ثواب الروح

عبداللطيف بن عبدالله التويجري
عناصر الخطبة
  1. مصعب بن عمير وثمرة جهاده .
  2. حقيقة ثواب الروح .
  3. السبيل للحصول على ثواب الروح .
  4. من مصايد الشيطان ومكائده. .

اقتباس

منْ مصايدِ الشيطانِ الخطيرة إغفالُ الناسِ عنْ ثوابِ الروح، فمَا يزالُ بهم تشكيكًا في يقينِهم: تصدقتَ -أيها المسلمُ- فأينَ أضعافُها التي وعدَك الله؟! بررتَ والديك -أيها المسلم- فأينَ بركةُ دعواتِهما لك في الدنيا؟! استعففتَ عن الحرامِ والنظرِ الحرامِ؛ فلمْ ترزقْ زوجةً جميلة!, وهكذا تتزايدُ الشكوكُ الإبليسيةِ بالتقيِّ النقيِّ، حتى يقعَ بعضُهم في الشكِ...

الْخُطبَةُ الْأُولَى:

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وخليله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيُّهَا الإِخْوةُ في اللهِ: كانَ مِنْ أنعمِ شبابِ مكة، ومنْ أطيبِهم ملبسًا ومطعمًا، وأجملِهم حياةً وعيشة، ولمْ يبلغْ أحدٌ في النعمةِ مَبلغَه منَ الشباب، قرةُ عينِ والديه، يطعمونه أطيبَ الطعام، ويعاملونَه بألطفِ الكلام, عاشَ الفتى حياةً كريمةً في ظلِّ رعايةِ هذين الوالدين، فلمَّا ظهرَ نورُ الإسلام، وأشرقَ القرآن، كانَ لقلبِ هذا الفتى شأنٌ آخر معه، وهكذا الإيمانُ إذا خالطتْ بشاشتُه القلوب.!

مضى سفيرًا للإسلام، حاملًا نورَ الهدايةِ للأنام، مضى مهاجرًا إلى ربِّه، ناجيًا بدينِه, وبعدَ مُدةٍ ليستْ بالطويلةِ ماتَ شهيدًا فمضى إلى ربِّه، وفاضتْ روحُه، ووقعَ أجرُه؛ (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)[النساء: 100].

غادرَ الصحابيُّ الجليل، والشابُ الجميلُ مصعبُ بنُ عمير الدنيا ولمْ  ينلْ شيئاً منْ حظوظِها وثوابِها، ولكنَّه غادرَها بأعظم من ذلك كلِّه؛ إنَّه ثوابُ الروح!.

الثوابُ الباقي، الثوابُ الذي لا يفنى، والنعيمُ الذي لا يزول, في الصحيحينِ عنْ خباب بن الأَرَتِّ قال: "هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي سَبِيلِ اللهِ، نَبْتَغِي وَجْهَ اللهِ، فَوَجَبَ أَجْرُنَا عَلَى اللهِ، فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ شَيْءٌ يُكَفَّنُ فِيهِ إِلَّا نَمِرَةٌ، فَكُنَّا إِذَا وَضَعْنَاهَا عَلَى رَأْسِهِ، خَرَجَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا وَضَعْنَاهَا عَلَى رِجْلَيْهِ، خَرَجَ رَأْسُهُ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ضَعُوهَا مِمَّا يَلِي رَأْسَهُ، وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ الْإِذْخِرَ"، وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ، فَهْوَ يَهْدِبُهَا".

أيُّهَا الكِرام: إنَّ ثوابَ الروحِ له شأنٌ آخر, شأنٌ آخر تدركُه القلوبُ فتعرفُ به حقيقةَ الدنيا، وهذا منْ أعظمِ الثوابِ لكلِّ منْ يبذلُ نفسَه في محابِّ اللهِ ومرضاتِه وطاعتِه، وَإن نعيمَ الثوابِ ليسَ حصرًا في تضاعفِ الأرصدة، وتطاولِ الأبنية،  وجمالِ المظهر، وحسنِ المركب فحسب.

إن نعيمَ الروحِ يكمنُ حقيقةً في ثوابِ الروح، وجمالِ المخبر, فهلْ خيرٌ أفضل للعبدِ منْ حلاوةِ القلبِ وانشراحِ الصدر؟ وهل ثوابٌ أعظم منْ لذةِ المناجاةِ لله -تعالى-؟ وهلْ جزاءٌ أعظم من تيسيرِ العبدِ للطاعاتِ تلوَ الطاعات؟ فمَا بالُ بعضِنا يقصرُ الثواب على النعيمِ الدنيويِّ، ويغفلُ عنِ النعيمِ المقيمِ  الذي لا يحولُ ولا يزول!.

إنَّ المتاجرةَ معَ اللهِ -أيهَا الفضلاء-، والعملَ للهِ لا تضاهيها أيَّةُ متاجرةٍ مهمَا بلغت، فتجاراتُ الدنيا قائمةٌ على المخاطرةِ والظنون، والتجارةُ معَ اللهِ قائمةٌ على المرابحةِ واليقين؛ (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ)[فاطر: 29، 30].

يقولُ الإمامُ ابنُ تيميةَ -رحمَه اللهُ تعالى- في كلامٍ جميلٍ حولَ معنى  "الشكور": "إذَا لمْ تجدْ للعملِ حلاوةً في قلبِك وانشراحًا، فاتهمْه؛ فإنَّ الربَّ -تعالى- شكور", علَّقَ تلميذُه ابنُ القيمِ قائلًا: "يعني أنه لا بدَّ أن يثيبَ العاملَ على عملِه في الدنيا؛ منْ حلاوةٍ يجدُها في قلبِه، وقوةِ انشراح، وقرةِ عين, فحيثُ لمْ يجدْ ذلك؛ فعملُه مدخُول".

إنهَا مقاماتُ الإيمانِ العليَّة، ومدارجُ النعيمِ البقيَّة، حتى يبلغَ العبدُ ذروةَ المراتب، وراحةَ الجسد، وبركةَ العمل، وثوابَ الروح الحقيقي، وإنَّ ذلكم -يا عبادَ الله- لا يتحصل عليه العبدُ إلا بالاستقامةِ واليقين، والصبرِ والاحتسابِ والرضا.

أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيم: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ)[آل عمران: 145].

باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العَظيمِ، ونفَعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ، أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ، فاستغفِروه إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.

الخطبة الثانية:

أحمدُ ربي وأَشكرُه وأَشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأَشهدُ أن نبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه، اللهمَّ صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آلِه وأصحابِه.

عبادَ الله: إنَّ منْ مصايدِ الشيطانِ الخطيرة إغفالُ الناسِ عنْ ثوابِ الروح، فمَا يزالُ بهم تشكيكًا في يقينِهم: تصدقتَ -أيها المسلمُ- فأينَ أضعافُها التي وعدَك الله؟! بررتَ والديك -أيها المسلم- فأينَ بركةُ دعواتِهما لك في الدنيا؟! استعففتَ عن الحرامِ والنظرِ الحرامِ؛ فلمْ ترزقْ زوجةً جميلة!, وهكذا تتزايدُ الشكوكُ الإبليسيةِ بالتقيِّ النقيِّ، حتى يقعَ بعضُهم في الشكِ والحيرة، واليأسِ والقنوط.

ولا شكَّ أنه تغافل عن معنى ثوابِ الروحِ الحقيقي, وحسبُكَ بأهلِ الأخدودِ الذين أبيدوا جميعًا عنْ بكرةِ أبيهم، ولمْ يحصلُوا على الثوابِ الدنيويِّ مُطلقًا بل على عذابِه ونكالِه، ولكنهم ثبتُوا على دينِهم؛ فرزقوا ثوابَ الروحِ الأبدي، فخلد القرآنُ حكايتَهم للتاريخِ والأجيال: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ)[البروج: 10، 11].

عبادَ الله: إنَّه لا خسارةَ في العملِ للهِ أبداً؛ فالعاملُ لله لا بدَّ وأن يُثاب، وقدْ يجتمعُ ثوابُ الدنيا، وثوابُ الآخرة كما في بعضِ الصحابةِ الذينَ طالتْ أعمارُهم وبلغُوا الفتوحات؛ فأغدقَ اللهُ عليهمْ خيرَ الدنيا، وقدْ يعلمُ اللهُ أنَّ الخيرَ لعبدِه هوَ غلقُ أبوابِ الدنيا عليه؛ كيلا يُفتنَ بها، فافهمْ عنِ اللهِ -أيها المحبُّ- فإنه متى فتحَ لك بابَ الفهمِ في المنع؛ عادَ المنعُ عينَ العطاء، ومتى أعطاكَ أشهَدَكَ برَّه، ومتى منعكَ أشهدَك قهرَه، فهو في كلِّ ذلك متعرّفٌ إليك، ومقبلٌ بوجودِ لطفِه عليك.

أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيم: (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[آل عمران: 147، 148].

اللهم اجعلْنَا منَ الشاكرينَ المحسنين، واغفرْ لنَا أجمعين، وارزقْنا الفقهَ في الدين، وآتنَا في الدنيَا حسنة، وفي الآخرةِ حسنة، وقنَا عذابَ النار.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي