عشتُم أشهرًا في صيفٍ غائظ، وحرٍّ شديد، وشمسٍ ملتهبة... ثم فجاءةً تنقلبُ الأوضاع، ويبدّلُ الله الأجواء، وتنهمرُ السُّحب، أفلا يدلُّ ذلك على اللطيف الخبير، والغني الحميد؟!.. حيَا البلدُ الميت، وسُقيت الكائنات، وطابتِ الحياة، بفضلِ هذا الصّيب النافع؛ فانظروا آثارَها، وعاينوا أفضالَها، وتدبروا أسرارَها..
الحمدُ لله تعالى، أنزلَ من السماء ماءً طهورًا؛ فأحيا به بلدةً ميتًا، وأنعامًا وأناسي كثيرًا، رزقَ به العباد، وتزينت به البلاد، نحمده حمدًا كثيرًا، ونشكره شكرًا مزيدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آلهِ وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا ربَّكم يا مسلمون وعظّموه، واشكروا نعمته وتوبوا إليه، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[الطلاق:2-3].
معاشر المسلمين: هل رأيتُم كيف تطهرَّت الأرضُ، وعمّ الرخاء، واهتزت المزارع، وانتفعَ الناس، …؟! إنه غيثُ الرحمة، والصيّب النافع، ورحماتُ السماء، وبركات الخالق؛ كما قال -تعالى-: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا)[سورة الفرقان:48-49].
ماذا أقولُ وأشواقي بها مطرُ *** ولذة السعدِ في أنحائي تنهمرُ؟!
حلَّ الجمالُ وحلّ الطيبُ يا أملي *** ماذا سأرسمُ من صفوي ولا أذرُ
كل المحازنِ عن دنيايَ قد رحلتْ *** وذلك الغيثُ أنوارٌ ومزدَهرُ
يا ربِّ فاكتبْ لنا بشرىً ومرحمةً *** واغسلْ قلوبًا به تحيا وتعتبرُ
أحيا اللهُ بهذه الرحمات بلادَكم، ونمَت زروعُكم، وطابت أنعامُكم، وانشرحت صدورُكم، فاعرفوا حقَّها، واشكروا واهبَها (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا)[إبراهيم:34].
حيَا البلدُ الميت، وسُقيت الكائنات، وطابتِ الحياة، بفضلِ هذا الصّيب النافع .انظروا آثارَها، وعاينوا أفضالَها، وتدبروا أسرارَها .عشتُم أشهرًا في صيفٍ غائظ، وحرٍّ شديد، وشمسٍ ملتهبة… ثم فجاءةً تنقلبُ الأوضاع، ويبدّلُ الله الأجواء، وتنهمرُ السُّحب، أفلا يدلُّ ذلك على اللطيف الخبير، والغني الحميد؟! (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ)[الشورى:28]؛ فاللهم صيبًا نافعًا، ينفع أجسامنا، ويحي بلادنا، وتنتفع معايشنا.
فخذْ لك من هذه الرحمة الإيمانية، والصّيب النافع، إيماناً في قلبك، وعقيدةً تربيكَ على توحيدِ الله وحبِّه والإخلاصِ له، وضمَّ إلى ذلك الإيمانَ بقدرته، وأنّ له مقاليدَ السموات والأرض، وهو مصدرُ الرزقِ والفضل -سبحانه-: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ)[النحل:53].
فاذا امتلأت حياتُك بالماء والغيث فاملأ فؤادَك بالذكر، وترطيب اللسان؛ (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ)[البقرة:153]؛ امتلكِ اللسانَ الرطب، الممتلئ ذكرًا وشكرًا وخضوعًا، اجعل من ذاك الغيث سببًا لكثرة الذكر، والشكر، وحُسن الإنابة.
لا تذهبْ حلاوةُ الأمطارِ إلى لهوٍ، ولعب، واستمتاع بلا اتعاظ!! فهناك محرومونَ من الغيث، ومُجدبون في الديار، وهلكى بهائمُهم وأرزاقهم.. فاحمدوا اللهَ واشكروه إليه ترجعون .
يا مسلمون :من منّا يستغني عن الماء في حياته، فأينما وجّهت نظرك في الحياة وجدت الماءَ عنصراً أساسيًّا في حياة المخلوقات، قال -تعالى-: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ)[الأنبياء:30]، فأينما وُجد الماء وُجدت الحياة والنّشاط، وشاعَ الفضل والتألق، وإذا غاب الماء، حلت النكبة والكآبة؛ حيث تغيبُ الخضرة، وتحلّ اليابسة والقحط في الأرض.
ولا شكّ في أنّ أحد أهمّ مصادر الماء في حياتنا: مياه الأمطار التي تأتي من السّحب والغيوم التي تتشكّل نتيجة تكثّف الماء من البحار والمحيطات، فيستبشر به أهلُ الايمان، ويزدادون يقينا بخالقِهم ورازقِهم، ويحولونه إلى ساعة دعاء ولهج وابتهاج .
ولذلك كان من سنن المطر ما يلي: عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسـول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا رأى المطر قال: "اللهم صيـباً نافعاً"(رواه البخاري)؛ والصيّب هو السحاب الكثيف المصبوب .
وصحّ قوله -صلى الله عليه وسلم-: "مُطرنا بفضل الله ورحمته"؛ وحينما يسميه نافعًا، دلَّ على أن هناك صيبًا ضارًّا، وهو المطر الذي تتكدر به الحياة، وتنهدم المعايش، ويستوحش الخلق.
وكان يحسِرُ صلى الله -صلى الله عليه وسلم- ثوبه عن جسمه حتى يصيبه المطر، فيقال له: يا رسول الله لِمَ صنعتَ هذا؟ قال: "إنه حديث عهد بربه تعالى"(رواه مسلم).
ويُستحبُ الدعاء عند نزوله لحديث: "ثنتانِ ما تُردان: الدعاءُ عند النداء، وتحت المطر".
ومن السنة أن يقول المسلم عند اشتدادِ هبوب الريح: "اللهم إني أسألك خيرَها وخيرَ ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرِّها وشر ما فيها، وشر ما أُرسلت به"(رواه مسلم).
ومثلُ هذه الآدابِ تعزّز معاني الإيمان في حياةِ المسلم، وعليها تُربّى الأجيال، وتُصان النعم (فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[الروم:50].
اللهم صيّبًا نافعًا، وغيثًا مباركًا، ورحمةً تحيي بها البلادَ والعباد ….
أقولُ قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين ….
الحمدُ لله وكفى، وصلاة وسلامًا على عباده الذين اصطفى، وعلى سولنا محمد خيرِ رسول مقتفى.
أيها الإخوةُ الفضلاء :اجعلوا من هطول الأمطار، ومن هذا الغيث النافع، سببًا في تعظيم الله وتعداد نعمه، وتذكروا من حُرم ذلك الخير، فعاش بئيسًا جائعًا، قد اغبرَّت بهم الدنيا، وضاقتِ المعايش، وباتوا في ضائقة شديدة .
ومن دروس المطر وثماره: أنه دليل بيّنٌ وبرهان صريح على قدرة الله على إحياء الموتى، وإثبات البعْث والنُّشور، فالذي يُحْيي الأرْض بعد موتِها وجدبها بالمطَر، قادرٌ على إحْياء الموتى بعد مُفارقتِهم للحياة؛ (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي المُوتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[سورة فصلت:39] .
وكما أنه حياةٌ وبهجة، قد يكونُ عذابًا ونقمةً، ولهذا لما اشتد زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- علّم أصحابه أن يقولوا: "اللهم حوَالَينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظِّراب ومنابت الشجر، وبطون الأودية".
ولكي تتم النعمة، علينا أن نعمل بهذه السنن، ونتجنب أخطار الأمطار واشتدادها، ونتعاون مع الجهات التي تحذر من الخروجِ وقت الشدة، أو التنزه عند مجاري السيول والأودية؛ فكم من فرحةٍ انقلبت مصيبة!، وكم من تساهلٍ جرّ إلى قلاقل، وكم من تهور قاد إلى فجيعةٍ وتكدر!
حفظكم اللهُ وأبناءكم، ومتّعنا بهذه النعم والأرزاق.
وصلوا وسلموا …
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي