الإسلام رسالة تعايش وسلام

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
عناصر الخطبة
  1. مفهوم السلام وأهميته .
  2. انتشار الإسلام بالسلام لا بالسيف .
  3. نماذج من السلام والتعايش الإسلامي .
  4. أثر السَّلام في تعايش المجتمعات وعاقبة فَقْدِه.
  5. أدعياء السلام المزعوم. .

اقتباس

إن السلام سبب استقرار الشعوب، وانتفاء الحروب، واندثار الجرائم، والأمن على الأموال والأعراض والأنفس؛ وإذا فُقِدَ السلام والأمن انعدمت الراحة والطمأنينة، وحلَّ الخوف والقلق، وغابت الحريّة، وضاعت الحقوق، وانتهكت المحرمات..

الخطبة الأولى:

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:

أيها المؤمنون: لقد عاشت البشرية قبل مجيء الإسلام في خندق من الويلات والحروب، وعانت الخوف والقتل، وكانت دماء العرب تُسفك لأجل ناقة فما فوقها، بل وصل الحال بهم إلى الاقتتال من غير سبب، حتى قال شاعرهم:

وأحيانًا على بَكْرٍ أخينا *** إذا ما لم نجد إلا أخانا

فجاء الإسلام بأمر اشتق له اسمًا من اسمه: وهو السلام، فأمَّنهم من الخوف، وحقن دماءهم بعد إراقتها؛ والإسلام بمدلوله يعني السلام، وهو مشتقٌّ من اسم الله (السلام)، كما قال -سبحانه-: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ)[الحشر:23].

والسَّلام: هو المسالمة وعدم التعدي، وقد سمى الله الإسلام سِلْمًا لأنه يؤدي إليه، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)[البقرة:208].

كما أن السلام لا يعني الاستسلام والضَّعْف، وإنما هو سلامُ قوة وعزة؛ لقوله -تعالى-: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)[آل عمران:139].

وقد حث الدين الإسلامي على إفشاء السلام بين الناس، فهو مقدمة الأمان والمحبة، وجعله أحد أسباب دخول الجنة، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ"(رواه مسلم)؛ فإذا لقي المسلم أحدًا فقال: السلام عليك، فمعناه: لن يصل إليك مني أذى، ولن تجد مني سوى السلامة.

أيها المسلمون: ما ظنكم بشريعة ربها السَّلام، ودينها الإسلام، وتحية أهلها السلام، وختام صلاتهم السلام، ومرجعهم يوم القيامة إلى دار السلام، أليس هو دين التعايش والسلام؟! (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ)[المائدة:15- 16].

ولقد ورد في القرآن الكريم لفظ: (السلام) باشتقاقاته في أربع وأربعين آية، كلها مكية، إلا خمس آيات فمدنية، بينما لم يرد لفظ (الحرب) إلا في ستِّ آياتٍ فقط كلُّها مدنية، مما يدل على أن مبتدأ الإسلام في مكة كان بالدعوة إلى السِّلْمِ، وكذا بعد وصوله إلى المدينة. فنزلت الآيات تقول: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ)[الممتحنة: 8].

بل إن الله -تعالى- أرشد المسلمين إلى إيثار السلم على الحرب، والرضا بالصلح مكان القتل فقال: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا)[الأنفال:61]، وهذه الآية جاءت عقب الأمر بإعداد القوة ورباط الخيل، فإذا تصافَّ الجيشان للقتال، ورأى المسلمون من أعدائهم رغبة في السِّلم فليجنحوا إليه. وقد قال -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه مُؤْثِرًا السلامة: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَاسْأَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ"(متفق عليه).

وجاء الإسلام بدستورِ تعايُشٍ عجزت عن أن تأتي بمثله دولٌ رغم تعاقبها؛ فجعل للذمي والمعاهد كافة الحقوق التي يتمتع بها المسلمون، فعصم دماءهم وأموالهم وأعراضهم، وحماهم من أي عدوٍّ جاء ليقاتلهم وإن كان مسلمًا، ففي الحديث: "مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا"(رواه البخاري).

عدلٌ ومَرحَمَةٌ وحُسْنُ تعايُشٍ *** بين الشُّعوبِ على اختلافِ فِئَاتِها

دِينُ السَّـلامِ على البَسيطَةِ كلِّها *** دِيـنٌ أقامَ العَدْلَ في سَاحَاتِها

 

وأما حروبه -صلى الله عليه وسلم- فإنما كانت لدفع غَازٍ، أو أخذ لحقٍّ، فقاتَلَ اليهود لأنهم غدروا ونقضوا العهود والمواثيق، وقالوا: "يَا مُحَمَّد، لَا يغرك من نَفسك أَن نِلْتَ من قَوْمك مَا نلْت، فَإِنَّهُ لا عِلْمَ لَهُم بِالْحَرْبِ، أَمَا وَالله لَو حاربتنا لعَلِمت أَن حربنا لَيْسَ كحربهم، وَأَنا لنَحْنُ النَّاس"، بل حاولوا قتله في أكثر من موطن.

أيها المؤمنون: لقد بني هذا الدين على حب السِّلم، فكان -صلى الله عليه وسلم- يكره لفظ الحرب وإن كان لمجرد التسمية، فهو القائل: "أَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَقْبَحُهَا حَرْبٌ وَمُرَّةُ"(رواه أبو داود وصححه الألباني). وحين ولد الحسن وُلد الْحَسَنُ ذهب إلى دار علي بن أبي طالب فَقَال: "أَرُونِي ابْنِي، مَا سَمَّيْتُمُوهُ؟ فقال: سَمَّيْتُهُ حَرْبًا، قَالَ: بَلْ هُوَ حَسَنٌ"(رواه أحمد وصححه الحاكم).

ومن قلَّبَ صفحات التاريخ وجدها مشرقة بنماذج زاخرة من التعايش الإسلامي مع الأمم الأخرى، فحين استقرَّت الركائب بالمدينة، وتشكلت الدولة المسلمة، كتبَ -صلى الله عليه وسلم- صحيفة تعايش بينه وبين اليهود، أن عليه أن ينصرهم إذا ظلموا. وأن يدافع عنهم إذا اعتدي عليهم، وأنَّ لهم دِينهم، وللمسلمين دِينهم، وأن بينهم النصح والبِرّ دون الإثم.

ولما عاد إلى مكة حيث وقع عليه منهم العذاب، دخلها فاتحًا بالسلم دون قتال، وذلك لأنهم نقضوا صلح الحديبية، فلما رأى المشركون الجيش الإسلامي وكثرته، وتذكروا ما فعلوه بالمسلمين من قتل وتعذيب ومصادرة أموال، ظنوا أنهم هالكون، وزاد ذلك أن سمعوا حامل راية الأنصار يقول: "اليوم يوم الملحمة، اليوم تُستَحَلُّ الحرمة، اليوم أذلَّ الله قريشًا"؛ لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يا سعد، بل هو يوم المرحمة، اليوم أعزَّ الله قريشًا". حتى جاء إليه أبو سفيان فقال: "يَا رَسُولَ اللهِ، أُبِيدَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ؟ لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ؟ فقَالَ: مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابهُ فَهُوَ آمِنٌ"(رواه مسلم). ثم اشْرأَبَّت إليه الأعناق المشركة، ينتظرون حكمه فيهم، فإذا بكلمات العفو والسلام تقول: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، فدخلوا في الإسلام راغبين.

وحين احتلَّ الصليبيون القدس بعد المسلمين، أعملوا في أهلها السيف قتلًا، فذاق ما يزيد على سبعين ألفًا منهم الموت، فلما فتحها صلاح الدين الأيوبي لم يعاملهم بالمثل، بل عامل الضعفاء من الشيوخ والنساء والأطفال معاملة كريمة، وأعطى الأمان لمن بقي منهم في القدس، وكانوا يزيدون على ألف شخص، وسمح للباقين أن يخرجوا بأموالهم وجواهرهم دون أن يلحق بهم أذى، وحماهم في طريقهم من أي عدوان أو قُطّاع طرق. هذا هو الإسلام، وهذه أخلاقه وقيمه وتعليماته.

دِينِي هو الإسلامُ دينُ محبَّةٍ *** دِينُ السلامَةِ سَالِمُ البُنيَانِ

دِينُ المَودَّةِ والتسامُحِ والهُدَى *** شَتَّانَ بين الحَقِّ والبُهتَانِ

أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه..

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسّلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:

أيها المسلمون: إن السَّلام سبب استقرار الشعوب، وانتفاء الحروب، واندثار الجرائم، والأمن على الأموال والأعراض والأنفس. وإذا فُقِدَ السلام والأمن انعدمت الراحة والطمأنينة، وحلَّ الخوف والقلق، وغابت الحريّة، وضاعت الحقوق، وانتُهكت المحرمات.

وبالسلام يتحقق التعايش السلمي، وتسود الأُلفة والترابُط، ويتمتع المسلم والذمي والْمُعَاهَد بعدالة الحقوق، ويشتركون في الحماية والسلامة؛ فهو سلام عالمي شمولي، لا يرتبط بقومية ولا وطنية، ولا تقيِّده عنصرية، ولا يميل إلى لون، ولا يختص بلغة، فإن الله لم يخلق البشر ليتناحروا بينهم، أو يأكل القوي فيهم حق الضعيف، وإنما خلقهم ليتعارفوا ويتآلفوا، فخاطب الناس أجمعين بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[الحجرات: 13].

أيها المؤمنون: كثيرًا ما نسمع أبواقًا تنعق باسم السلام، ولكن سرعان ما نجده مخرومًا، وحمامته مقصوصة الجناح، وغصن زيتونه يخفي من ورائه الشوك.

نعم رأينا سلامًا يُنادَى به في المحافل، ومبادرات يُوقَّعُ عليها في الورق، وفي أرض الواقع لم نر سوى الدم الأحمر، والقتل والدمار الشامل.

لقد سمعت آذاننا نداءات بالسلام؛ فلما نظرت أعيننا رأت أيادٍ آثمة تعبث في بلاد المسلمين سلبًا ونهبًا. فجاء سلامهم للأطفال على شكل قنابل عنقودية، وعلى البيوت على شكل دمار مغلفٍ بالبارود؛ فلم يرحموا شيخًا ولا ضعيفًا، ولم يرقبوا في مسلم إلًّا ولا ذمة؛ يهدمون البيوت على رؤوس الآمنين، ويستعذبون أنين الأسرى والمسجونين.

نعم، إننا لا ننكر أنا رأينا سلامهم الحقيقي، لكن في بلدانهم، ولأبناء جلدتهم، أما إذا كان الأمر متعلقًا بالمسلمين فإن حقوقهم ليست بأعز من حقوق قطٍّ صغير أصابه البرد؛ فعن أي سلام يتحدثون إذا كان لا يأمن به خائف؟ ولا يَحْمل في طياته الرحمة؟!

ما فائدة السلام إذا كان أصمَّ لا يسمع أنين المسحوقين بالعذاب؟

وما جدواه إذا كان أعمى لا يبصر إلا مصالحه وإن كان فيها فناء الآخرين؟

فشتان بين سلام الإسلام الذي لم يُفرِّق بين ديانة، ولم يعترف بعنصرية، وبين سلام مقصور على فئة، وتمتد صلاحيته في رقعة من الأرض فقط!

أرأيتم إذًا كيف حفظ الإسلام الحقوق ورعاها؟! وكيف رفع شعار السَّلام وقدمه على غيره؟ وكيف استقبلته الشعوب، وأحبته القلوب؟ فهو الذي غزا القلوب قبل البلدان، ودخَلَت فيه الأمم بالدعوة والبيان قبل السيف والسِّنَان، فما كان للسيف أن يفتح قلوبًا عليها أقفالها بقوِّته، وما كان للعنف أن يُقنع عقولًا بدين لا ترتضيه، لكنه الإسلام؛ دين اللهِ السَّلام -تبارك و-تعالى-.

وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه..


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي