجَنَازَةٍ، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: "وَجَبَتْ"، ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ: "وَجَبَتْ"، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: مَا وَجَبَتْ؟، قَالَ: "هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا؛ فَوَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا؛ فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ"، فلا إلهَ إلا اللهُ! ماذا عسى أن يشهدَ لكَ النَّاسُ بعدَ موتِكَ؟.
اللهمَّ اهدِنا لأحسنِ الأخلاقِ والأعمالِ والأقوالِ والأهواءِ لا يهدي لأحسنِها إلا أنتَ، واصرفْ عنَّا سيئَها لا يصرفْ عنَّا سيئَها إلا أنت برحمتِك يا أرحمَ الرَّاحمينَ، اللهمَّ أصلحْ لنا الأبناءَ والبناتِ، وجميعَ الزَّوجاتِ، يا مجيبَ الدَّعواتِ، اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذِلَّ الشِّركَ والمشركينَ، ودَمِّرْ أعداءَ الدِّينِ، واجعلْ هذا البلدَ آمناً مُطمئناً سخاءً رخاءً وسائرَ بلادِ المسلمينَ، اللهمَّ آمنَّا في أوطانِنا، وأصلحْ أئمتَنا وولاةَ أمورِنا، اللهمَّ وَفِّقْ وليَ أمرِنا بتوفيقِك، وأيِّده بتأييدِك، واجعلْ عملَه في رِضاكَ، وهيئ له البِطانةَ الصَّالحةَ النَّاصحةَ، التي تَدلُه على الخيرِ وتعينُه عليه، اللهمَّ أيِّد به العلماءَ والنَّاصحينَ، وأيِّده بهم يا ذا الجلالِ والإكرامِ، يا ذا الطَّولِ والإنعامِ.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي