ما زالت الكربات عن العبد بمثل توحيد الله، وإخلاص الدين له، وتحقيق العبادة التي خلق العبد لأجلها، وأوجد لتحقيقها؛ فإن القلب عندما يعمر بتوحيد الله، وإخلاص الدين له، تذهب عنه الكربات، وتزول عنه الغموم والشدائد، ويسعد غاية السعادة...
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
أيها المؤمنون عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى؛ فإن من اتقى الله وقاه، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه، وتقوى الله -جل وعلا- هي رأس السعادة، وسبيل الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة، وهي خير زاد يبلِّغ إلى رضوان الله.
عباد الله: إن العبد في هذه الحياة قد يصاب بآلام متنوعة، وقد يرد على قلبه إيرادات متعددة، تؤرق قلبه، وتؤلم نفسه، وتجلب له الهم والحزن والغم، فهذه أمور مقدرة، وأشياء مكتوبة، لابد أن يراها العبد في هذه الحياة، إلا أن الله –عز وجل- جعل للعبد أسبابًا عظيمة، وأمورًا مهمّة؛ إذا اعتنى بها وبتطبيقها زال عنه همُّه، وانجلى غمه، وذهب حزنه، وانشرح صدره، وتحققت له سعادته في هذه الحياة.
فهناك أمور عديدة ترد على القلب تؤلمه؛ منها أمور تتعلق بأمور ماضية، وذكريات لأشياء قد مضت وانقضت، فيحزَنُ القلب عند تذكرها، ويصيبه آلام متنوعة باستحضارها، وهناك آلام تتعلق بأشياء في المستقبل، ترد على قلب العبد فيصيبه الهم بسبب أمور قادمة، وأشياء آتية، لا يدري ما يكون له فيها، ويهتم قلبه لذلك، وهناك الغم: وهو الذي يصيب العبد في أمر يتعلق بحاضره وواقعه وحاله. فهذه أمور ثلاثة: حزن: وهو يتعلق بما مضى، وهمٌّ: وهو ما يتعلق بالمستقبل، وغمٌّ: وهو ما يتعلق بحاضر الإنسان.
وهذه الأمور الثلاثة إنما تنجلي عن القلب وتزول عنه بالعودة الصادقة إلى الله -جل وعلا-، والانكسار بين يديه، والتذلل له، والخضوع له –سبحانه-، والدخول في طاعته، والاستسلام لأمره، والإيمان بكتابه وتدبره، والعناية بقراءته وتطبيقه، فبذلك -عباد الله- لا بغيره تزول هذه الأمور، وينشرح الصدر، وتتحقّق له السعادة؛ ولهذا روى الإمام أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما أصاب عبدًا همٌّ ولا حزنٌ فقال: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك اللهم بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني وهمي، إلا أذهب الله همه وغمه، وأبدله فرحًا". وفي رواية: "أبدله فرجًا". وهو حديث صحيح ثابت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ثم إن الصحابة الكرام لما سمعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- يوجه إلى هذا التوجيه العظيم، ويدل على هذا الدعاء المبارك قالوا لرسول -صلى الله عليه وسلم-: ألا نتعلم هؤلاء الكلمات؟! فقال -عليه الصلاة والسلام-: "أجل، ينبغي على من يسمعهن أن يتعلمهن"، فهي كلمات عظيمة، ينبغي على المسلم أن يتعلمها، وأن يسعى في قولها عندما يصاب بالهمّ أو الغم أو الحزن، وليعلم أن هذه الكلمات إنما تكون نافعة له إذا حقَّق مدلولها، وطبَّق مقصودها، وعمل بما دلت عليه، أما أن يأتي بالأدعية المأثورة، والأذكار المشروعة، دون فهم لها، ودون تحقيق لمقصودها؛ فإنها بذلك تكون عديمة التأثير، قليلة الفائدة.
عباد الله: وعندما نتأمل هذا الدعاء العظيم الذي أرشد إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- ليقوله العبد عندما يصاب بالهم أو الغم أو الحزن، نجد أنه يتضمَّن أربعة أصول عظيمة، لا تتحقق للعبد السعادة، ولا ينجلي عنه الهم أو الغم أو الحزن، إلا بتحقيقها والإتيان بها:
أما الأصل الأول: فهو تحقيق العبادة لله -جل وعلا-، وتمام الانكسار له، والذّل بين يديه، والخضوع له –سبحانه-، واعتراف العبد بأنه مملوك لله، مربوب له، يدبر الله عز وجل ويتصرف في شؤونه كلها، وهذا نأخذه من قوله -عليه الصلاة والسلام-: "اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك"، فهذا اعتراف من العبد بأنه مملوك لله، مربوب له، مخلوق له -سبحانه وتعالى- هو وآباؤه وأمهاته إلى آدم وحواء؛ فالكل مماليك لله، والكل مربوبون له، هو خالقهم وهو سيدهم، وهو مولاهم وهو مدبر شؤونهم، لا مالك لهم إلا الله، ولا خالق لهم إلا الله، ولا مدبِّر لشؤونهم إلا الله -سبحانه وتعالى-؛ ولهذا فإن العبد يذل لله، ويخضع بين يديه، وينكسر لعظمته وجلاله وجماله وكماله.
أما الأصل الثاني: فهو أن يؤمن العبد بقضاء الله وقدره، وأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه –سبحانه- لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه: (مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) [فاطر: 2]، وهذا مستفاد من قوله: "ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك"؛ فناصية العبد -وهي مقدَّمة رأسه- بيد الله –عز وجل-، يتصرف فيها -تبارك وتعالى- كيف يشاء، ويحكم فيها بما يريد، لا معقِّب لحكمه سبحانه، ولا راد لقضائه؛ ولهذا قال: "ماض فيَّ حكمك"؛ فحكم الله ماض، وقضاؤه ماض، ولا يرده رادٌّ مهما فعل العبد؛ فما قدره الله كان، وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولهذا لابد على العبد أن يؤمن بقضاء الله وقدره، وبمشيئته النافذة، وقدرته الشاملة التي شملت كل مخلوق.
والأصل الثالث: أن يؤمن العبد بأسماء الله الحسنى، وصفاته العظيمة الواردة في كتابه وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ويتوسل إلى الله بها؛ يقول الله تعالى: (وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأعراف: 180]، ويقول تعالى: (قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) [الإسراء:110].
والعبد كلما كان عظيم المعرفة بالله وبأسمائه الحسنى وصفاته العلى، زادت خشيته لله، وعظمت مراقبته له، وازداد بعدًا عن معصيته والوقوع فيما يسخطه، كما قال بعض السلف: "من كان بالله أعرف كان منه أخوف"، والله -جل وعلا- يقول: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر:28]، ولهذا مما يطرد الهم والغم والحزن أن يعرف العبد ربه، ويعرف أسماءه وصفاته، ويتوسل إليه -سبحانه- بها، وهذا مستفاد من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك".
أما الأصل الرابع: فهو العناية بالقرآن الكريم كلام الله –عز وجل-، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، الذي فيه الهداية والشِّفاء والغنية والكفاية والسداد: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء: 9]، وكلما كان العبد عظيم العناية بالقرآن الكريم تلاوة وحفظًا، ومذاكرة وتدبرًا وتطبيقًا - كان ذلك من أعظم أسباب انشراح صدره، وذهاب همه، وانجلاء حزنه وغمّه، وهذا مستفاد من قوله -عليه الصلاة والسلام-: "أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني وهمي".
فهذه -عباد الله- أصول أربعة مستفادة من هذا الحديث العظيم، ينبغي علينا أن نتأملها، وأن نسعى في تطبيقها، وأن نحفظ هذا الدعاء المبارك الذي أرشد إليه نبينا -صلى الله عليه وسلم- ودل الأمة عليه، بل رغّب في حفظه وتعلمه، وأسأل الله -جل وعلا- بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا وإياكم لكل خير، وأن يهدينا سواء السبيل، وأن يشرح صدورنا ويزيل همومنا وغمومنا، وأن يكتب لنا السعادة في هذه الحياة الدنيا وفي الآخرة؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله عظيم الإحسان، واسع الجود والفضل والامتنان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله تعالى، ثم اعلموا -رحمكم الله- أن سعادة العبد في هذه الحياة، وزوال الكرب عن قلبه إنما يتحقق بتوحيد الله، وإخلاص الدين له -سبحانه وتعالى-؛ وقد جاء في سنن أبي داود بإسناد ثابت عن أسماء بنت عميس -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- علمها كلمات تقولها عند الكرب أو في الكرب: "الله ربي لا أشرك به شيئًا"، فهي كلمة عظيمة، يقولها المسلم عندما يصاب بالكرب، وهي توحيد وإخلاص، وإيمان وإذعان، وبعد عن الشرك كله: صغيره وكبيره؛ ولهذا -عباد الله- ما زالت الكربات عن العبد بمثل توحيد الله، وإخلاص الدين له، وتحقيق العبادة التي خلق العبد لأجلها، وأوجد لتحقيقها؛ فإن القلب عندما يعمر بتوحيد الله، وإخلاص الدين له - تذهب عنه الكربات، وتزول عنه الغموم والشدائد، ويسعد غاية السعادة؛ ولهذا نسأل الله -عز وجل- أن يعمر قلوبنا وقلوبكم بتوحيد الله وإخلاص الدين له، وأن يوفقنا لكل خير، وأن يؤتي نفوسنا ونفوسكم تقواها، وأن يزكيها فإنه –سبحانه- خير من زكاها، وهو وليها ومولاها.
وصلوا وسلموا على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56] وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرًا"، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين: أبي بكر الصديق، وعمر الفاروق، وعثمان ذي النورين، وأبي السبطين علي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهمّ أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم دمر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، اللهم انصر إخواننا المسلمين المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم نصرًا مؤزرًا، اللهم أيدهم بتأيدك، ووفقهم بتوفيقك، واحفظهم بحفظك يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى، وأعنه على البر والتقوى، وسدّده في أقواله وأعماله، وألبسه ثوب الصحة والعافية، اللهم وفق جميع ولاة أمر المسلمين للعمل بكتابك، واتباع سنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، واجعلهم رحمة على عبادك المؤمنين.
اللهم إنا ظلمنا أنفسنا ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لنا مغفرة من عندك، إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهم اغفر لنا ما قدّمنا وما أخّرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت.
اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبدًا ما أحييتنا.
اللهم إنا نعوذ بك من فجاءة نقمتك، ومن زوال نعمتك، وتحول عافيتك، ومن جميع سخطك.
ربنا إنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
عباد الله: اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي