إن النية تصحب المسلم في كل أحواله، في عباداته، وفي معاملاته، وفي علاقته بأهله، وفي علاقته بالآخرين، إنها النية الدالة على ما يكون بالخلق من محبة الله وإخلاص العمل له. إن الله -جل وعلا- يعلم سرّنا وعلانيتنا، ولا يخفى عليه شيء من أحوالنا، (قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ ?للَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَا فِي ?لأرْضِ وَ?للَّهُ عَلَى? كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ)...
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله: يقول الله -جل جلاله-: (وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَيُؤْتُواْ الزَّكَوةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَةِ) [البينة: 5]، ويقول -جل جلاله-: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدًا) [الكهف: 110].
أيها المسلمون: في هاتين الآيتين بيان لركني قبول العمل، وأن الله -جل جلاله- لا يقبل عمل أي عامل إلا أن يكون هذا العمل خالصًا لله، يبتغي به عامله وجه الله والدار الآخرة، فإن يكن العمل رياءَ الناس ومحبة مديح الناس، وثناء الناس عليه، ولم يكن المقصود منه التقرب إلى الله، كان عملاً باطلاً.
يقول –صلى الله عليه وسلم-: "قال الله -عزَّ وجلَّ-: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه"، وفي لفظ: "وأنا منه بريء".
وأمر آخر، والركن الثاني: كون هذا العمل على وفق ما دل عليه كتاب الله وسنة محمد –صلى الله عليه وسلم-، فكل عمل على خلاف كتاب الله وخلاف سنة رسول الله –صلى الله عليه وسلم-؛ فإن الله لا يقبله من عامله، ولو أراد به التقرب إلى الله، قال تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَـاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً) [الغاشية: 2-4]، عملٌ خالصٌ لكنه على خلاف شرع الله؛ قال تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِلأَخْسَرِينَ أَعْمَـالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) [الكهف: 103، 104]، وقال تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً) [الفرقان: 23]، فلا بد أن يكون العمل على وفق ما دل الكتاب والسنة عليه.
وقد أنكر الله على من اهتدى بغير كتابه وسنة رسوله –صلى الله عليه وسلم-؛ قال تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُواْ لَهُمْ مّنَ الدّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ) [الشورى: 21].
أيها المسلمون: وبين النبي –صلى الله عليه وسلم- في سنته ذلك، وأن العمل لا بد فيه من إخلاص واتباع للحق، فروى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه".
هذا الحديث حديث عظيم له شأنه، وهو أحد الأحاديث التي بنيت عليها شريعة الإسلام.
"إنما الأعمال" يبين –صلى الله عليه وسلم- متى يُقبَل العمل، فقال: "إنما الأعمال": إنما صحة العمل، إنما صحته وفساده، وإنما يثاب أو يعاقب العبد عليه بالنية، فالنية هي التي تحدد قصده، هي التي يتحدد بها الثواب والعقاب، صحة العمل أو فساد العمل، يتحدد بها صحة العمل أو فساد العمل، "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"، وما قصد من خير أو ضده.
أيها المسلمون: إن النية تصحب المسلم في كل أحواله، في عباداته، وفي معاملاته، وفي علاقته بأهله، وفي علاقته بالآخرين، إنها النية الدالة على ما يكون بالخلق من محبة الله وإخلاص العمل له.
أيها المسلمون: إن الله -جل وعلا- يعلم سرّنا وعلانيتنا، ولا يخفى عليه شيء من أحوالنا، (قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَـاوتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ) [آل عمران: 29].
والله تعالى لا ينظر إلى صورنا ولا إلى أموالنا، ولكن ينظر إلى قلوبنا وأعمالنا، فنظر الله إنما هو لقلوبنا بما يكون فيها من إخلاص، وإلى أعمالنا هل وافقت شرع الله أو لا؟!
أيها المسلم: النية عمل قلبي لا يعلمه إلا الله، والناس فيه متفاوتون على قدر ما يقوم في قلوبهم من إخلاص لله، وهذه النية تصحبك في كل أحوالك، فخذ مثلاً الطهارة، الوضوء الشرعي، الوضوء الشرعي عبادة لله، يتقرب بها العبد إلى الله امتثالاً لقوله: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلوةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ...) الآية [المائدة: 6].
إذًا لماذا يتوضأ المؤمن؟! لأن الله أمره بذلك، ففي قلبه إرادة لامتثال أمر الله، والسمع والطاعة لله، فهو يتوضأ مستصحبًا لهذه النية في أول وضوئه وآخره، لكنه لا ينطق بها؛ لأن النطق بها ليس له أية فائدة، بل هو من أمورٍ ما شرعها الله لنا؛ لأن هذا دينٌ والله يعلم حالنا، (قُلْ أَتُعَلّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـاوتِ وَمَا فِى الأَرْضِ وَللَّهُ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ) [الحجرات: 16].
تقوى هذه النية عندما يستقصد المسلم اتباع السنة، ويطبق السنة في وضوئه كأنه ينظر إلى محمد –صلى الله عليه وسلم- وهو يتوضأ، تصديقًا عمليًا متبعًا للكتاب والسنة، نيته التقرب إلى الله بهذا العمل.
يغسل الغسل الواجب عليه يحمله على ذلك طاعة الله، (وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَطَّهَّرُواْ) [المائدة: 6]، فهو يتطهر طاعة لله، ولذا ما ائتمن الله عبدًا على شيء ما ائتمنه على غسل الجنابة.
يقوم للصلاة، فإذا خرج إلى الصلاة خرج بنية أداء الفريضة طاعة لله، ولهذا يقول –صلى الله عليه وسلم-: "صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته بخمس وعشرين ضعفًا؛ وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا كتب الله له بها حسنة وحطّ عنه بها خطيئة".
فانظر -أخي المسلم- قوله: "لا يخرجه إلا الصلاة" يعني أنه يخرج لأداء الفريضة بنية الطاعة لله والاتباع لمحمد –صلى الله عليه وسلم-.
يؤدي زكاة ماله بنية صادقة، هذه النية تحمله على أداء الزكاة طاعة لله، فالأموال الخفية لا يعلم بها أحد، لكنه يؤدي زكاة ماله متقصيًا لكل ماله طاعة لله، ونية صادقة يتقرب بها إلى الله، (خُذْ مِنْ أَمْولِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ) [التوبة: 103]، نية صالحة لأداء الواجب، مخالفًا لمن عصوا الله وأخلفوا وعده، (وَمِنْهُمْ مَّنْ عَـاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ ءاتَـانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّـالِحِينَ * فَلَمَّا ءاتَاهُمْ مّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِى قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ) [التوبة: 75-77]. أما المؤمن فيؤدي الزكاة بنية صالحة يتقرب بها إلى الله، يطبق أمر الله، ويسمع لله ويطيعه.
المسلم يمسك عن الشهوات في نهار الصيام، لماذا؟! نيته أن يتقرب إلى الله بترك مشتهيات النفس، يرجو بها وعد الله الصادق للصائمين، (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّـابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10].
إن المؤمن يحج البيت الحرام، والنية الصادقة هي التي تسوقه إلى مفارقة الولد والمال والبلد، طاعة وقربة يتقرب بها إلى الله، "والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة".
إنه في بيعه وشرائه، تحضره النية الصادقة، لا يُظهر للناس شيئًا، صُوَرًا ظاهرها الصحة، والباطن خلاف ذلك، نيته صالحة في تعامله.
إنه يتعامل مع أهله وزوجته وأولاده، وينفق عليهم نفقة يبتغي بها وجه الله مؤديًا للواجب، مع النية الصالحة، يقول لسعد بن أبي وقاص: "إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تضعه في في امرأتك"، فإنفاقه على زوجته، وإنفاقه على ولده، وبره بأبويه، كل تلك الأعمال تصحبها نية خالصة لله، يريد بها التقرب إلى الله.
المسلم حتى في إفشاء وردّ السلام، وحتى في تشميت العاطس، وحتى في لين الجانب، وحتى في العفو عمن ظلمه، وحتى في الإحسان لمن أساء إليه، كل هذه الأمور يفعلها طاعة لله، ونية صالحة يبتغي بها وجه الله، لا يعمل الأشياء مجرد عادة، ولا مجاملة، ولكن النية الصالحة في قلبه تتحرك في كل ما فيه طاعة لله وقربة يتقرب بها إلى الله.
إن أعمال المسلم كلها طاعة لله في كل أحواله، وذاك فضل الله على المسلم، أن هذه الأعمال الصالحة بالنية الحسنة يرفعه الله بها درجة، ويحقق له بها الخير.
وأسأل الله لي ولكم الإخلاص له في القول والعمل.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله: إن النية في القلب كلما قوي تأثيرها في القلب عظم الثواب.
أيها المسلم: إن من فضل الله عليك أن نيتك للخير تعطيك ثواب العاملين، إذا كان الحامل على عدم العمل العجزُ وعدمُ القدرة، يقول الله -جل وعلا-: (وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى الأرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَـاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ) [النساء: 100]، فنيته الصالحة جعلته في عداد المهاجرين، وقد مات ولم يبلغ دار المهاجرين.
أيها المسلم: النبي –صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك ذات العسرة غزا، وتخلف عنه أقوام من أصحابه، ما تخلفوا نفاقًا ولا قلة إيمان، ولكن حبسهم العذر، فالنبي –صلى الله عليه وسلم- أراد أن يبين فضلهم فقال: "إن بالمدينة أقوامًا، ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا، إلا كانوا معكم، حبسهم العذر"؛ ولذا قال الله: (وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ) [التوبة: 92].
أيها المسلم: عملك الصالح الذي كنت تعمله من صلاة، من صيام، من فعل خير، إذا عجزت عنه فإن الله -جل وعلا- يثيبك على النية الصالحة، يقول –صلى الله عليه وسلم-: "إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمله صحيحًا مقيمًا".
حتى إن المسلم -من فضل الله- يثاب على قصده الخير، ولو كان متعًا وشهوات وملذات إذا أراد بها كفَّ نفسه عن الحرام، وكف أهله عن الحرام، أثابه الله على هذه النية الصالحة، ولو كانت متعًا وملذات.
يقول –صلى الله عليه وسلم- لما عدّ أنواع الوسائل التي يتحقق بها للمسلم الصدقة، قال: "وفي بُضع أحدكم صدقة"، أي فرجه، قالوا: يا رسول الله: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! يقولون: يا رسول الله: جماع الرجل امرأته لذة ومتعة، أيكون له أجر وهو قصد المتعة والتلذذ؟! قال: "أرأيتم لو وضعها في الحرام كان عليه وزر؟! فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر". فهذا من نعمة الله على المسلم، أن ملذاته ومتعه، تنقلب أعمالاً صالحة، ينال عليها الثواب إذا كانت النية خالصة لله.
قال بعض السلف: "إن نوم المؤمن وأكله وشربه كل ذلك أعمال صالحة تجري عليه إذا أراد بها التقوّي على طاعة الله". ففرقٌ بين المؤمن وبين غيره، فغير المؤمن المتع والملذات هي المسيطرة على نفسه، ولا صلة له بالله، وإنما شهوات وملذات، مآكل ومطاعم ومناكح، وليس صلة بالله، أما المسلم فخلاف ذلك، كل خطواته وأعماله يقصد بها التقرب إلى الله، فالنية الصالحة تصحبه في كل أحواله، فيرتقي بذلك إلى درجات الكمال.
وأسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المخلصين الصادقين إنه على كل شيء قدير.
واعلموا -رحمكم الله- أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد –صلى الله عليه وسلم-.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي