هذا الدعاء من أجمع الأدعية وأنفعها، وهو يتضمَّن سؤال خير الدِّين وخير الدُّنيا؛ فإنَّ "الهُدَى" هو العلم النافع، و"التُّقَى" العمل الصالح،.. و"العفاف والغِنَى" يتضمنُ العفافَ عن الخلق، وعدمَ تعليقِ القلب بهم، فمن رُزِقَ الهُدَى والتُّقَى، والعفاف والغِنَى، نال السعادتين...
الحمد لله عالمِ الغيب والشهادة فاطر السموات والأرض، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد: فيا أيَّها المؤمنون: إنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- إمام المتقين وأكمل الأمة إيماناً وأعظمهم خُلُقاً، وأفضل أنبياء الله ورسله -عليهم الصلاة والسلام-، وكان كثير الدعاء -عليه الصلاة والسلام-.
ومن الأدعية التي كان يدعو بها -صلى الله عليه وسلم- قوله: "اللهم إني أسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى"(رواه مسلم)، وهذا الدعاء جامع لأربعة أدعية غاية في الأهمية، فسؤال الله الهدى هي طلب الهداية إلى معرفة الحق والباطل، وأن يعرف مراد الله -سبحانه وتعالى-، ويلزم صراطه المستقيم، وهذا لا يكون إلا بالعلم.
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "الهدى هنا بمعنى العلم، والنبي -صلى الله عليه وسلم- محتاج إلى العلم كغيره من الناس، لأنَّ الله -سبحانه وتعالى- قال له: (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)[طه:114]، وقال الله له: (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا)[النساء:113]؛ فهو -عليه الصلاة والسلام- محتاج إلى العلم، فيسألُ اللهَ الهدى، والهُدَى إذا ذُكِرَ وحده يشمل العلم والتوفيق للحق"(شرح رياض الصالحين:1/528).
عباد الله: والمراد بالتُّقَى هو سؤال الله التقوى، قال طلق بن حبيب -رحمه الله-: "التَّقْوَى عَمَلٌ بِطَاعَةِ اللهِ؛ رَجَاءَ رَحْمَةِ اللهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللهِ، وَالتَّقْوَى تَرْكُ مَعْصِيَةِ اللهِ مَخَافَةَ عِقَابِ اللهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللهِ"(مصنف ابن أبي شيبة).
وقال الحسن -رحمه الله-: "ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام"(الدر المنثور في التفسير بالمأثور:1/61).
وثمرات التقوى كثيرة -يا عباد الله-، منها: أنَّ أكرم الناس هم أهل التقوى؛ قال الله -تعالى-: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[الحجرات:13]؛ قال الإمام السعدي -رحمه الله-: "أكرمهم عند الله: أتقاهم، وهو أكثرهم طاعة وانكفافًا عن المعاصي، لا أكثرهم قرابة وقومًا، ولا أشرفهم نسبًا"(تفسير السعدي: ص802).
ومن ثمرات التقوى: محبة الله، قال -تعالى-: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)[التوبة:4]، وفي التقوى أمانٌ من الخوف ومن كلِّ سوءٍ ومكروهٍ في الدنيا والآخرة، قال الله -تعالى-: (يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[الأعراف:35]، قال السعدي -رحمه الله-: "إذا انتفى الخوف والحزن حصل الأمن التام والسعادة والفلاح الأبدي"(تفسير السعدي: ص288).
ومن ثمرات التقوى: حصول سعة الرزق وفتح الخيرات؛ قال -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[الأعراف:96]، وقال -تعالى-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[الطلاق:2-3].
ومن ثمرات التقوى: تيسير الأمور؛ قال -تعالى-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا)[الطلاق:4]، ومنها: النجاة من الشدائد؛ قال -تعالى-: (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[الزمر:61].
عباد الله: والمراد بالعفاف: "هُوَ التنزه عمَّا لا يباح وَالْكَفُّ عَنْهُ"(شرح النووي على مسلم: 17/ 41)، ويدخل في ذلك "العفاف عن الزنا بأنواعه، زنا النظر، وزنا اللمس، وزنا الفرج، وزنا الاستماع"(ينظر شرح رياض الصالحين للشيخ ابن عثيمين: 6/18).
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "وأمَّا الغِنَى فالمراد الغنى عن الخلق، بأن يستغنيَ الإنسان بما أعطاه الله عمَّا في أيدي الناس، سواء أعطاه الله مالاً كثيراً أو قليلاً، والقناعة كنزٌ لا ينفد، وكثيرٌ من الناس يعطيه الله -تعالى- ما يكفيه، لكن يكون في قلبه الشحّ -والعياذ بالله-؛ فتجده دائماً في فقر، وإذا سألت اللهَ الغنى فهو سؤال أن يغنيك الله -تعالى- عمَّا في أيدي الناس بالقناعة والمال الذي تستغني به عن غيره -جل وعلا-؛ فهذه الأدعية الأربعة ينبغي أن يُدعى بها كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو بها اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى" (شرح رياض الصالحين: 6/18-19).
وقال الإمام السعدي -رحمه الله-: "هذا الدعاء من أجمع الأدعية وأنفعها، وهو يتضمن سؤال خير الدين وخير الدنيا؛ فإنَّ "الهدى" هو العلم النافع، و"التقى" العمل الصالح، وترك ما نهى الله ورسوله عنه، وبذلك يصلح الدين، فإن الدين علوم نافعة، ومعارف صادقة، فهي الهدى، وقيامٌ بطاعة الله ورسوله: فهو التقى، و"العفاف والغنى" يتضمنُ العفافَ عن الخلق، وعدمَ تعليقِ القلب بهم، والغنى بالله وبرزقه، والقناعةِ بما فيه، وحصولِ ما يطمئن به القلب من الكفاية. وبذلك تتم سعادة الحياة الدنيا، والراحة القلبية، وهي الحياة الطيبة، فمن رزق الهدى والتقى، والعفاف والغنى، نال السعادتين، وحصل له كلَّ مطلوب، ونجا من كلِّ مرهوب"(بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار: ص205).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي