وربك العدل الكريم لا يُضِلُّ سعيَ من عمل، لكنَّ حرمانَ العامل من الخاتمة الحسنة إنما هو بسبب ما كسبت يداه، إما بمراءته، أو تسميعه لأعماله، أو بعُجْب داخل باطنه فأحبط عمله، أو بذنوب خفيّات تراكمت على القلب بشبهات أو شهوات، حتى غلب أثرها قبل نهاية أنفاسه، وخُتم له بتلك الخاتمة السيئة.
إخوة الإيمان: الخاتمة الحسنة، والميتة الحميدة أمنية تمتدُّ لها الأعناق، ومبتغى تهفوا له القلوب والأشواق. وبضدها فإن سوء الخاتمة مصير مروع، وانتهاء مفزع، وخاتمة استعاذ منها الأنبياء والصالحون ومن له قلب يخشع.
وبين حسن الخاتمة وسوئها نقف مع حدثين معبِّرين، وخاتمتين متغايرتين، عَجِبَ منه الأصحاب -رضي الله عنهم-، وحُقَّ لهم أن يَعْجبوا.
ها هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحفُّه جموعُ المسلمين، متوجهين إلى خيبر؛ حيثُ ديارِ المغضوب عليهم، ليطهِّرَ تلك الديار من هؤلاء الأنجاسِ، الخونة الأرجاس، بعد أن آذوا وحاكوا المؤامرات، وشكلوا جبهة خطيرة في شمال المدينة.
وبينا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- في طريقه التفت إلى عامر بن سنان بن الأكوع فقال له: "خذ لنا من هَنَاتِك" أي: أنشد لنا. فقال عامر:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ***ولا تصدقنا ولا صلينا
فألقين سكينة علينا *** وثبّت الأقدام إن لاقينا
إنَّا إذا صِيحَ بنا أتينا *** وبالصياح عوَّلوا علينا
وقبل أن يصل المسلمون خيبر رآهم بعض فلاحي اليهود، فصاحوا: "محمد والخميس معه"؛ أي: الجيش. فانطلقوا هاربين ومنذرين، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين".
حتى إذا وصل الجيش الإسلامي مدينة خيبر، حاصرها وجعل يفتحها حصنًا حصنًا، ثم كان من أمر فتح خيبر ما كان، في أيام مليئة بالحوادث المثيرة، يضيق الوقت عن الوقوف معها واستقصائها، وإنما سنقترب من حدثين فيهما عبرة، وأي عبرة.
أولاهما: هو لعبد أسود حبشي، كان يرعى غنماً لرجل من يهود خيبر، هذا الراعي لا يعرف رسمه، ولم تذكر لنا كتب التاريخ اسمه، غير مؤثر ولا صاحب قرار، لا يعنيه شأن السياسة، ولا هو من أصحاب التجارة، وإنما مبلغ سعيه غنيمات يسوسها ويرعى شأنها.
سأل هذا الرجل بعض اليهود عن تخندقهم وجمعهم للسلاح؟ قالوا: "نقاتل الذي يزعم أنه نبي"، لم يزيدوا عن هذه الكلمة، لكنها كلمة وقعت وفعلت في نفس هذا الحبشي.
فما كان منه إلا أن حمل الغنم وسرح بها إلى الضفة الأخرى؛ حيث يعسكر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فمشى حتى انتهى إلى النبي ووقف عنده، وسأله ماذا تقول: وما تدعو إليه؟ قال: "أدعو إلى الإسلام، وأن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وألا نعبد إلا الله"، قال العبد: فمالي إن شهدت وآمنت بالله -عز وجل-؟، قال: "لك الجنة إن مت على ذلك".
فانشرح صدر الراعي للإسلام، وفزَّ قلبه لرضى الله وجنته، فأعلن إسلامه، ثم قال للنبي-صلى الله عليه وسلم-: "يا رسول الله إن هذه الغنم أمانة عندي"؛ فماذا أمره النبي-صلى الله عليه وسلم-؟ هل رآها غنيمة باردة ساقها الله إليه؟ أم استباحها بحجة أنها ليهودي محارب، فكل ذلك كان رهن إشارة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنما قال: "أخرجها من عندك وارمها بالحصباء، فإن الله سيؤدي عنك أمانتك".
هذا الموقف النبوي للراعي وقد سمعه ورآه الناس، يغنيك عن آلاف الخطب والقصائد والأشعار في الأمانة، وعدم الخيانة حتى مع الأعداء. أما الغنيمات فقد مشت إلى صاحبها اليهودي بسلام وأمان، ووصلت عنده كاملة سمان.
وأما خبر الراعي فقد انضم للمسلمين قبل القتال، لم يتعلم فرائض الإسلام ولا شعائره، بل حتى الصلاة عمود الدين، لم يكن ثمة وقت لتعلمه وتعليمه، فدخل المعركة فكان من الشهداء، ثم جيء به إلى فسطاط النبي-صلى الله عليه وسلم-.
ألقى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرات ثم قال: "أيها الناس! لقد أكرم الله هذا العبد وساقه إلى خيبر، ولقد رأيت عند رأسه اثنتين من الحور العين ولم يسجد لله سجدة واحدة"؛ هذا فضل من الله، وفضل الله يؤتيه من يشاء، ويختص برحمته من يشاء.
ومن خبر الراعي الحبشي إلى خبر الشجاع المقدام القوي، الذي جذب الأنظار بصولاته وجولاته يوم خيبر، فكان لا يدع شاذَّة ولا فاذَّة إلا أعمل فيها السيف، حتى أصبحت بطولاته حديث الصحابة وهم الأبطال، وتسابقت إليه أوصافٌ من الثناءِ والمدحِ العال.
لكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان له رأي آخر، ففاجأ الناس وقال: "أما إنه من أهل النار"؛ فأعظم الصحابة -رضوان الله عليهم- ذلك، وقالوا: أينا من أهل الجنة إن كان من أهل النار؟!
فقال أحد الصحابة وقد امتلأ يقينا بصدق حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي لا ينطق عن الهوى: والله لا يموت على هذه الحال أبدًا، فجعل يتابع ويتَّبع الرجل، كلما أسرع أسرع، وإذا أبطأ أبطأ معه، حتى جرح، فاشتدت جراحته واستعجل الموت، فوضع سيفه بالأرض وذبابه -أي: حدَّ السيف- بين ثدييه، ثم تحامل عليه، فقتل نفسه.
فجاء الرجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أشهد أنك رسول الله، أشهد أنك رسول الله"، وأخبر النبي خبر ما رأى، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام- "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وإنه لمن أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وإنه لمن أهل الجنة".
بارك الله لي ولكم...
أما بعد فيا إخوة الإيمان: في هذين الخبرين عبرة ورسالة: أن لا يغتر الإنسان بعمله، وأن لا يستحقر أحداً بانحرافه، أو يشمت بضال ما عرف طريق الإيمان والهداية، فلربما خُتِمَ لهذا الرجل بخاتمة عالية تتقرَّحُ العيون لأجلها، ولربما ختم لهذا المغتر بخاتمة سوء يستعاذ منها، فالعبرة بالخواتيم.
وربك العدل الكريم لا يُضِلُّ سعيَ من عمل، لكنَّ حرمانَ العامل من الخاتمة الحسنة إنما هو بسبب ما كسبت يداه، إما بمراءته، أو تسميعه لأعماله، أو بعُجْب داخل باطنه فأحبط عمله، أو بذنوب خفيّات تراكمت على القلب بشبهات أو شهوات، حتى غلب أثرها قبل نهاية أنفاسه، وخُتم له بتلك الخاتمة السيئة.
ويؤكد هذا ما جاء في هذا الحديث: "إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس"، وأما في الباطن فالأمر خلاف ما يراه الناس.
وقديمًا قيل: "الخواتيم ميراث السوابق"، فخاتمة السعادة لا ينالها عبد إلا إن كان مقيمًا على طاعة الله، ظاهرًا وباطنًا، والمقيم على طاعة الله بإخلاص وصدق ومتابعة، لا يخذله ربه؛ فربنا كريم شكور، يعامل العبد من جنس نيته وقصده.
اللهم يا من بيده مقاديــر الأمـور، ومفاتيح القلــوب، اللهم تب علينــا، وألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، اللهم اختم لنا بخير، واجعل مآلنا إلى خير.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي