وداع عام واستقبال عام

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
عناصر الخطبة
  1. أصناف الناس مع مرور الزمان .
  2. الاعتبار برحيل العام .
  3. وقفة محاسبة .
  4. بماذا تستقبل عامك الجديد؟. .

اقتباس

ودِّعوا بالتوبة النصوح عامًا مضى، واستقبلوا بالاستعداد للخير عامًا أتى، ولتكن هذا العام أعمالكم أحسن من سالف الأعوام، وأيامكم فيه أجمل من ذاهب الأيام...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:

أيها المسلمون: ليل يتبعه نهار، ونهار يعقبه ليل، وعام يمضي وآخر يأتي، سُنة ثابتة جرت عليها هذه الحياة الفانية حتى يموت الأحياء، وعلى إثرهم تموت الحياة؛ فالناس في سفر دائم، والزمان يسوقهم والموت ينتظرهم، ولا يزالون مسافرين حتى يصلوا إلى الوطن الأخير؛ إما الجنة وإما النار، وصدق الشاعر حيث قال:

فالعيشُ نوم والمنيّة يقظة ** والمرءُ بينهما خيالٌ سارِ

فاقضُوا مآربكم عِجالاً إنما ** أعماركم سفرٌ من الأسفار

والناس -أيها المؤمنون- مع مرور الزمان أصناف ثلاثة: صنف يمضي بهم الزمان وهم غافلون عن الاعتبار بمضيه، تسير بهم الحياة إلى نقصان الأعمار، ولقاء الآجال وهم مع ذلك لازالوا غافلين، فلا بخير تزودوا للآخرة، ولا بكف عن الذنوب استعدوا للقاء ربهم فيها، فلا يستيقظون من سبات غفلتهم إلا وهم في القبور من الخاسرين؛ (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)[الزمر:47].

وصنف نظروا إلى تصرم الأيام، وتعاقب الأعوام نظرة تفكر بلا عمل، ونظرة حزن على سرعة انقضاء الزمن من غير تصحيح مسارهم المعوج، وسرعان ما يذهب ذلك التفكر اللحظي بعودتهم إلى لهو دنياهم.

وصنف آخر-وهم أهل اليقظة من الأنام- الذين يعتبرون ويعملون؛ فقد تأملوا في ذهاب الليالي والأيام فساقهم ذلك إلى التوبة من الزلل، والاستعداد بصالح العمل، وتهيئة النفس بزاد التقوى لملاقاة الأجل.

أيها المسلمون: ألا فلنكن من أهل الاعتبار والعمل؛ فهذا العام الذي جاوزناه مرحلة من مراحل هذه الحياة القصيرة التي يصيبنا منها أيام يسيرة؛ فهو يذكرنا بأن هذه الدنيا لا تدوم، بل هي إلى الزوال صائرة، وبمن فيها إلى الفناء سائرة، مهما تزينت وحَلَت، واتسعت وعلت؛ قال -تعالى-: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[يونس:24].

فلا يغترن أحد بحياة فانية؛ فينسى بها الحياة الباقية، وإننا في آتي الأعوام سنودع مَن بعدنا كما ودعنا من قبلنا في هذا العام؛ فنصير خبراً كما صاروا اليوم لدينا أخبارا، قال الشاعر:

حكمُ المنيَّة في البريَّة جارِ ** ما هذه الدنيا بدار قرارِ

بينا يُرى الانسانُ فيها مخبراً ** حتى يُرى خبراً من الاخبار

ومرور العام وذهابه يذكرنا بذهاب الأعمار وانقضائها؛ فكلما انقضت سنة من سنوات الحياة انقضى جزء من أعمارنا فاقتربنا من آجالنا ولقاء جزاء أعمالنا؛ (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ)[الأنعام:62].

قال الحسن البصري-رحمه الله: يا ابن آدم: إنَّما أنت أيامٌ مجموعة، كلّما مضى يومٌ مضى بعضُك.

وقال -رحمه الله-: ابنَ آدم: إنَّما أنت بين مطيتين يُوضعانِكَ-أي يسيران بك-، يُوضِعُك النهار إلى الليل، والليل إلى النهار، حتى يُسلِمَانِك إلى الآخرة.

أيها المؤمنون: إن أحسن ما نقوم به ونحن نودع عامنا الهجري أن نقف على مشارفه وقفة محاسبة شاملة لما قدمنا فيه؛ فإن أهل التجارة يقفون على رأس كل عام وقفة محاسبة؛ يحسبون ما لهم وما عليهم، وما ينبغي أن يفعلوه في قادم أيامهم، أليس -يا عباد الله- أولى بأن نقف كذلك مع أعمالنا؟ حتى نتوب من ذنب ارتكبناه، ونجدد العزم على عمل صالح عملناه، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الحشر:18].

وقال عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه-: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا؛ فإنّه أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزيّنوا للعرض الأكبر؛ (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ)".

ألا فلنحاسب أنفسنا مع ربنا فيما جرى منا هذا العام: هل امتثلنا أوامره، واجتبنا زواجره، ووقفنا عند حدوده؛ فإن حق الله عظيم، وعقابه على التفريط فيه عقاب أليم.

ولنحاسب أنفسنا: هل حفظنا دينه ورفعناه، وعملنا به وأظهرناه، ونشرنا نوره ونصرناه.

ولنحاسب أنفسنا: هل كنا مع أمتنا في أفراحها وأتراحها؛ نفرح لعزها وسلامتها، ونحزن لآلامها وأوجاعها، أم أننا عشنا هذا العام لأنفسنا وشهواتها، وتناسينا أحوال أمتنا التي تجمعنا؟

ولنحاسب أنفسنا: هل أحسنا إلى الناس، أم أسأنا إليهم، هل صنعنا لهم الخير، وكففنا عنهم الشر، وهل اعتبرنا بمن ماتوا هذا العام وفارقوا الدنيا ولكن في أعناقهم حقوق للعباد؛ فهل نحب أن نلقى الله ونحن كذلك؟

فيا خسارة من أتاه أجله وفي رقبته مظالم للناس من دم أو مال أو عرض؛ فإن هذا هو الإفلاس العظيم، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار"(رواه مسلم).

فطوبى لعبد وقف هذا الوقفة في وداع عامه، فرجع فكره إلى ما قدم فيه من الأفعال فإن وجد سوءاً تاب إلى الله منه، واستغفر من خطيئته، وكف عن مقارفته والعودة إليه، وإن رأى أنه أخذ حق أحد ظلمًا ومنعه حقاً له، فليعد الحقوق إلى أهلها، وليخلص رقبته منها، وليعتبر بمن ماتوا من الأقارب والأصحاب، والجيران والأحباب، فلقد صاروا مرتهنين بأعمالهم، ولا أمل لعودتهم إلى دنياهم؛ (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[النور:31].

نسأل الله أن يغفر لنا ما اكتسبنا هذا العام من السيئات، وأن يتقبل منا ما عملنا فيه من الصالحات.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم..

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

عباد الله: إذا أفلتْ شمس عام رحل؛ فقد أشرقت شمس عام أقبل، فيه فرصة من الزمان لمن مُد في أجله، يستطيع فيها استدراك ما فات، وإصلاح ما هو آت؛ فها هو العام الجديد-معشر المسلمين-يحط رحله بيننا، فما نحن عاملون فيه؟.

والعاقل منا من يستقبل عامه الجديد بالعزم على استغلال وقته فيما يقربه من ربه، وينفعه في أمر دينه ودنياه؛ فلا يقطع زمنه باللهو والعبث، وما يعود عليه بالعواقب الوخيمة؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لرجل وهو يعظه: "اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك"(رواه الحاكم).

ويستقبل العام الجديد بالحرص على الاستعداد للآخرة؛ فإن الأعمار محدودة، والأيام الدنيوية معدودة، ولا يدري الإنسان متى يأتيه رسول ربه يناديه بالرحيل، فالفائز من سابق واستعد؛ قال -تعالى-: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)[المائدة:48].

وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنكبي فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"، وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك"(رواه البخاري).

أيها المؤمنون: لقد هل العام الجديد صفحة بيضاء ستسطر فيها أعمالٌ وأحداث؛ ألا فاستقبلوه بصفحة نقية مع الله بتوبة عجلتموها، ونية صالحة للخير بيّتموها، وعزيمة للمنافسة في البر قد أعددتموها.

واستقبلوه -أيضًا- بصفحة مشرقة للحياة؛ فإن آلامتكم أحداث عامكم الراحل؛ فتفاءلوا بعامكم النازل، وأملوا في الله خيراً فيه، واسألوه أن يجعله عام خير واطمئنان، وأحسنوا الظن بربكم، وإياكم والتشاؤم والقلق وتوقع المكروهات؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قال الله -جل وعلا-: "أنا عند ظن عبدي بي؛ إن ظن خيراً فله، وإن ظن شراً فله"(رواه أحمد).

فيا عباد الله: ودِّعوا بالتوبة النصوح عامًا مضى، واستقبلوا بالاستعداد للخير عامًا أتى، ولتكن هذا العام أعمالكم أحسن من سالف الأعوام، وأيامكم فيه أجمل من ذاهب الأيام.

نسأل الله أن يعيننا على فعل الخير وترك الشر فيما نستقبل، وأن يختم أعمالنا بالباقيات الصالحات، فهذا ما نؤمِّل.

وصلوا وسلموا على خير الأنبياء؛ (إِنَّ اللَّه وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب:٥٦].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي