إنَّ خشيةَ الله بالغيب علامةُ الإيمان الصادق،.. ومَن وقَّر أمرَ الله وهو خالٍ بينه وبين نفسه فذلك علامة صدق الإيمان، ومَن منَع بصَره من الحرام؛ حيث لا يراه الناس فهو مُعظِّم لأمرِ الله، ومَن امتنَع عن أكل مال الحرام، فهو مُوقِّر لحرمات الله،...
إنَّ الحمدَ لله؛ نحمدُه وَنستَعِينُه ونسْتغْفِرُه، ونعوذُ باللهِ من شُرُورِ أنفُسِنا وسَيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يَهْدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، ومَن سَار على نهجِه، واقْتَفَى أثرَه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بَعْدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -جل وعلا-؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة:119].
عباد الله: يقول الله -تعالى- في سورة البقرة: (الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)[البقرة:1-2]، وصف الله -تعالى- كتابه بأنه هدًى لمن اتقى، ونبَّه إلى علو شأنه؛ حين أشار إليه باسم الإشارة ذلك، وهو اسم إشارة للبعيد، والبعد هنا ليس البعد المكاني، وإنما هو البعد الرتبي، بمعنى علو الشأن، وأنه مُعْجِز، وأنه غَالِبٌ، وأنه حبل الله المتين، وأنَّ مَن تمسَّك به فهو على هدًى من ربه.
وبيَّنت السورة صفات مَن يهتدي بالقرآن، فمن الناس مَن يسمع القرآن فيهتدي، ومنهم مَن يسمعه ويزيدهم صدودًا بسبب الكبر والحسد والغرور التي تجعل القلب محاطًا بالحجب كما قال -تعالى-: (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[المطففين:14].
لقد كان الكبرُ سببَ خروج إبليس من -رحمة الله تعالى-: (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ)[ص:75 – 78].
والكبر كما فسَّره الرسول هو بطر الحق، أي الاستعلاء عليه وعدم الإقرار للآخرين بحقهم؛ فزميلك في العمل حين لا تقرّ له بحقه في الترقية رغم جدارته هو من الكِبْر، والمرأة في البيت حين تتعب في عمل ثم لا نكافئها بكلمة "الله يعطيك العافية"؛ كل ذلك من الكِبْر؛ والكِبْر يحجب أنوار الهداية عن قلبك فحتى يكون القرآن لك هدًى عليك أن تزيل حُجُب الكِبْر لتكون لأنوار الحق متلقيًا ولندائه ملبيًا، وإنما يكون القرآن هداية لمن اتصف بالتقوى و(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)[البقرة:3].
ونبيّن في هذه الخطبةِ أثرَ الإيمانِ بالغيب على أمن المجتمعِ: إنَّ خشيةَ الله بالغيب -أيها الإخوة- علامةُ الإيمان الصادق، فمن ذكَر الله خاليًا ففاضت عيناه من الدمع كان في ظل العرش، ومَن وقَّر أمرَ الله وهو خالٍ بينه وبين نفسه فذلك علامة صدق الإيمان، ومن منع بصره من الحرام؛ حيث لا يراه الناس فهو مُعظِّم لأمرِ الله، ومَن امتنَع عن أكل مال الحرام، فهو مُوقِّر لحرمات الله، والقاضي الذي يتورّع عن الرشوة رجاء الجزاء من الله فينتصر لفقير مظلوم، فإنها من تقوى القلوب، هؤلاء من الذين نرجو أن يكون القرآن لهم هدًى.
يروى عن أحد مدراء الأمن العام العرب (اللواء نصوح محيي الدين وكان مديرًا للأمن العام في المملكة الأردنية الهاشمية عام 1997م): أن رجلاً فقدَ حقيبةً بداخلها آلاف الدنانير، وجاء يُبَلِّغُ عنها أجهزةَ الأمن العام، كانَ في حالةِ ذهولٍ، وبعد فترةٍ وجيزةٍ وإذا بامرأة تُسلِّمُ الحقيبةَ وبداخلها المبلغُ كاملٌ للأمن العام، تلك المرأة لم تكن تسكن في قصرٍ ولا بيت منيف، بل كانت تسكن في غرفةٍ واحدة هي وزوجها، ومثلُ هذا المبلغِ تسيل له مطامعُ البشر، لكنها لا ترضى أن تعمِّر دنياها بما يفسد آخرتها، بل هي توقن أن الدنيا لا تُعَمَّر بمال حرام، اتصلت المديريةُ بالرجل، وجاءته رسلُ الأمن العام بالبشرى، فلما سكَنَ عنه الروعُ، واطمأن إلى ماله كاملاً غيرَ منقوص، قال له المدير: هل تحبُّ أن تقدم مكافأة لهذه المرأة، فأبى، عندها عرض المديرُ على تلك المرأة أن يقدم لها المكافأة من مخصصات الأمن العام؛ وهي المرأة الأمينةُ الفقيرةُ، فأبَتْ، قال لها المدير: فكري مرةً أخرى.
في اليوم التالي اتصلت تلك المرأة وطلبت المقابلة، فلما حضرت قالت: أنا لم آتِ لآخذ المبلغ؛ ولماذا حضرت إذن؟ قالت: أريد "كرتًا" منك لَعلِّي أحتاجك في يوم من الأيام، إن كان لي حقٌّ أنصفتني بما عندك من جاهٍ وما تملك من سلطةٍ، فأعطاها كرته ورقم تلفونه الخاص، وبعد أشهر اتصلت تلك المرأةُ تطلب من وعَدَها بالمساعدة لحاجةٍ لها، قالت: أني أريد الذهاب للحج أنا وزوجي، ونريدُ مساعدتك لأخذ الفيزا "تأشيرة الدخول"، فهذه مكافأتنا إن كتب الله لنا. وكان لها ما أرادت.
هذه القصة نموذج يوضَّحُ كيفَ تصبحُ الحياةُ أنيسةَ في ظلال الإيمان، وكيف يصبح الفقرُ غنًى عند الاستغناء بالله، وكيف يصبح الغنى فقرًا؛ عند الاتكال على الدنيا.
يقول ابن عطاء الله السكندري: "إلهي ماذا وجد مَن فقَدك؟! وماذا فقَد مَن وجدك"؟!
حين نربّي الأمة على القيم الإيمانية يشيع الأمن (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ)[الأنعام:82]، ومن هنا نقول: إنَّ حِفْظ أمن المجتمع يكون بحفظ أخلاقه التي تُشَكِّل ضمانةً لعدم الانحراف، أما علبُ الليل ودورُ المجون، وترويجُ المخدراتِ والخمورِ فكل ذلك تعد محاضنَ للجريمة وتشكل عبئًا على أمن المجتمع.
علينا أن نذكر بأننا موقفون بين يدي الله، وسيسألنا عن ما فعلنا لإصلاح المجتمع: كما في الحديث: عن عدي بن حاتم قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ؛ فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ" قَالَ الْأَعْمَشُ: وَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ عَنْ خَيْثَمَةَ مِثْلَهُ وَزَادَ فِيهِ: "وَلَوْ بِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ"(رواه البخاري: 7512).
يا أهل الجمعة: إن ضعف القيم الإيمانية هو الذي يؤدّي للإجرام وترويع الآمنين؛ فأكلُ أموالِ الأيتامِ، والعبثُ بأطعمةِ الناس، وتسويقُ الأغذيةِ الفاسدة، والأدويةِ المتجاوزة لفترة الصلاحية، مما ينتشر في عالم الاقتصاد اليوم، في ظل انتشار قيم عالم السوق والربح السريع، مردُّ كل ذلك ضعفُ الإيمان، وغيابُ التقوى. ومن هنا نؤكّد أنَّ حفظ الإيمان هو صِمامُ أمانِ المجتمع، وقد نبَّه إلى ذلك قوله -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)[الأعراف:96]، وقوله -سبحانه-: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا)[الكهف:59].
إنَّ نَيْل بركات السماء والأرض لا تكون على أساس إيمان غيبي لا صلة له بالواقع، وهو ما يعرف بالمفهوم الميتافيزيقي، بل تقوم على أسس علمية مرتبطة بالإصلاحِ الإداري والقضائي، وتحقيقِ مبدأ المساءلة والرقابةِ وتجاوزِ المحسوبيات، وهي أسس الإصلاح الإداري كما بينتُ.
ومن هنا يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مؤكدًا شمول مبدأ الرقابة حين تشفع أسامة بن زيد في امرأة من أشراف العرب كانت قد سَرقت؛ فقال: "أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ فَقَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا"(أخرجه مسلم:1688).
ويقول -عليه الصلاة والسلام: "إنه لا قُدِّسَت أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقّه غير مُتَعْتَعٍ"، ومناسبة الحديث ما رواه أَبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَقَاضَاهُ دَيْنًا كَانَ عَلَيْهِ، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ لَهُ: أُحَرِّجُ عَلَيْكَ إِلَّا قَضَيْتَنِي، فَانْتَهَرَهُ أَصْحَابُهُ، وَقَالُوا: وَيْحَكَ تَدْرِي مَنْ تُكَلِّمُ؟ قَالَ: إِنِّي أَطْلُبُ حَقِّي؛ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "هَلَّا مَعَ صَاحِبِ الْحَقِّ كُنْتُمْ"، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى خَوْلَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَقَالَ لَهَا: إِنْ كَانَ عِنْدَكِ تَمْرٌ فَأَقْرِضِينَا حَتَّى يَأْتِيَنَا تَمْرُنَا فَنَقْضِيَكِ، فَقَالَتْ: نَعَمْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَأَقْرَضَتْهُ، فَقَضَى الْأَعْرَابِيَّ وَأَطْعَمَهُ، فَقَالَ: أَوْفَيْتَ أَوْفَى اللَّهُ لَكَ. فَقَالَ: "أُولَئِكَ خِيَارُ النَّاسِ؛ إِنَّهُ لَا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لَا يَأْخُذُ الضَّعِيفُ فِيهَا حَقَّهُ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ" (رواه ابن ماجه:2426). ومعنى "متعتع" كما في لسان العرب: أي يخاف سوء العاقبة.
والحديث يدل على أن نَيْل البركة المُعَبَّر عنها بالقداسة مرتبط بإصلاح قضائي يؤدّي لسهولة الإجراءات وسرعة التقاضي حتى ينال الضعيف حقه دون خوف من سوء العاقبة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي لكم؛ فاستغفروه وتوبوا إليه.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي