الغيبةُ آفةٌ اجتماعيةٌ خطيرةٌ، لها أضرارٌ كثيرةٌ، فهي مِعولُ هدمٍ وشرٍّ، تجلبُ الخصامَ والفُرقةَ، وتُقطِّعُ أواصِرَ المحبةِ، صَاحبُها مُوعودٌ بالعذاب في قبره، وبالعذابِ في النَّارِ، والأكلِ من أنتانها وقذَرِها, لا يُغفَرُ لهُ حتى يعفو عنه صاحِبهُ ويُسامِحهُ, وإلا فهو المفلِسُ الذي يَأخذُ غُرماؤهُ من حسَناته...
الحمدُ للهِ مُصرِّفِ الأحوالِ، مُقدِّرِ الآجالِ، المتفردِ بالعزَّةِ والعظمةِ والجلالِ، منْ لهُ الغنى كلُّهُ ولهُ مُطلقُ الكمالِ، سبحانهُ وبحمدِه، جميلٌ يحبُ الجمالَ، تُسبحُ لهُ السماواتُ السبعُ والأرضُ، والشمسُ والقمرُ، والنجومُ والشجرُ والجبالُ، (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ)[الرعد: 13].
وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ، وحدهُ لا شريكَ لهُ، ولا ربَّ لنا سواه، ولا نعبدُ إلا إيَّاه، (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ)[الرعد: 15], وأشهدُ أن محمداً عبدُ اللهِ ورسولهُ، وصفيهُ وخليلهُ، المنعوتِ بأعظم الأخلاقِ وأشرفِ الخِصالِ، اللهم صلِّ وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وصحبهِ، خيرُ صحبٍ وخيرُ آلٍ، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم المآل, وسلَّم تسليماً كثيراً.
أَمَّا بعْدُ: فاتَّقُوا اللهَ -عباد الله- وأَطيعُوه، وعظِّمُوه ووقرِوه وسبحوه, وجِدُّوا -رحمكم الله- واجتهِدُوا، وتزوَّدوا بصالح الأعمال، واستعِدُّوا ليومٍ شهودُهُ الجوارِحُ والأوصالُ, سابقوا الأجلَ، وأحسِنوا العـمـلَ، ولا يغرنَّكـم طُـولُ الأمـلِ، واعلموا (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ)[الرعد: 11].
معاشر المؤمنين الكرام: الصِّدقُ يهدِي إلى البرّ والجنّة، والكذِب يهدِي إلى الفجور والنّار، والكلِمةُ مسؤوليّة، والكلامُ نوعان؛ عَمَارٌ أو دَمَارٌ، والخيرُ والشرُّ قد يحصُلانِ بكلمةٍ عابرةٍ يُطلقها المرءُ بلسانه لا يُلقي لها بالاً، قال -تعالى-: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)[الإسراء: 36], وفي صحيح البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:ِ "إنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا؛ يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا؛ بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ", فإذا كانت الكلمة التي لا يُلقي الإنسان لها بالاً قد ترفعه درجاتٍ عاليةٍ في الجنة، أو تهوي به دركاتٍ سحيقةٍ في قعرٍ جهنم فما بالكم بالكلمةِ المقصُودةِ، المبنيةِ على أمورٍ وهميةٍ وظنون كاذبة؟! أعاذنا الله وإياكم من ذلك!, قال معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: يا رسول الله! وإنّا لمؤاخَذون بما نتكلَّمُ به؟! فقال: "ثكِلتكَ أُمّكُ يا معاذ! وهل يَكُبُّ الناسَ في النَّارِ على وجوهِهِم إلاّ حصَائدُ ألسِنتهِم".
الكلمةُ -يا عباد الله- عنوانُ المرءِ، تُتَرجِمُ عن مكنوناتِ قَلبِه، وتدَلُ على مستوى إيمانهِ وعقلِه، فَمُ العاقِل مُلجَم، إذا همَّ بكلامِ ريبةٍ أحجَم، وفَمُ الجاهِلِ مُرسل، كلّما خَطرَ على باله شيءٌ تكلَم، والعاقِلُ من لزِم الصمت إلا عن حقٍّ يوضِحه، أو باطلٍ يَدحضُه، أو خيرٍ ينشُرُه، أو فضلٍ يشكره، وبِتركِ الفضول تكتمُل العقول، فعن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن كان يؤمِن بالله واليوم الآخرِ فليقل خيرًا أو ليصمُت"(متفق عليه).
وبعضُ المجالسِ اليومَ لا تأنسُ إلا بتناولِ وجبةٍ دسِمةٍ من لحومِ البشرِ، فترى البعضَ يَنهشُ في لحم أخيهِ المسلمِ بكلِّ نَهمٍ، ثمَّ هُم لا يَملُّونَ من تَكرارِ ذلك الأكلِ كُلَّمَا اجتمعوا، حتَّى غَدت رائِحةُ الغِيبةِ والنميمةِ المنتنةِ, هي طابعُ غالِبِ مجالِسِهم, (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ)[النور: 15], وعن أنسٍ -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "لمّا عُرِج بي مَررتُ بقومٍ لهم أظفارُ من نُحاسٍ، يخمِشُونَ وجوهَهَم وصدورَهم، فقلت: "مَن هؤلاء يا جبريل؟!" قال: هؤلاء الذين يأكلُون لحومَ الناسِ ويقَعُونَ في أعراضِهم".
وفي قصةِ ماعزٍ -رضي الله عنه-، وبعدَ أن نُفِّذَ فيه حُكمُ الرجمِ, سمعَ النبيُ -صلى الله عليه وسلم- رجُلينِ من أصحابه يقولُ أحدُهما للآخرِ: انظُر إلى هذا الذي سترَ الله عليهِ فلم تَدعَهُ نفسهُ حتى رُجمَ رجمَ الكلب، فسكت عنهُما ثم سارَ ساعةً حتى مرَّ بجيفةِ حِمارٍ شائلٍ برجله، فقال: "أين فلانُ وفلان؟"، فقالا: نحن ذان يا رسول الله!, قال: "انزِلا فكُلا من جِيفةِ هذا الحِمارِ"، فقالا: يا نبي اللهِ! من يأكلُ من هذا؟!، قال: "فما نِلتُمَا من عِرضِ أخيِكُمَا آنفاً أشدُّ من أَكْلٍ مِنهُ، والذي نفسي بيده إنهُ الآنَ لفي أنهارِ الجنةٍ يَنغَمِسُ فيها".
الغيبةُ آفةٌ اجتماعيةٌ خطيرةٌ، لها أضرارٌ كثيرةٌ، فهي مِعولُ هدمٍ وشرٍّ، تجلبُ الخصامَ والفُرقةَ، وتُقطِّعُ أواصِرَ المحبةِ، صَاحبُها مُوعودٌ بالعذاب في قبره، وبالعذابِ في النَّارِ، والأكلِ من أنتانها وقذَرِها, لا يُغفَرُ لهُ حتى يعفو عنه صاحِبهُ ويُسامِحهُ, وإلا فهو المفلِسُ الذي يَأخذُ غُرماؤهُ من حسَناته، فإن فنيت حسناتهُ قبل أن يُقضَى ما عليه، أُخذَ من سيئاتِهم فطُرحت عليه، فطُرِحَ في النار, عياذاً بالله!.
الغيبةُ كما قال النبي الكريم -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "ذِكرُكَ أخاكَ بما يكرهُ"، قيل: يا رسول الله! فإن كانَ في أخي ما أقولُ؟ قال: "إن كانَ فيه ما تقولُ فقد اغتبتهُ، وإن لم يكن فيهِ فقد بهتَّهُ", إن كان فيه ما تقول فتلك الغيبة، وإن لم يكن فيه ما تقول، ففوق الغيبة بهتان.
وانظروا إلى هذا المثال البسيط وقيسوا عليه، ما يقعُ فيه كثيرٌ من الناس، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قلت للنبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: حسبُك من صفية كذا وكذا, -تعني: أنَّها قصيرةٌ-, فقال النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "لقد قُلتِ كَلمةً لو مُزِجت بماءِ البحرِ لمزجتهُ"؛ أي أنه: لقبحِ هذهِ الكلمةِ وقوتها فلو خَالطت ماء البحرِ على كثرته لغيَّرتهُ.
الغيبة -يا عباد الله- من كبائرِ الذُّنوب، وهي مُحرمةٌ بإجماعِ علماءِ المسلمين؛ ولشناعةِ الغيبةِ وشِدّةِ قُبحِهَا يُصورُها القرآنُ الكريمُ بتلك الصورةِ المنفِّرةِ المقزِّزة، قال -تعالى-: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ)[الحجرات: 12], وصحّ عنه عليه -الصلاة والسلام- أنه قال: "إن أربى الربا استطالةُ الرجلِ في عِرْضِ أخيهِ", وفي الحديثِ الصحيحِ قال -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "كلُّ المسلمِ على المسلم حرامٌ؛ مالُهُ وعِرضُهُ ودمُهُ", وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ مَنْ قَدْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ! لاَ تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ تُعَيِّرُوهُمْ، وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ".
وعن الحسن البصري -رحمه اللَّه- أنَّ رجلاً قال له: إنَّك تغتابُني, فقال: "ما بلغَ قدرُكَ عندي أنْ أُحكِّمَكَ في حسناتي", وقال ابن المبارك -رحمه اللَّه-: "لو كنتُ مُغتابًا أحدًا، لاغتبتُ والدايَّ؛ لأنَّهما أحقُّ بحسناتي".
فيَجبُ على كل مسلمٍ أنْ يصُونَ لسَانهُ ويحفَظَهُ، وأن يكُفَّهُ عن كلِّ باطلٍ وشرٍّ؛ فالحق -جل وعلا- يقول: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)[ق: 18]، وفي التوجيه النبوي الكريم: "من كان يؤمنُ بالله واليومِ الآخرِ؛ فليقُل خيرًا أو ليصمُت", فالمؤمنُ الصادق لا يتكلم إلاَّ إذا كان الكلامُ خيرًا له, وفي الحديث الصحيح: "المسلم مَن سَلِمَ المُسلمون من لسانه ويده"؛ وفي الحديث الآخر: "لا يستقيمُ إيمانُ عبدٍ حتَّى يستقيم قلبه، ولا يستقيمُ قلبُهُ حتى يستقيمَ لسانُهُ، ولا يدخُلُ رجلٌ الجنَّةَ لا يأمنُ جارُهُ بوائِقَهُ", وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه سمعَ رسولَ اللهِ -عليه الصلاة والسلام- يقولُ: "إن الرجلَ ليتكلمُ بالكلمةِ لا يرى بها بأسًا؛ يهوي بها سبعين خريفًا في النار".
فاحفَظ لسانَكَ أيُّها الانسانُ *** لا يلدَغنَّكَ إنهُ ثُعبانُ
كم في المقابر من صَريعِ لِسَانِهِ *** كانت تهَابُ لِقَائهُ الأقرَانُ
قال الإمام النووي -رحمه الله-: "اعلم أنه ينبغِي لكلِّ مُكلَّفٍ أن يحفَظَ لِسانَهُ عن جميعِ الكلامِ إلا كلامًا ترجحت فيهِ المصلحةُ، ومتى استوى الكلامُ وتَرْكُهُ في المصلحة؛ فالسنَّةُ الإمسَاكُ عنهُ؛ لأنهُ قد يَنجرُّ الكلامُ المباحُ إلى حَرامٍ أو مكروهٍ؛ وذلكَ كثيرٌ في العادة، والسلامةُ لا يعدِلُها شيءٌ".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا)[الإسراء: 53].
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ, فَاسْتَغْفِرُوهُ.
الحمد لله كما ينبغي لجلاله وجماله وكماله, وعظيم سلطانه.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وكونوا مع الصادقين.
معاشر المؤمنين الكرام: الكلمةُ الطيّبةُ مغنَمٌ، والكلِمةُ الخبيثةُ مأثمٌ، وقد ضرَبَ اللهُ لهما مثلاً : (أَلَمْ تَرَى كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ)[إبراهيم: 24، 26].
والقلوب أوعية، فخيرها أوعَاها للخير والرشاد، وشرُّها أوعَاها للبغي والفساد، والنفسُ إن أعطيتها هواهَا، فَغَرَتْ لكَ فَاهَا، فلا بقليلٍ تقنَع، ولا بكثيرٍ تشبع، (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)[الشمس: 7 - 10]، ويقول رسولُ الهدى -صلى الله عليه وسلم-: "كلُّ الناسِ يغدو؛ فبائعٌ نفسهُ فمعتقُها أو مُوبقُها", وإن أشدَّ الجهادِ جِهادُ الهوى, يقول -صلى الله عليه وسلم-: "أفضل الجهادِ أن يجاهدَ الرجُلُ نفسَهُ وهواهُ", ومن لم يُلجِم نفسهُ بلِجَامِ التقوى، أسرعَت إليه الآفات والبلوى، وسارت به الخُطُواتُ، إلى أرضِ الندامات، جاء في الحديث الصحيح: "وحُفت النَّارُ بالشهوات".
الغيبةُ كما ذكرنا محرمةٌ بإجماع علماء المسلمين، بل هي من الكبائر ولا شك، إلا أنهُ يُستثنى من ذلك ما ترجَحَت مصلحتهُ، وهي أحوالٌ مخصوصةٌ، حصَرها العلماء في ستةِ أحوالٍ وهي: التظلُّم عند من يُرجى نُصرَتُهُ؛ كالقاضي والمسؤول, وعند محاولةِ تغييرِ المنكرِ، وعند سؤالِ المفتي، وعند تحذيرِ المسلمين من أصحابِ البدعِ والمنكرات؛ فلا حُرمةَ لفاسقٍ, وعند الشهادة والمصاهرة.
وليس للغيبة كفارةٌ إلاَّ التوبةُ النصوحُ، ولا تصِحُ التوبةُ منها إلاَّ بأربعة شروطٍ، وهي: الإقلاعُ في الحالِ، والندمُ على ما مضى منها، والعزمُ على ألاَّ يعُودَ إليها، وأن يتحلّلَ ممّن أساءَ إليهِ, خُصوصاً إذا كان قد علِمَ بإساءتهِ, فإن لم يستطع، فليكثر له من الدعاء والاستغفار.
والواجبُ على المسلم إذا سمعَ أحدًا يغتابُ غيرهُ أنْ ينكرَ عليهِ وينصحهُ، ويخبرهُ أنَّ هذا لا يجوزُ، وأن الغيبةَ محرمةٌ؛ لقول النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "من ردَّ عن عرضِ أخيهِ بالغيب؛ رَدَّ اللهُ عن وجهِهِ النَّارَ يومَ القيامة", ولقوله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "ما من امرئٍ يَخذلُ مُسلمًا في موضعٍ تُنتهكُ فيهِ حُرمتهُ، ويُنتقَصُ فيهِ من عِرضهِ؛ إلاَّ خَذَلَهُ اللهُ في موضعٍ يُحبُّ فيهِ نَصْرهُ", فإذا لم يُستَجب له، أو لم يستطعْ الإنكارَ، فيجِبُ عليهِ مُغَادرةُ المجلسِ، وهجرُ المغتابِ؛ وذلك لقولِ اللهِ -تعالى-: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[الأنعام: 68].
معاشر المؤمنين الكرام: حفِزوا هذهِ النفوسَ بالترغيب، واقذعُوها بالترهيب، فالهوى يُعمِي ويُردِي، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثٌ مُنجِياتٌ: خشيةُ اللهٍ في السرِّ والعلانية، والعدلُ في الرضا والغضب، والقصدُ في الفقر والغنى، وثلاثٌ مُهلِكاتٌ: هوىً مُتبَعٌ، وشحٌ مُطاعٌ، وإعجابُ المرءِ بنفسِه", فاحذروا طاعةَ الهوى، والحُكمَ على الآخرينَ بلا هُدى، (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[المائدة: 8].
ويا ابن آدم! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى, والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي