لو علم المنتحرُ عقوبةَ ما أقدم عليه ما قتل نفسه, بل -والله- ما خطرتْ على باله فكرةُ الانتحارِ أصلاً, فضلاً أن يقدمَ عليها؛ إنها عقوبةٌ شديدةٌ أليمة, يظنُّ المنتحرُ أنه يتخلصُ بقتلِ نفسه من...
الْخُطبَةُ الْأُولَى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يَهْدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، ومن سار على نهجه، واقتفى أثره إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا، أمَّا بَعْدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -جل وعلا-, (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا)[الطلاق: 4].
عباد الله: الدنيا أحوالٌ متقلبة, لا تستقر على حالٍ واحد, يتقلبُ فيها الإنسانُ بين حياةٍ وموت, وصحةٍ ومرض, ورخاءٍ وشدة, وغنىً وفقر, ويسرٍ وعسر, يكابدُ فيها ألواناً شتى من الأحوال, قال -تعالى-: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ)[البلد: 4], فلا راحةَ أبديةَ للمرءِ فيها, ولا تخلو من الهمومِ والمنغِّصات, قال ابنُ الجوزي: "فأما من يريدُ أن تدومَ له السلامة، والعافيةُ من غير بلاء؛ فما عرف التكليف، ولا فهم التسليم", فينبغي للمؤمنِ أن يوطِّنَ نفسَه على تحملِ مصائبَها وآلامَها.
طُبِعَتْ على كَدَرٍ وأنت تريدُها *** صفواً من الأحزان والأكدار
ومُكَلِّفُ الأيام غَيْرَ طِبَاعِهَا *** مُتطلبٌ فِي المـــاء جَذوةَ نارِ
أيها الأحبة: النفسُ البشريةُ من الضرورياتِ الخمس, التي أوجبَ الشرعُ المحافظةَ عليها, وحذَّر من الاعتداءِ عليها, وأعظمُ الاعتداءِ على النفسِ إزهاقُها بلا حق, وأعظمُ الإزهاقِ أن يقتلَ المرءُ نفسَه!, قال -تعالى-: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)[النساء: 29],
وإنَّ قتل النفسِ من الكبائر العظيمة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ", وذكر منهنَّ: "وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ..."(صحيح البخاري), سواءً قتل المرءُ نفسَه بتناولِ السم, أو بغيره مما يؤدي إلى الوفاة, أو رمى نفسَه من علوٍ, أو أطلقَ على نفسِه الرصاص, أو طعنَ نفسَه بسكينٍ أو حديدة, أو قطعَ شريانَه وأسالَ دمَه, أو خنقَ نفسَه شنقاً, أو أحرقها أو غير ذلك من صور قتل النفس, فكل ذلك يعد انتحارا, وأعظمُ منه أن يقتلُ نفسُه ويقتلُ غيره في آنٍ واحد, كأبٍ ينتحرُ ويقتل أولادَه معه, أو أمٍ تنتحرُ وتقتلُ أولادَها معها, في صورٍ فظيعةٍ يتحيَّر العقل أن تحدث في الواقع!.
أيها الإخوة: إن تفشي هذه الظاهرة في عصرنا له أسبابٌ؛ منها:
ضعفُ الإيمانِ، وغلبةُ اليأسِ والقنوط, وسوءُ الظن بالله -تعالى-، فضعفُ الوازع الديني سببٌ رئيسي لهذه الظاهرة, ويتفرعُ عنه البعدُ عن الطاعات, والانغماسُ في الشهوات, فالحياةُ الماديةُ المجردة عن الإيمان تورثُ الوحشةَ في القلب, وصدق الله: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا)[طه:124].
ومن أسبابه: الجهل والظن الخاطئ عند المنتحر؛ أنه بإزهاقه لروحه سيضع حداً لآلامه, أو لما يُعانيه من مشكلاتٍ اقتصاديةٍ أو اجتماعية أو جسدية, أو ظروف معقدة يعيشها في الأسرة أو الدراسة أو المجتمع بشكلٍ عام!.
ومن الأسباب: الصدمات النفسية التي يواجهها الإنسان في حياته, فبعض الناس لديه طموحٌ عالٍ يريد الوصول إليه, لكنه ينصدم بالواقع فيفشل في تحقيق مراده؛ فيؤثر ذلك في نفسيته، فتسيطر عليه والوساوس, ويصير أسيراً للهموم والأحزان, مما يجعله مهيأً لمثل هذه الأفكار الشيطانية!.
ومن الأسباب: الانفتاحُ الإعلاميُ والفكريُ في عصرنا, والذي أدى إلى التأثرِ بالكفار في كل شؤونهم، وتقليدِهم حتى في مثل هذه االعظائم, فالأفلام والمسلسلات الغربية تزين الانتحار, وفي فكرهم المنحط أنه موتُ رحمة, يضع حداً لمعاناة الشخص, أو أنه وسيلة من وسائل الاعتراض السياسي, أو للاحتجاج على الأوضاع المعيشية!؛ فكرٌ إلحادي تتشربه عقولُ شبابنا, وقد قال نبينا -عليه الصلاة والسلام-: "لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ, شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ؛ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ"(متفق عليه).
أيها الأحبة: إذا عرفنا الأسباب الرئيسية التي تجعل المرء يقدم على قتل نفسه؛ سهل علينا علاج هذه الظاهرة في مجتمعاتنا, وأول أمرٍ ينبغي بيانه حكم هذه الفعلة وأنها من الموبقات المهلكة, ولو علم المنتحرُ عقوبةَ ما أقدم عليه ما قتل نفسه, بل -والله- ما خطرتْ على باله فكرةُ الانتحارِ أصلاً؛ إنها عقوبةٌ شديدةٌ أليمة, يظنُّ المنتحرُ أنه يتخلصُ بقتلِ نفسه من آلامِ الدنيا, ويالسوء ظنه وقبح جهله!, أما علمَ أنَّ ما ينتظرُه في آخرتِه من العذابِ أشدُّ مما فرَّ منه؟! أما سمع قولَ الله -تعالى-: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا)[النساء: 29، 30]؟!.
وجاء في سنة نبينا -صلى الله عليه وسلم- الوعيد الشديد بالنار, لمن مات منتحراً؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ؛ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ, فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ شَرِبَ سَمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ؛ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ, خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ؛ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ, خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا", وقال: "مَنْ خَنَقَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا فَقَتَلَهَا؛ خَنَقَ نَفْسَهُ فِي النَّارِ، وَمَنْ طَعَنَ نَفْسَهُ طَعَنَهَا فِي النَّارِ، وَمَنِ اقْتَحَمَ فقتل نفسَه؛ اقتحم في النار"(رواه ابن حبان), فهذه الأحاديث تبين أنَّ "مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَىْءٍ؛ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"(متفق عليه).
إن روحك التي بين جنبيك -أيها المسلم- ليست ملكاً لك, وإنما هي لله وهبها هذا الجسد, وجعلها عنده أمانة؛ فلا يحقّ لصاحبها أن يزهقها ويتخلّص منها, مهما كانت الأسباب, فالله وحده هو الذي يأخذها متى يريد, لا شريك له في ذلك؛ (هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[يونس: 56], قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " كَانَ بِرَجُلٍ جِرَاحٌ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ اللَّهُ: بَدَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ؛ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ"(رواه البخاري)؛ أي: استعجل الموت.
وثبت في الصحيح: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ فَاقْتَتَلُوا، وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلٌ لَا يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً إِلَّا اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ، فَقَالُوا: مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَوْمَ أَحَدٌ كَمَا أَجْزَأَ فُلَانٌ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ", فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: أَنَا صَاحِبُهُ أَبَدًا, قَالَ: فَخَرَجَ مَعَهُ, كُلَّمَا وَقَفَ وَقَفَ مَعَهُ, وَإِذَا أَسْرَعَ أَسْرَعَ مَعَهُ, قَالَ: فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا شَدِيدًا؛ فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ, فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالْأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ, ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ"(رواه مسلم).
فهذه النصوصُ التي فيها الوعيدُ بالنار, وتحريمُ الجنةِ على المنتحر, لتجعلُ المؤمنَ في خوفٍ ووجل؛ أن يقدم على هذه الفعلة الشنيعة, أو أن يفكِّر فيها مجردَ تفكير!, فليتقِ الله من يتساهلُ في مثلِ هذه الأمور؛ فإنَّ الأمر خطير, وآلامُ الدنيا كلُّها لا تساوي ألماً واحداً من آلام الآخرة, فلنصبر ولنفوض الأمر إلى الله -تعالى- في كل ما أهمنا.
ومن العلاج: تقوية الإيمان عموماً وخاصةً بالقضاء والقدر, فكل ما يكابده المؤمن في حياته مقدَّرٌ عليه, إن كان خيراً أو شراً, فليكنْ متنقلاً بين مقامي الحمد والصبر؛ الحمد على الرخاء, والصبر على البلاء؛ (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ)[التغابن: 11], إيمانُك بقضاءِ الله وقدره عاصمٌ لك من اليأسِ والقنوط, والجزعِ والفزع, وكلما قوي هذا الإيمانُ ازداد المؤمنُ طمأنينةً وانشراحاً, فلا يصدر عنه إلا ما يرضي ربه من الأقوالِ والأفعال.
ومن العلاج: الازدياد من الطاعات, والبعد عن المنكرات, فالطاعة تشرح القلب, والمعصية تظلمه, ولا علاج لهمومك إلا باللجوء إلى الله -تعالى-, فإن صدقت في توجهك وجدت أثر ذلك سعادة وراحة؛ (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد: 28].
ومن العلاج: تحصين شبابنا من الأفكار التغريبية التي تستهدفهم، فصغار السن ومحدودو الثقافة يتأثرون بما تبثه مواقع النت والقنوات من أفكارٍ تحث بصورةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة على الانتحار، وتجعل منه حلاً سريعاً لكثيرٍ من المشكلات النفسية والاجتماعية, وكثير من أبنائنا خاوٍ عقله, مما يجعله صيداً سهلاً لمواقع الإلحاد والزندقة, والتي تهدف بشبهاتها وشهواتها إلى تدمير القيم والفضائل, وتلويث العقول بالأفكار المنحرفة.
أَقولُ قَولي هَذا، وأَستغفرُ اللهَ لي ولكم فاستغفروه؛ إنَّه هو الغَفورُ الرَّحيمُ.
الحمدُ للهِ على فَضلِه، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آلِه وصحبه ومن تبعه، أما بَعدُ:
إخوة الإيمان: هناك مسائل تتعلق بموضوع الانتحار منها: هل المنتحر مؤمنٌ أم كافر؟ وهل يغسل ويصلى عليه أم لا؟ وهل يخلد في النار؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ, فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا أَبَدًا"؟.
والجواب: قال الشيخ ابن عثيمين: "واعلم أنه قد ورد فيمن قتل نفسه بشيء أنه يعذب به في جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا, فذكر التأبيد فهل يعني ذلك أنه كافر?؛ لأنه لا يستحق الخلود المؤبد إلا الكفار الجواب: لا ليس بكافر? بل يغسل ويكفن ويصلى عليه, ويدعى له بالمغفرة؛ كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- في الرجل الذي قتل نفسه بمشاقص? فقدم إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليصلي عليه, لكنه لم يصل عليه, وقال: "صلوا عليه"؛ فصلوا عليه بأمر الرسول, وهذا يدل على أنه ليس بكافر, وحينئذ لا يستحق الخلود المؤبد, فما ذكر في الحديث من ذكر التأبيد؛ فالمراد شدة التهديد والتنفير من هذا العمل?"(شرح رياض الصالحين), وقال الإمام ابن بطال: "أجمع الفقهاء أن من قتل نفسه أنه لا يخرج بذلك عن الإسلام، وأنه يصلى عليه، وإثمه عليه، ويدفن فى مقابر المسلمين"(شرح صحيح البخارى).
وختاماً: فإنه ينبغي على من ولاه الله رعيةً أن يحفظ عليهم دينهم ودنياهم, ويبعدهم عن مسالك الهلاك والردى, وأن يأخذ بأيديهم لما فيه صلاحهم في الدنيا, ونجاتهم في الآخرة, وليحذر أن يكون سبباً في إفساد عقولهم بالشبهات, أو فساد طاعاتهم بالشهوات.
ووصيتي للمسلمين عموماً بالصبر والاحتساب؛ وليقتدوا عند البلاء بتلك المرأة التي شكت للنبي -صلى الله عليه وسلم- أنها تصرع, وسألته أن يدعو الله لها, "فقَالَ: "إنْ شِئْتِ صَبَرْتِ ولَكِ الجَنَّةُ، وإنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أنْ يُعَافِيَكِ", فَقَالَتْ: أصْبِرُ"(رواه البخاري)؛ فما أعظمه من اختيار! وما أكرمه من أجر!, والدنيا لا شك فانية, والهموم والغموم زائلة.
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي