السعادة عند السلف الصالح -رضي الله عنهم- وُجِدَتْ مع قلة ذات اليد, وشظف العيش, وقلة الموارد, ونُدرة المال؛ فالسعادة عند ابن المسيب في علمه, وعند البخاري في صحيحه, وعند الحسن البصري في صِدقه, ومع الشافعي في استنباطاته, ومالكٍ في فقهه, وأحمد في ورعه, وثابت البناني في عبادته...
الْخُطبَةُ الْأُولَى:
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على رسوله الكريم, وعلى آله وصحبه أجمعين, وبعد:
السعادة هي طمأنينة النفس, والشعور بالرضا والبهجة, والمشاعر الممزوجة بالتفاؤل والرضا, وكلُّ إنسانٍ في هذه الدنيا ينشد السعادة, ولكن أين توجد هذه السعادة؟, والسؤال هنا: هل توجد في القصور, أو الدور, أو الكنوز, أو الحدائق والبساتين, أو الشهرة؟!.
عباد الله: ليست السعادة شيكاً يُصرف, ولا مركبةً تُقتَنى, ولا وردةً تُشم؛ بل السعادة سلوة خاطر بحقٍّ يحمله, وانشراح صدرٍ لمبدأ يعيشه, وراحة قلبٍ لخير يكتنفه.
السعادة عند السلف الصالح -رضي الله عنهم- وُجِدَتْ مع قلة ذات اليد, وشظف العيش, وقلة الموارد, ونُدرة المال؛ فالسعادة عند ابن المسيب في علمه, وعند البخاري في صحيحه, وعند الحسن البصري في صِدقه, ومع الشافعي في استنباطاته, ومالكٍ في فقهه, وأحمد في ورعه, وثابت البناني في عبادته, ويصدق فيهم جميعاً قوله -تعالى-: (مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النحل: 96, 97].
وكثير من الناس يظن أنَّ التوسُّع في الدور, وكثرة الأشياء تُسعدهم وتُفرحهم, فإذا هي سبب الهم والكدر والتنغيص؛ لأنَّ كلَّ شيءٍ بهمِّه وغَمِّه, وضريبة كدِّه وكَدحِه, قال -سبحانه-: (وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[طه: 131].
ومن تفاهة الدنيا ما قاله النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلاَّ ذِكْرَ اللَّهِ, وَمَا وَالاَهُ, أَوْ عَالِمًا, أَوْ مُتَعَلِّمًا"(حسن, رواه ابن ماجه), هذه هي حقيقة الدنيا وقصورها ودورها وجواهرها ومناصبها؛ فمن تفاهتها يمتع فيها الكافر, ويُضَيَّق فيها على المؤمن؛ ابتلاءً وامتحاناً من رب العالمين.
وأفضل الأنبياء والمرسلين -عليه الصلاة والسلام- عاش فقيراً, يتلوى من الجوع, لا يجد رديء التمر يسد جوعه, ومع ذلك عاش في نعيمٍ لا يعلمه إلاَّ الله, وفي انشراحٍ وارتياح, وانبساطٍ واغتباط, وفي هدوءٍ وسكينة, (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)[الضحى: 3-5].
وإنَّ سلامة المسلم بدينه أعظم من مُلك كسرى وقيصر؛ لأنَّ الدِّين هو الذي يبقى معه حتى يستقر في جنات النعيم, وأما المنصب والجاه فإنه زائل لا محالة, قال الله -تعالى-: (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ)[مريم: 40].
وها هو عتبة بن غزوان -رضي الله عنه- خَطَب الناسَ مُتعَجِّباً, كيف كان حاله مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! يأكل معه ورق الشجر مجاهداً في سبيل الله, في أحلى أيامه, وأرضى ساعات عمره, ثم بعد وفاة النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أصبح أميراً وحاكماً.
ومِثْلُه سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- أصابه الذهول, وهو يتولى إمارة الكوفة, بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, وقد أكل معه الشجر, وأكل جلداً ميتاً يشويه, ثم يسحقه, ثم يحتسيه على الماء.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسّلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:
أيها المسلمون: لمَّا دخل عمرُ بن الخطاب -رضي الله عنه- على الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم-, وهو في المشربة, ورآه على حصيرٍ أثر في جنبه, وما في بيته إلاَّ شعير معلق, دمعت عينا عمر, ثم قال: ادْعُ اللَّهَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنْ يُوَسِّعَ عَلَى أُمَّتِكَ؛ فَقَدْ وَسَّعَ عَلَى فَارِسَ وَالرُّومِ, وَهُمْ لاَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ, فقال له النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟! أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا"(رواه مسلم).
وفي رواية عند البخاري: قال عمر -رضي الله عنه- واصفاً حال النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "وَإِنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، وَإِنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا مَصْبُوبًا، وَعِنْدَ رَأْسِهِ أَهَبٌ مُعَلَّقَةٌ", فَرَأَيْتُ أَثَرَ الْحَصِيرِ فِي جَنْبِهِ فَبَكَيْتُ, فَقَالَ: "مَا يُبْكِيكَ؟", فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ, وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ!, فَقَالَ: "أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا, وَلَنَا الآخِرَةُ".
إنها مُعادلة واضحة, وقِسمة عادلة, فليست السعادة في القصور والدور والأشياء, وإنما هي الصدور والقلوب والزهد في الدنيا, فأين سعادة قارون؟! وسرور وفرح هامان؟! فالأول مدفون, والثاني ملعون.
فالسعادة في الإيمان والإحسان, والصبر والتضحية؛ كما كان حال بِلال وسلمان وعمَّار, (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ)[الأنعام: 90], وقال -سبحانه-: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ)[الأحقاف: 16].
وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه؛ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي