والاستغفار هو التوبة، وهو العزم على عدم الفعل، والندم على ما فرَّط في جنب الله. وللتوبة أركان: الندم على ما قدَّم، والعزم على ألا يعود، وترك ما هو عليه من المعاصي، وإن كان هناك حقوق للبشر أعادها إليهم.
إنَّ الحمدَ لله؛ نحمدُه وَنستَعِينُه ونسْتغْفِرُه، ونعوذُ باللهِ من شُرُورِ أنفُسِنا وسَيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يَهْدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، ومَن سَار على نهجِه، واقْتَفَى أثرَه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
عباد الله: أخرج البخاري في صحيحه عن شداد بن أوس -رضيَ الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي؛ فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ. قَالَ: وَمَنْ قَالَهَا مِنْ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنْ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ"(صحيح البخاري: 6306).
يكشف هذا الحديث الشريف عن المفاهيم الإيمانية التالية:
أولاً: يبدأ الحديث بتجديد مفهوم الإيمان وتأكيده من خلال قول المستغفر: "اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ".
إن هذا الحديث يُرمِّم ويعالج الأضرار الناشئة عن المعصية؛ فكأن العاصي قد ارتكب حادث سير، ثم أرسل سيارته للتصليح؛ فيبدأ المصلح بمعالجةٍ لآثار الضرر على جسم السيارة.
وكذلك هذا الحديث يعالج آثار الضرر على المفاهيم الإيمانية؛ فيبدأ بتجديد مفهوم الإيمان: "اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ"، ثم إعلان العبودية لله -تعالى-: "خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ"؛ فلماذا يجدِّد المستغفر إعلان التوحيد والعبودية؟
يا أهل الجمعة: يقول الرسول -عليه الصلاة والسلام-: "لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ"(مسلم: 170)، وأقول: كأنَّ الذي ارتكب المعصية خدَش إيمانَه؛ بما استدعى تجديد العهدِ مع الله -جَلَّت قُدرته-؛ فإبليس طُرِدَ من رحمة الله بمعصيةٍ، وآدم ارتكب معصيةً وقَبِلَ الله توبته؛ فما الفرق بين المعصيتين؟
أما إبليس فكانت معصيته عن استكبار وتَعَالٍ على أمر العظيم الجبار، اسمع قوله -تعالى-: (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ)[ص: 75 – 77]، وفي سورة الأعراف: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِين)[الأعراف:12-13].
أما في حقّ أبينا آدم -عيه السلام- فنجد أن المعصية بالأكل من الشجرة التي نهاهما الله -تعالى- عنها بقوله: (وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ)[الأعراف:19]، كانت من غير إصرار، ولا استكبار اسمع قوله -تعالى-: (وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ * قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الأعراف:22-23].
هنا نجد موقف آدم موقف المنيب المستغفر؛ (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)[البقرة:37]؛ إن سبب طرد إبليس من الرحمة وقبول التوبة من آدم هو الاستكبار عند إبليس والإنابة في حق آدم.
ومن هنا جاء حديث سيد الاستغفار يجدّد مفهوم العبودية لله؛ تطهيرًا للقلب من الاستكبار على أمر الخلاق.
أما المقطع الثاني من الحديث فهو توجه إلى الله -تعالى- بالوقاية من شر المعصية: "أعوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ"؛ إنَّ من شأن الإنسان أن يتحكّم بدوافعه على ضوء معرفته للنتائج، وتوضيح ذلك في قصة السُّدِّي وعمر بن عبد العزيز: "لما تولَّى عمرُ الخلافة دخل عليه سالم السّدي؛ فقال عمر: إني خائف. قال السّدي: أخاف عليك ألا تخاف. قال: عظني. قال: أبونا آدم خرج من الجنة بمعصية واحدة"(مروج الذهب 3/184).
يا أهل الجمعة: إن المعاصي تجلب المآسي، من ذلك ما ذكره القرآن: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ)[النحل:112]، وتكرر هذا المعنى حتى استقر قاعدة اجتماعية (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً)[الكهف:59]، وفي الحديث: "وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ"(سنن ابن ماجه: 4022).
ثم يتابع الحديث: "أبُوء لك بنعمتك عليَّ": وهو مفهومٌ متّصل بتوحيد الربوبية، وأن ما بكم من نعمة فمن الله؛ ولذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتبرّأ من حَوله وقوته إلى حول الله وقوته؛ ليقينه بأنه لا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم ينتهي الدعاء بالتوجه بالاستغفار "فَاغْفِرْ لِي"، والاستغفار هو التوبة، وهو العزم على عدم الفعل، والندم على ما فرَّط في جنب الله.
وللتوبة أركان: الندم على ما قدَّم، والعزم على ألا يعود، وترك ما هو عليه من المعاصي، وإن كان هناك حقوق للبشر أعادها إليهم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي لكم؛ فاستغفروه وتوبوا إليه.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي