الإخلاص

خالد بن محمد الشارخ
عناصر الخطبة
  1. لا يقبل الله العمل إلا إذا كان خالصًا .
  2. ما هو الإخلاص .
  3. النية مع العادة تجعلها عبادة .
  4. تفاضل الأعمال بعمل القلوب .
  5. خوف السلف الصالح من الرياء .
  6. الأخفياء بصالح العمل .
  7. المسمعون بأعمالهم .
  8. ثلاث مسائل دقيقة في الرياء والإخلاص .

اقتباس

إن شأن الإخلاص مع العبادات -بل مع جميع الأعمال حتى المباحة- لعجيب جدًا، فبالإخلاص يعطي الله على القليل الكثير، وبالرياء وترك الإخلاص لا يعطي الله على الكثير شيئًا؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمل فيه إخلاصه وعبوديته لله، فيغفر الله به كبائر الذنوب كما في حديث البطاقة...

 

 

 

 

أيها المسلمون: إن الإخلاص هو حقيقة الدين ومفتاح دعوة المرسلين؛ قال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) [النساء: 125]، وعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال الله تعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري، تركته وشركه". رواه مسلم.

وقال –صلى الله عليه وسلم-: "من تعلم علمًا مما يبتغى به وجه الله -عز وجل- لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا لم يجد عرف الجنة -يعني ريحها- يوم القيامة. رواه أبو داود. والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدًا.

أيها الإخوة في الله: قد يقول قائلكم: ما هو الإخلاص الذي يأتي في الكتاب والسنة واستعمال السلف الصالح -رحمهم الله-.

فأقول: لقد تنوعت تعريفات العلماء للإخلاص، ولكنها تصب في معين واحد ألا وهو أن يكون قصد الإنسان في حركاته وسكناته وعباداته الظاهرة والباطنة، وجه الله تعالى، لا يريد به شيئًا من حطام الدنيا أو ثناء الناس.

قال الفضل بن زياد: سألت أبا عبد الله -يعني الإمام أحمد بن حنبل- عن النية في العمل، قلت: كيف النية؟! قال: "يعالج نفسه، إذا أراد عملاً لا يريد به الناس".

قال أحد العلماء: "نظر الأكياس في تفسير الإخلاص، فلم يجدوا غير هذا: أن تكون حركته وسكونه في سره وعلانيته لله تعالى، لا يمازجه نفسٌ ولا هوىً ولا دنيا".

أيها المسلمون: إن شأن الإخلاص مع العبادات -بل مع جميع الأعمال حتى المباحة- لعجيب جدًا، فبالإخلاص يعطي الله على القليل الكثير، وبالرياء وترك الإخلاص لا يعطي الله على الكثير شيئًا؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمل فيه إخلاصه وعبوديته لله، فيغفر الله به كبائر الذنوب كما في حديث البطاقة، وحديث البطاقة كما أخرجه الترمذي وحسنه والنسائي وابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مدّ البصر، ثم يقال: أتنكر من هذا شيئًا؟! أظلمك كتبتي الحافظون؟! فيقول: لا يا رب، فيقال: أفلك عذر أو حسنة فيها؟! فيقول الرجل: لا، فيقال: بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، فيقول: يا رب: ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟! فيقال: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة". صححه الذهبي.

قال ابن القيم -رحمه الله-: "فالأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة، وبينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض". قال: "وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مدّ البصر، تثقل البطاقة وتطيش السجلات، فلا يعذب. ومعلوم أن كل موحد له هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار بذنوبه". اهـ. رحمه الله.

ومن هذا أيضًا -أيها الإخوة- حديث الرجل الذي سقى الكلب، وفي رواية: بغي من بغايا بني إسرائيل؛ فعن أبي هريرة أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئرًا فنزل فيها فشرب، ثم خرجه فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي قد بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفّه ماءً ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له"، قالوا: يا رسول الله: إن لنا في البهائم أجرًا؟! فقال: "في كل كبد رطبة أجر". متفق عليه. وفي رواية البخاري: "فشكر الله له فغفر له فأدخله الجنة".

ومن هذا أيضًا ما رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو أيضًا عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين"، وفي رواية: "مر رجل بغصن شجرة على ظهر طريق فقال: والله لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم، فأُدخل الجنة".

قال شيخ الإسلام -رحمه الله- معلقًا على حديث البغي التي سقت الكلب وحديث الرجل الذي أماط الأذى عن الطريق قال -رحمه الله-: "فهذه سقت الكلب بإيمان خالص كان في قلبها فغفر لها، وإلا فليس كل بغي سقت كلبًا يغفر لها".

فالأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإجلال.

أيها الإخوة: وفي المقابل نجد أن أداء الطاعة دون إخلاص وصدق مع الله، لا قيمة له ولا ثواب فيه، بل صاحبه معرض للوعيد الشديد، وإن كانت هذه الطاعة من الأعمال العظام كالإنفاق في وجوه الخير، وقتال الكفار، وقيل: العلم الشرعي.

كما جاء في حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأُتي به، فعرفه نعمته فعرفها قال: فما عملت فيها؟! قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت ليقال: جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأُتي به يعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت؟! قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكن تعلمت ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من صنوف المال، فأُتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟! قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار". رواه مسلم.

أيها الإخوة في الله: ولذلك فقد كان سلفنا الصالح -رحمهم الله- أشد الناس خوفًا على أعمالهم من أن يخالطه الرياء أو تشوبه شائبة الشرك، فكانوا -رحمهم الله- يجاهدون أنفسهم في أعمالهم وأقوالهم، كي تكون خالصة لوجه الله -سبحانه وتعالى-.

ولذلك لما حدث يزيد بن هارون بحديث عمر –رضي الله عنه-: "إنما الأعمال بالنيات"، والإمام أحمد جالس، فقال الإمام أحمد ليزيد: يا أبا خالد: "هذا الخناق".

وكان سفيان الثوري يقول: "ما عالجت شيئًا أشد عليّ من نيتي؛ لأنها تتقلب علي".

وقال يوسف بن أسباط: "تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد".

وقال بعض السلف: "من سرَّه أن يكمُل له عمله، فليحسن نيته، فإن الله -عز وجل- يأجر العبد إذا أحسنت نيته حتى باللقمة".

قال سهل بن عبد الله التستري: "ليس على النفس شيء أشق من الإخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيب".

وقال ابن عيينة: "كان من دعاء مطرف بن عبد الله: اللهم إني أستغفرك مما زعمت أني أردت به وجهك، فخالط قلبي منه ما قد علمت".

وهذا خالد بن معدان كان -رحمه الله- إذا عظمت حلقته من الطلاب قام خوف الشهرة.

وهذا محمد بن المنكدر يقول: "كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت".

وهذا أيوب السختياني كان يقول الليل كله، فإذا جاء الصباح -أي الفجر- رفع صوته كأنه قام الآن.

وكان -رحمه الله- إذا حدّث بحديث النبي –صلى الله عليه وسلم- يشتد عليه البكاء وهو في حلقته، فكان يشد العمامة على عينه ويقول: "ما أشد الزكام!! ما أشد الزكام!!".

وهذا عبد الواحد بن زيد يخبرنا بحدث عجيب حصل لأيوب، وقد عاهده أن لا يخبر إلا أن يموت أيوب إذ لا رياء حينئذ، قال عبد الواحد: "كنت مع أيوب فعطشنا عطشًا شديدًا حتى كادوا يهلكون، فقال أيوب: تستر عليّ؟! فقلت: نعم، إلا أن تموت. قال عبد الواحد: فغمز أيوب برجله على حرّاء، فنبع الماء فشربت حتى رويت وحملت معي".

وقال أبو حازم: "لا يحسن عبد فيما بينه وبين ربه إلا أحسن الله ما بينه وبين العباد، ولا يعور ما بينه وبين الله إلا أعور الله ما بينه وبين العباد، ولمصانعة وجه واحد أيسر من مصانعة الوجوه كلها".

وهذا داود بن أبي هند يصوم أربعين سنة لا يعلم به أهله، كان له دكان يأخذ طعامه في الصباح فيتصدق به، فإذا جاء الغداء أخذ غداءه فتصدق به، فإذا جاء العشاء تعشى مع أهله.

وكان -رحمه الله- يقوم الليل أكثر من عشرين سنة ولم تعلم به زوجته.

سبحان الله، انظر كيف ربّوا أنفسهم على الإخلاص، وحملوها على إخفاء الأعمال الصالحة، فهذا زوجته تضاجعه وينام معها ومع ذلك يقوم عشرين سنة أو أكثر ولم تعلم به، أي إخفاء للعمل كهذا، وأي إخلاص كهذا.

فأين بعض المسلمين اليوم الذي يحدث بجميع أعماله، ولربما لو قام ليلة من الدهر لعلم به الأقارب والجيران والأصدقاء، أو لو تصدق بصدقة أو أهدى هدية، أو تبرع بمال أو عقار أو غير ذلك لعلمت الأمة في شرقها وغربها، إني لأعجب من هؤلاء، أهم أكمل إيمانًا وأقوى إخلاصًا من هؤلاء السلف؛ بحيث إن السلف يخفون أعمالهم لضعف إيمانهم، وهؤلاء يظهرونها لكمال الإيمان؟! عجبًا ثم عجبًا، فإني أوصيك -أخي المسلم- إذا أردت أن يحبك الله وأن تنال رضاه فما عليك إلا بصدقات مخفية لا تعلم شمالك ما أنفقت يمينك، فضلاً أن يعلمه الناس، وما عليك إلا بركعات إمامها الخشوع، وقائدها الإخلاص، تركعها في ظلمات الليل، بحيث لا يراك إلا الله، ولا يعلم بك أحد.

إن تربية النفس على مثل هذه الأعمال لهو أبعد لها عن الرياء وأكمل لها في الإخلاص، وقد كان محمد بن سيرين -رحمه الله- يضحك في النهار حتى تدمع عينه، فإذا جاء الليل قطعه بالبكاء والصلاة.

اللهم ارزقنا الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا، واجعلها خالصة لك، صوابًا على سنة رسولك، آمين.

  

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الذي خلق فسوى، والذي قدَّر فهدى، والذي أخرج المرعى، فجعله غثاءً أحوى.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أيها الإخوة في الله: اعلموا أن الإخلاص ينافيه عدةُ أمورٍ من حب الدنيا والشهرة والشرف والرياء، والسمعة والعجب.

والرياء هو إظهار العبادة لقصد رؤية الناس فيحمدوا صاحبها، فهو يقصد التعظيم والمدح والرغبة أو الرهبة فيمن يرائيه.

وأما السمعة فهي العمل لأجل سماع الناس.

وأما العجب فهو قرين الرياء، والعجب أن يعجب الإنسان بعبادته، ويرى نفسه بعين الإعجاب، وكل هذه من مهلكات الأعمال.

وهناك -أيها الإخوة- مسالك دقيقة جدًا من مسالك الرياء يوقع الشيطان فيها العبد المؤمن من حيث يشعر أو لا يشعر، وسأذكر لك بعضها؛ لأن الحديث عن الرياء والعجب وغيرهما مما ينافي الإخلاص حديث طويل جدًا، ولكن حسبي في هذا المقام أن أورد لك ثلاثة من تلك المسالك الدقيقة للرياء، وهذه المسالك غالبًا يقع فيها الصالحون إلا من رحمه الله.

أما أولها: فما ذكره أبو حامد الغزالي حيث قال أثناء ذكره للرياء الخفي: "وأخفى من ذلك أن يختفي العامل بطاعته، بحيث لا يريد الاطلاع، ولا يسّر بظهور طاعته، ولكنه مع ذلك إذا رأى الناس أحب أن يبدؤوه بالسلام، وأن يقابلوه بالبشاشة والتوقير، وأن يثنوا عليه، وأن ينشطوا في قضاء حوائجه، وأن يسامحوه في البيع والشراء، وأن يوسعوا له في المكان، فإن قصر فيه مقصر ثقل ذلك على قلبه، ووجد لذلك استبعادًا في نفسه، كأنه يتقاضى الاحترام مع الطاعة التي أخفاها، مع أنه لم يطلع عليه، ولو لم يكن قد سبق من تلك الطاعة لما كان يستبعد تقصير الناس في حقه، وكل ذلك يوشك أن يحبط الأجر ولا يسلم منه إلا الصديقون".

وأما ثانيها: فهو أن يجعل الإخلاص لله وسيلة لا غاية وقصدًا، فيجعل الإخلاص وسيلة لأحد المطالب الدنيوية.

وقد نبّه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- على تلك الآفة الخفية، فكان مما قال -رحمه الله-: "حكي أن أبا حامد الغزالي بلغه أن من أخلص لله أربعين يومًا تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه قال: فأخلصت أربعين يومًا فلم يتفجر شيء، فذكرت ذلك لبعض العارفين فقال لي: إنك إنما أخلصت للحكمة ولم تخلص لله تعالى".

وهذا مسلك خطير كما سمعت، وقليل من يتفطن له، والأمثلة عليه كثيرة من الواقع، فتجد بعض الناس يكثر من الأعمال الصالحة في أيام الاختبارات مثلاً كصيام النوافل وقيام الليل وكثرة الصلاة والخشوع، وقلبه منعقد على أنه إذا أكثر من العبادات سيوفق في اختباره أو سيفوز بوظيفة ما، فهذا بالحقيقة إنما أخلص للاختبارات، وذلك أخلص للوظيفة.

ومن ذلك أيضًا أن بعض الناس يذهب إلى المسجد ماشيًا أو يحج كل سنة أو غير ذلك من العبادات التي فيها رياضة، ويكون قد انعقد في قلبه أنه يفعل ذلك لينشط جسمه أو يحرك الدورة الدموية كما يقولون.

قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: "فإن خالط نية الجهاد مثلاً نية غير الرياء، مثل أخذ أجرة للخدمة أو أخذ شيء من الغنيمة أو التجارة نقص بذلك أجر جهادهم ولم يبطل بالكلية". اهـ.

بل اجعل مشيك للمسجد وحجك وعبادتك خالصة لله تعالى، وهذه الأشياء تحصل حتمًا دون أن تعقد عليها قلبك.

وأما ثالث هذه المسالك الدقيقة وهو ما أشار إليه الحافظ ابن رجب -رحمه الله- بقوله: "ها هنا نكتة دقيقة، وهي أن الإنسان قد يذم نفسه بين الناس، يريد بذلك أن يري الناس أنه متواضع عند نفسه، فيرتفع بذلك عندهم ويمدحونه به، وهذا من دقائق أبواب الرياء، وقد نبه عليه السلف الصالح".
 

 

 

 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي