بعض فضائل عشر ذي الحجة

عبدالمحسن بن محمد القاسم
عناصر الخطبة
  1. اصطفاء الله لبعض خلقه لشرفه ومكانته .
  2. سبب فضيلة عشر الحجة .
  3. بعض أنواع الطاعات في عشر ذي الحجة .
  4. فضل يوم عرفة .
  5. من فقه الأضحية وآدابها .
  6. خصوصية حج هذا العام .
  7. ربما سبق السائر بقلبه السائرين بأبدانهم .

اقتباس

فالسعيدُ مَنِ اغتنَمَ مواسمَ الشهور والأيام والساعات، وتقرَّب إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات، فعسى أن تُصيبَه نفحةٌ من تلك النفحات، فيسعد سعادةً يأمن بعدَها من النار وما فيها من اللَّفحات، ويفوزَ بجنة عرضُها الأرضُ والسمواتُ...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعدُ: فاتقوا الله -عباد الله- حقَّ التقوى، وراقِبوه في السر والنجوى.

أيها المسلمون: يخلق الله من عباده ما يشاء ويختار، فاصطفى من الملائكة رُسُلًا ومن الناس، واختار من الكلام ذِكرَه، ومن الأرض بيوتَه، واجتبَى من الشهور رمضانَ والأشهرَ الحُرُمَ، وقد كانت الجاهلية تزيد في الأيام وتؤخِّر اتِّباعًا لهواها، فكان صيامهم في غير ميعاده، وحجُّهم في غير زمانه، وتفضَّل اللهُ على هذه الأمة ببعثة نبيِّنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقد استدار الزمانُ كما كان، ووقعت حجتُه في ذي الحجة، وقال في خطبته: "إنَّ الزمانَ قد استدارَ كهيئتِه يومَ خلَق اللهُ السماواتِ والأرضَ"(متفق عليه)، فاستُوفي العددُ وصحَّ الحسابُ، وعاد الأمرُ على ما سبَق من كتاب الله الأول.

والتفاضلُ بين الليالي والأيام داعٍ لاغتنام الخير فيها، ونبيُّنا -صلى الله عليه وسلم- حثَّ على اغتنام نِعَمٍ زائلةٍ لا محالةَ، فقال صلى الله عليه وسلم: "اغتنِمْ خمسًا قبل خمس: شبابَكَ قبلَ هَرَمِكَ، وصحتَكَ قبلَ سقمِكَ، وغناكَ قبلَ فقرِكَ، وفراغكَ قبل شُغلِكَ، وحياتَكَ قبل مَوتِكَ"(رواه النسائي).

وقد أظلَّتنا عشرُ ذي الحجة، أقسَم اللهُ بلياليها فقال: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ)[الْفَجْرِ: 1-2]، وهي من أيام الله الحُرُم، وخاتمة الأشهر المعلومات التي قال الله فيها: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ)[الْبَقَرَةِ: 197]، نهارُها أفضلُ من نهار العشر الأواخر من رمضان، قال صلى الله عليه وسلم: "أفضلُ أيامِ الدنيا أيامُ العشرِ"(رواه ابنُ حِبَّانَ).

وفضيلة عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادات فيها؛ من الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتَّى ذلك في غيرها، وكل عمل صالح فيها أحبُّ إلى الله من نفس العمل إذا وقَع في غيرها، قال عليه الصلاة والسلام: "ما من أيامٍ العملُ الصالحُ فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيامِ -يعني أيامَ العشر-، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ؟ قال: ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ، إلا رجلٌ خرَج بنفسِه ومالِه، فلم يرجع من ذلك بشيء"(رواه أبو داود، وأصله في البخاري).

قال ابن رجب -رحمه الله-: "وقد دلَّ هذا الحديثُ على أن العمل في أيام العشر أحبُّ إلى الله من العمل في أيام الدنيا من غير استثناءِ شيءٍ منها"، وقد كان السلف -رحمهم الله- يجتهدون بأعمال صالحة فيها، كان سعيد بن جبير -رحمه الله- إذا دخلت عشر ذي الحجة اجتهَد اجتهادًا حتى ما يكاد يُقدَر عليه.

ومِنْ فضلِ اللهِ وكرمه أن تنوَّعت فيها الطاعاتُ، فممَّا يُشرَع فيها الإكثارُ من ذكر الله -تعالى-، قال جلَّ شأنه: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ)[الْحَجِّ: 28]، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "هي أيام العشر"، وذِكْرُه -سبحانه- فيها من أفضل القُرُبات، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما مِنْ أيامٍ أعظمُ عند الله ولا أحبُّ إليه من العمل فيهنَّ من هذه العشر، فأكثِرُوا فيهنَّ من التهليلِ والتكبيرِ والتحميدِ"(رواه أحمد)، قال النووي -رحمه الله-: "يُستحَبُّ الإكثارُ من الأذكار في هذه العشر زيادةً على غيرها، ويستحبُّ من ذلك في يوم عرفة أكثرُ من باقي العشر".

وأفضلُ الذكرِ تلاوةُ كتابِ اللهِ؛ فهو الهُدَى والنورُ المبينُ، والتكبيرُ المطلَق في كل وقت من الشعائر في عشر ذي الحجة، وكان ابن عُمَرَ وأبو هريرة -رضي الله عنهما- يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبِّران ويكبِّر الناسُ بتكبيرهما، ويُشرَع التكبيرُ المقيَّدُ عقبَ الصلواتِ، كلُّ شخصٍ بمفردِه مِنْ فجرِ يومِ عرفةَ للحُجَّاج وغيرهم إلى آخِر أيامِ التشريقِ، وممَّا يُستحَبُّ في العشر صيامُ التسعةِ الأُولَى منها، قال النووي -رحمه الله-: "إنه مستحبٌّ استحبابًا شديدًا".

والصدقةُ عملٌ صالحٌ بها تُفرَج كروبٌ وتزول أحزانٌ، وخيرُ ما تكون في وقتِ الحاجةِ وشريفِ الزمانِ، والتوبةُ منزلتُها في الدينِ عاليةٌ، فهي سببُ الفَلاحِ والسعادةِ، أوجَبَها اللهُ على جميعِ الأمةِ مِنْ جميعِ الذنوبِ، قال جلَّ شأنُه: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[النُّورِ: 31]، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يَسأل اللهَ في اليوم مائةَ مرةٍ أن يتوبَ عليه، قال عليه الصلاة والسلام: "يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإنِّي أتوبُ في اليوم إليه مائةَ مرة"(متفق عليه).

ونحنُ إلى التوبة أحوجُ، وخيرُ الأيام على العبد يومُ توبتِه، قال عليه الصلاة والسلام لكعب بن مالك -رضي الله عنه-: "أَبْشِرْ بخيرِ يومٍ مرَّ عليكَ منذ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ"(متفق عليه)، وما أجملَ التائبَ يتوب في أحبِّ الأيامِ إلى الله، ومَنْ صدَق في توبته علا في الدرجات، وبدَّل اللهُ سيئاتِه حسناتٍ.

وفي أيام عشر ذي الحجة حَجُّ بيتِ اللهِ الحرامِ، أحدُ أركانِ الإسلامِ، ومبانيه العظام، قال جلَّ جلالُه: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)[آلِ عِمْرَانَ: 97].

وفي العشرِ يومُ عرفةَ، صيامُه يكفِّر السنةَ الماضيةَ والباقيةَ، "وما من يوم أكثرُ من أن يُعتِقَ اللهُ فيه عبدًا من النار من يوم عرفة"(رواه مسلم)، وفيها يومُ النحرِ أفضلُ أيامِ المناسكِ وأطهرُها وأكثرُها جمعًا، وهو يومُ الحجِ الأكبرِ، قال سبحانه: (وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ)[التَّوْبَةِ: 3]، وهو أعظمُ الأيامِ عندَ اللهِ، قال عليه الصلاة والسلام: "إنَّ أعظمَ الأيامِ عندَ اللهِ يومُ النحرِ، ثم يوم القَرِّ"(رواه أبو داود)، وهو أحدُ عِيدَيِ المسلمينَ، يومُ فرحٍ وسرورٍ بأداءِ ركنٍ من أركانِ الإسلامِ، وقد يغفُل الناسُ مع سرورِهم عن ذِكْرِ اللهِ، فكان الذِّكْرُ في أيامِها فاضلًا، قال سبحانه: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ)[الْبَقَرَةِ: 203]، وهي أيام التشريق، قال عليه الصلاة والسلام: "أيامُ التشريقِ أيامُ أكلٍ وشربٍ وذِكْرٍ لله"(رواه مسلم).

قال ابن حجر -رحمه الله-: "وقد ثبتَتِ الفضيلةُ لأيام العشر فتثبُتُ بذلك الفضيلةُ لأيامِ التشريقِ".

وفي أيام النحر والتشريق عبادةٌ ماليةٌ بدنيةٌ، هي مِنْ أحبِّ الأعمالِ إلى الله، قرنَها اللهُ بالصلاة، فقال سبحانه: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)[الْكَوْثَرِ: 2].

وقد حثَّ اللهُ على الإخلاص في النحر، وأن يكون القصدُ وجهَ اللهِ وحدَه، لا فخرَ ولا رياءَ ولا سمعةَ ولا مجردَ عادةٍ، فقال سبحانه: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ)[الْحَجِّ: 37]، و"ضحَّى النبي -صلى الله عليه وسلم- بكبشينِ أملحينِ أقرنينِ، ذبَحَهما بيده"(متفق عليه)، والأملحُ الأَسْوَدُ الذي يعلو شعرَه بياضٌ، والأقرنُ ذو القرونِ.

وأفضلُ الأضاحي أغلاها ثمنًا، ولا بأس أن يقترض الرجل ليضحِّي إن كان له قدرة على الوفاء، ومَنْ أراد أن يضحِّي حَرُمَ عليه في العشرِ أن يأخذَ من شعرِه وأظفارِه شيئًا، قال عليه الصلاة والسلام: "مَنْ كان له ذبحٌ يذبحه فإذا أهلَّ هلالُ ذي الحجة فلا يأخذنَّ من شعره ولا من أظفاره شيئًا حتى يضحِّيَ"(رواه مسلم).

وبعد أيها المسلمون: فالسعيد مَنِ اغتنَمَ مواسمَ الشهور والأيام والساعات، وتقرَّب إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات، فعسى أن تُصيبَه نفحةٌ من تلك النفحات، فيسعد سعادةً يأمن بعدَها من النار وما فيها من اللَّفحات، ويفوزَ بجنة عرضُها الأرضُ والسمواتُ.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)[الْحَدِيدِ: 21].

بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني اللهُ وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفِر اللهَ لي ولكم ولجميع المسلمينَ من كل ذنب فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا مزيدًا.

أيها المسلمون: دينُ الإسلام دينٌ عظيمٌ، مبنيٌّ على جلب المصالح ودرء المفاسد، ولحكمة أرادها الله أُصِيبَ الناسُ في مشارق الأرض ومغاربها بوباء لم يُسَطِّرِ التاريخُ مثلَه قبلَه قطُّ، في سيره في الأرض وخفائه وانتشاره والعَجْز عن دوائه، يصيب المتحفِّظَ منه أحيانًا، وقد يُخطئ -بأمر الله- غيرَ المتحفِّظ، وقد خصَّ اللهُ هذه البلادَ بالحرمينِ الشريفينِ، وشرَّف ولاةَ أمرِها بخدمتهما وبمحبتهما للمسلمين، والخوف عليهم ممَّا قد يَحُلُّ بهم من ضرر؛ لذا سَعَوْا باتخاذ أسباب لمنع عدوى حلَّتْ، يُرجَى دفعُها ورفعُها بعدمِ مخالطةِ الناس لا سيما في الحج، فأَرْجَئُوا زيادةَ الحجيج إلى العام المقبل؛ تفاؤلًا بفَرَجِ اللهِ ورحمتِه، واللهُ -سبحانه- متَّصِفٌ بالفضل والكرم، مَنْ نوى الحجَّ وحُبِسَ عنه لعذرٍ كُتِبَ له أجرُه، قال عليه الصلاة والسلام: "إنَّ بالمدينة أقوامًا ما سرتُم مسيرًا ولا قطعتُم واديًا إلا كانوا معكم، قالوا: يا رسولَ اللهِ، وهم بالمدينة؟ قال: حبسهم العذرُ"(رواه البخاري)، وربما سبَق السائرُ بقلبِه السائرينَ بأبدانهم.

ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيِّه، فقال في محكم التنزيل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِكْ على نبيِّنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدينَ، الذين قَضَوْا بالحقِّ وبه كانوا يعدلون، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعينَ، وعنَّا معهم بجودِكَ وكرمِكَ يا أكرمَ الأكرمينَ.

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشركَ والمشركينَ، ودمِّر أعداءَ الدين، واجعل اللهم هذا البلدَ آمِنًا مطمَئِنًّا رخاءً وسائرَ بلاد المسلمين.

اللهم أَلْبِسْ خادمَ الحرمينِ الشريفينِ لباسَ الصحة والعافية، وامنُنْ عليه بالشفاء، ووفِّقْه ووليَّ عهدِه لِمَا تحبُّ وترضى، وخذ بناصيتهما للبِرِّ والتقوى، وانفع بهما الإسلامَ والمسلمينَ، اللهم ارفع عن المسلمين الأوباء والأمراض والأسقام، ورُدَّهم إليكَ ردًّا جميلًا، اللهم تقبَّل من الحُجَّاج حجَّهم، وأَعِدْهُم إلى ديارهم سالمينَ مأجورينَ.

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201].

عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكركم واشكروه على آلائه ونعمه يزدكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي